يعد قطاع الاقتصاد أحد القطاعات المهمة لكل دولة، حيث تسعى هذه الدول لتطوير اقتصادها من خلال وضع خطط إستراتيجية للتنمية الاقتصادية التي تستجيب للطلب المحلي والعالمي. 

إن التحولات الطارئة على تسيير الاقتصاد يمكن ترجمتها بواسطة العديد من العمليات، من خلال إدخال مهارات الابتكار والإبداع، على اعتبار أن الابتكار أصبح القوة المحركة الأولى للتنمية الاقتصادية حيث تعطي هذه الأخيرة ثمارا في التكنولوجيا الفائقة.

"والابتكار في الوقت الحاضر يلعب دورا محوريا في النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وساهم في التحولات الاقتصادية في المجتمعات بحيث اتجهت من الكم إلى الكيف، واقتصاديات الدول المتقدمة هي اقتصاديات ابتكار بالدرجة الأولى، وكما أن الابتكارات أصبحت سمة اقتصاديات الدول المتقدمة، التي أدركت أهمية هذا المفهوم في التقدم الاجتماعي وعملت على إيجاد بيئة داعمة ومشجعة له". (صحيفة مال الاقتصادية، 2014)

إشكالية الدراسة: 

مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، شهد العالم صعود قوة اقتصادية جديدة ألا وهي الصين، فبعد عقود من التجارب التنموية في القطاع الاقتصادي أصبحت الصين أكبر دولة مصدرة في العالم وثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

يعد الانفتاح والإصلاح الاقتصادي الذي حدث في الصين أحد مؤشرات نجاح التجربة التنموية حيث أصبحت المنافس القوي اقتصاديا في العالم، ولم تكتف الصين بهذه الإصلاحات حيث حاولت جاهدة ابتكار وسائل وتقنيات جديدة من أجل تطوير البنى التحتية، واستخدام تقنيات وإدارة جديدة، وجذبت الصين رؤوس أموال أجنبية معتبرة سمحت لها بخلق قدرات إنتاجية جديدة في مختلف القطاعات خاصة القطاع الاقتصادي.

نُحاول من خلال هذه الدراسة رصد مختلف الابتكارات التي انتهجتها الصين لتطوير اقتصادها بهدف أن تصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم متفوقة بذلك على الولايات المتحدة الأمريكية.

1- الاقتصاد الصيني:

في بداية القرن الواحد والعشرين ظهرت الصين كقوة اقتصادية كبرى على المسرح الدولي، ففي عام 2006 أصبحت رابع دولة اقتصادية في العالم في مستوى الناتج المحلي الإجمالي، وثالث دولة تجارية. (فرانسوا لوموان، 2010، ص16).

أصبحت الصين في الوقت الحاضر ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر دولة صناعية وتجارية، وأكبر دولة في احتياطي العملات الأجنبية في العالم، فضلا عن تجاوز معدل مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي ب30 بالمئة لمدة سنوات على التوالي، لتكون بذلك الصين قوة رئيسية ومصدرا هاما في دفع نمو الاقتصاد العالمي، وقد أثبتت الحقائق أن تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح علامة شديدة الأهمية في تاريخ الصين المعاصرة، الأمر الذي حقق تحولا عظيما من الانغلاق الكامل لشبه الانغلاق ثم إلى الانفتاح على نحو شامل. (أحمد فاروق عباس، 2019، ص06)

2- الابتكار يُغير الاقتصاد الصيني:

وضعت الصين في عام 2015 خطة شاملة للتنمية المستقبلية تقوم على الابتكار والتناغم والتنمية الخضراء والانفتاح والتشارك. وتبذل جهودا في تعزيز الاختراقات التكنولوجية في جميع القطاعات من أجل بناء مجتمع مبتكر رقمي وذكي، مثلا الرحلات الفضائية المأهولة واستكشاف القمر وتلسكوب الكرة الدائرية (فاست) الذي يبلغ قطره 500 متر والغواصة المأهولة وأسرع حاسوب عملاق في العالم. في عام 2016 تجاوز عدد طلبات براءات الاختراع مليونا وثلاثمائة وثلاثين ألف، وهو ضعف العدد في عام 2012، وحافظت الصين على المركز الأول عالميا للعام السادس على التوالي.

وفي هذا السياق، برز الاقتصاد الجديد بما في ذلك الصناعات الجديدة والأعمال التجارية الجديدة وأساليب الأعمال الجديدة، فشهد الاقتصاد الرقمي واقتصاد الشبكة واقتصاد المنصة والاقتصاد التشاركي تطورا سريعا.

وسعت السياسات الداعمة للابتكار توسيع نطاق تواجدها من مجالات التكنولوجيا الفائقة إلى كل الاقتصاد الحقيقي، وللمرة الأولى في عام 2015 بلغت المضاعفة لقطاع صناعة الخدمات ما يعادل نصف الاقتصاد الوطني وارتفعت النسبة إلى 51,6 في عام 2016. (شنغ تشاو شيون، 2018)

أصدرت المنظمة العالمية للملكية الفكرية "ويبو" بالاشتراك مع جامعة كورنيل وإنسياد، مؤشر الابتكار العالمي لعام 2020 وواصلت الصين الحفاظ على ترتيبها العام الذي جاء في المرتبة 14 على المستوى العالمي، والمرتبة الأولى بين الدول ذات الدخل المتوسط والمرتفع. وأظهر المؤشر أن الصين تمتلك إثنين من أفضل خمس مجموعات علمية وتكنولوجية عالمية باعتبارها تحتل المرتبة ال14، وهي الاقتصاد الوحيد متوسط الدخل في قائمة أفضل 30 اقتصادا في مؤشر الابتكار العالمي.

ولا شك أن عقودا من النمو الاقتصادي السريع في الصين، مكنت الدولة والشركات الخاصة من الاستثمار في المجالات الرئيسية التي تدفع بالابتكار تحديدا في البحث والتطوير، وتمكنت الصين بفضل هذا من تحسين موقعها في مؤشر الابتكار العالمي والتنافس مع الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة والسويد. 

وتوضح الأرقام مدى اهتمام الصين بالبحث والتطوير باعتبارها العمود الفقري للابتكار، حيث ارتفع الإنفاق كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 0,72 في المائة في عام 1991 إلى 2,13 في المائة في عام 2017، ليواصل الارتفاع في الأعوام التالية، ويصل إلى 2,23 في المائة من الناتج المحلي العام الماضي، وعلى الرغم من أن هذا أقل من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 2,37 في المائة، فإن الحجم الهائل للاقتصاد الصيني يعني أن الإنفاق على البحث والتطوير بلغ الآن 321,3 مليار أمريكي عام 2019، بزيادة 12 من المائة في عام 2018. (هشام محمود، 2020)

3- كورونا يُعجل "بانقلاب اقتصادي":

في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2020، وعندما كان فيروس كورونا المستجد متفشيا في الصين، انكمش اقتصاد البلاد حينذاك للمرة الأولى منذ تسعينيات القرن الماضي، وظن الكثيرون أن التنين الآسيوي تنتظره أيام صعبة، لكن ما حدث هو أن الاقتصاد الصيني عاد للنمو فيما غرقت بقية اقتصادات العالم في دوامة الانكماش. وخلال الربع الثالث من سنة 2020 نما الاقتصاد الصيني بنحو 4,9 بالمئة، وصحيح أن هذه الأرقام قد جاءت أقل بقليل من توقعات المحللين، إلا أن مسيرة النمو التي بدأها اقتصاد الصين في الربع الثاني مستمرة وتَوقع صندوق النقد الدولي مؤخرا نمو الاقتصاد الصيني بنحو 1,9 بالمئة خلال 2020 فيما سينكمش الاقتصاد العالمي خلال العام ذاته بنحو 4,4 بالمئة وسيطال هذا الانكماش جميع الاقتصادات الرئيسية بلا استثناء بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان. 

عوامل متعددة وراء التعافي:

إن تعافي الاقتصاد الصيني يمكن تفسيره بجانبين: 

  • الجانب الأول يتعلق بنجاح الحكومة في احتواء الفيروس خلال فترة قصيرة من خلال اتباع إجراءات إغلاق صارمة وسياسات حدّت من انتشار الفيروس وساعدت على تسريع العودة للحياة الطبيعية. 
  • الجانب الثاني يتعلق بسياسات التحفيز الاقتصادي،التي لجأت إليها الحكومة الصينية إن كان على مستوى السياسات النقدية التي قام بها البنك المركزي من خفض للفائدة وغيرها، أو من خلال السياسات المالية التي تضمنت زيادة الإنفاق على مشاريع البنى التحتية ودعم الأعمال. 
مصنع العالم يستمر بالعمل:

هيكل الاقتصاد لعب دورا كبيرا في تسريع تعافي الاقتصاد الصيني، فتطبيق التباعد الاجتماعي في المصانع أسهل بكثير من تطبيقه في قطاع الخدمات كالمطاعم والمقاهي وبما أن الصين موطن أكبر عدد من المصابين في العالم وتشكل لوحدها 28 بالمئة من الإنتاج الصناعي العالمي فمن الطبيعي أن تتعافى أسرع من الاقتصادات الخدمية.

وفي الوقت ذاته استفادت الصين من زيادة الطلب على المنتجات الطبية والوقائية المرتبطة بكورونا وكذلك على المنتجات التكنولوجية التي تزايد الطلب عليها خلال فترة الحجر والعمل في المنزل. 

ونتيجة لذلك قفزت صادرات الصين بالربع الثالث بنحو 10 بالمئة متجاوزة 743 مليار دولار من دعم الاقتصاد. (محمود الرفاعي، 2020)

تعكف الصين على تأسيس جبهة جديدة في مجال التنمية الاقتصادية العالمية. فالفصل الجديد في تخطيطها لتنمية الدول الأخرى يبزغ من خلال موجة تمويل مشروع بنى تحتية جبار يطلق عليه اسم "مبادرة الحزام والطريق"، تهدف هذه المبادرة التي يطلق عليها أيضا اسم "طريق الحرير" إلى ربط نصف سكان الأرض تقريبا ببعضهم البعض، ودمج خُمس الناتج الوطني الإجمالي العالمي من خلال تأسيس ارتباطات تجارية واستثمارية تمتد إلى كل زوايا الكرة الأرضية. (فرجينيا هاريسون ودانييل بالمبو، 2019)