أفطال علينا الأمد فقست القلوب، وانشغل كل امرئ بأمره، وانفضت جموع المناهضين وخمدت دعوات المتألمين. هل فقد الإحساس لكثرة المساس، كل يوم، بل كل لحظة قائمة جديدة من الشهداء من الرضع والنساء والشيوخ. هل كثرة ذكر الموت والموتى سبب للغفلة أم لليقظة يا قوم؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هادم اللذات الموت"؟ فلئن كان مجرد ذكر الموت يهدم لذات الدنيا الفانية الخادعة، فكيف برؤيته ومشاهدته عيانا؟ بل كيف وسببه قتل وتقتيل؟

هذه آيات موقظة للعباد، مذكرة بحال سلفهم الصالح، وكيف كانوا عند نزول البأس بهم، يقول الله تعالى: " {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل عمران: 146 - 148]

 لا وهن ولا ضعف ولا استكانة

تلك آيات بينات مؤنسات، تشد من عزم من تقاعس منا معشر المسلمين في نصرة الدين وأهله. جاء في قراءة أخرى لهذه الآية فعل "قاتل" بالبناء للمجهول أي "قُتل"، وهي قراءة صريحة في كثرة القتل الذي لحق الصالحين من أتباع النبيين ممن قبلنا، فنحن بذلك لسنا بدعا من الأمم، نعم يحزننا قتل إخواننا ولكن ذلك لا يقنطنا من رحمة ربنا، ولا يحملنا على التسخط على أقداره وقضائه، بل هي الشهادة لنا باستحقاق الوراثة والشهادة على الأمم إن صدقت نياتنا وعزيمتنا.

فهل كان ذلك القتل الكثير للربانيين من أتباع الأنبياء سببا لضعفهم واستسلامهم وانقطاع رجائهم في نصر ربهم؟ تجيب الآية عن ذلك بالنفي والإبعاد أن يكون ذلك صنيع هؤلاء العباد: " فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"، فيا أسيادنا المقاومين، ويا أهلنا المرابطين الصابرين، ويا معشر المسلمين المهتمين لمصاب إخوانهم، هذا شفاء الصدور ووقود عزائم الأمور إذا اشتد البلاء، لا وهن يصيب القلوب، ولا ضعف يتسلل للأبدان والجسوم، ولا مذلة ولا استسلام للخصوم مهما عتوا وتجبروا وأفسدوا. ومن لطائف هذه الآية، كما قال الطاهر بن عاشور في تفسيره لها، هذا الترتيب في الذكر على حسب الترتيب في الحصول: فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعته المذلة والخضوع للعدو.

وهذا مشهد لصحابي من المهاجرين وهو سالم مولى أبي حذيفة يجسد لنا معاني هذه الآية، فإنه لما رأى يمناه تبتر، وذلك في حروب الردة زمن خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها إلى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة: (وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين). وقد اكرمنا الله بهذا الطوفان الذي أعاد لنا مشاهد الشجاعة والبسالة لأولائك الأوائل.

قولوا حُسنا

فإذا بلغ الأمر ما بلغ، كما هو حال أهلنا المستضعفين، فلا ينبغي أن نُسمع ربنا ما لا يرضاه من القول، بل ليس لنا إلا الضراعة والافتقار والاستغفار، وتدبروا قوله تعالى: "وما كان قولهم" فهذا حصر لأقوالهم فليس لهم إلا قول واحد يدل على صدق قلوب ألائك الربانيين وصدق من سلك سبيلهم من أهل اليقين، ثم تجلي لنا الآية ذلك القول الصادق: " إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ". نعم كل دعاء نافع، ولكن الدعاء المفضل يكون بالمأثور لبلاغته وجمعه معاني كثيرة قد لا يدركها الإنسان، مثل دعاء الرّبيين المذكور. وتأملوا هذا الدعاء فكأن هؤلاء الصالحين –كما يقول ابن عاشور- شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئا عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر.

فهذا دعاء المرحلة معشر المسلمين، ألظوا به واملأوا به سجداتكم ومجالسكم وغالب أحوالكم.

وقريب من هذا الدعاء قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني» (صحيح مسلم).

البشرى الكبرى

ثم اختتم الله تعالى الآية بالبشرى الكبرى، جائزة الثبات والصبر والدعاء فقال سبحانه: " فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"

فالثواب موعود لأهل الثبات، والله لا يخلف الميعاد. فلا تحدثني عن يأس بعد هذا، ولا عن تسخط أو عدم الرضا بعاجل الأمور، فإنما هو تمحيص وميز للخبيث من الطيب، ثم بعده دحر للعدو واستئصال لفساده وعدوانه على أولياء الله وعباده.

ففي هذه الآية –كما يقول الزحيلي في تفسيره- تربية لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم-وتربية أيضا لخلفهم- ولفت نظر إلى أنهم أولى بهذا كله، وما عليهم إلا الاعتبار بأحوال أولئك الرّبيين، والصبر على الأعداء كما صبروا، والاقتداء بأعمالهم الصالحة والقول مثلهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة.