إن «الحوكمة الرشيدة» أصبحت متطلبا أساسيا من متطلبات النهضة الحضارية وتنمية أدوات التقدم للإنسانية ممثلة بالشركات والمؤسسات والمنظمات، لقد أصبحت الحوكمة مصطلحًا مُهمًا جدا في قاموس الأعمال العالمي، ولد من رحم الأزمات في سوق المال العالمي وترعرع في خضم أحداث غير مستقرة للشركات، وتنامى ليفرض نفسه كنظام رقابي ومبدأ أساسي من مبادئ الأعمال، وتواجد من أجل دحض الشكوك حول مصداقية وشفافية البيانات الصادرة عن الشركات والمؤسسات الفعلية العاملة والفاعلة والتي تسعى من أجل الربح والاستمرارية والبقاء، ومدى إمكانية الاعتماد عليها بصفة خاصة في اتخاذ أي قرار، أو التعويل على المعلومات المنشورة بصفة عامة، وصدقها في التعبير عن حقيقة أوضاعها، وفي ضوء ما سبق نتناول في هذا التقرير الحوكمة الرشيدة من خلال نشوئها ومفهومها ومبرراتها.
نشوء فكرة الحوكمة وتطورها
ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺣﻮﻛﻤﺔ اﻟﺸﺮﻛﺎت ﻫﻮ ترجمة ﻟﻠﻜﻠﻤـﺔ الإنجليزية (Corporate gouvernance)، وتعني ممارسة اﻟﺴــﻠﻄﺎت ﻟــﻺدارة اﻟﺮﺷــﻴﺪة، وﺗﻌــﻮد ﺟــﺬور اﻟﻜﻠﻤــﺔ إلى ﻣﻔﻬــﻮم الحكم اﻟﺮاﺷــﺪ، وﻗــﺪ ﻇﻬــﺮ هذا المصطلح ﻷول ﻣﺮة في اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن 13 ميلادي، ﻛﻤـﺮادف لمصطلح الحكومة إذ اﻧﺘﻘـﻞ ﻣـﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳـﺔ وإدارة اﻟﺪوﻟـﺔ إلى اﻟﺸﺮﻛﺎت ﻓﺄﺻﺒﺢ الحديث ﻋﻦ ﺣﻮﻛﻤﺔ اﻟﺸـﺮﻛﺎت ﻣـﻦ أﺟـﻞ ﻛﻔـﺎءة اﻗﺘﺼـﺎدﻳﺔ ﻋﻠﻴـﺎ، ومعالجة المشكلات الناتجة ﻋﻦ الممارسات الخاطئة ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻹدارة الخاصة ﺑﺎﻟﺸﺮﻛﺎت والمراجعين الخارجيين والداخليين أو ﻣـﻦ ﻗﺒـﻞ ﺗـﺪﺧﻞ مجلس اﻹدارة بما ﻳﻌﻮق اﻧﻄﻼق ﻫﺬﻩ اﻟﺸﺮﻛﺎت. [1]
إذن فالحوكمة أو حوكمة الشركات (Corporate gouvernance) هي عبارة عن مصطلح تمت مقاربة ترجمته من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية وليس معناه الفعلي، ولكنه الأكثر استخداماً وتم البدء في استخدامه مع بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وازداد استخدام هذا المصطلح بشكل واسع ومتسارع في السنوات الأخيرة منه، وأصبح شائع الاستخدام من قبل الخبراء، لاسيما أولئك العاملون في المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية.
يشير (سليمان) إلى إن ظهور نظرية الوكالة( *[2] Agency Theory ) وما ارتبط بها من إلقاء الضوء على المشكلات التي تنشأ نتيجة تضارب المصالح بين أعضاء مجالس إدارة الشركات وبين المالكين والمساهمين إلى زيادة الاهتمام والتفكير في ضرورة وجود مجموعة من القوانين واللوائح التي تعمل على حماية مصالح المساهمين والملاك والحد من التلاعب المالي والإداري الذي قد يقوم به أعضاء مجالس الإدارة والإدارات التنفيذية بهدف تعظيم مصالحهم الخاصة ، وذلك باعتبارهم الجهة التي تمسك بزمام الأمور داخل الشركة.
نظرية الوكالة Agency theory
أما عن جذور فكرة حوكمة الشركات فيشير (أبو العطا)[3] أنها تعود إلى Berle&Means اللذين يعدان أول من تناولا موضوع فصل الملكية عن الإدارة، وذلك في سنة 1932 وتأتي حوكمة الشركات لسد الفجوة التي يمكن أن تحدث بين مديري ومالكي الشركة من جراء الممارسات السلبية التي من الممكن أن تضر بالشركة وبالصناعة كلها، وفي هذا السياق يأتي تأكيد Mitchel و Monks & Minow بعد فترة من الزمن على إمكانية حل مشكلات الوكالة أو تخفيفها، وذلك من خلال التطبيق الجيد لآليات حوكمة الشركات.
وقد أكدت العديد من الدراسات على أهمية الالتزام بمبادئ حوكمة الشركات وأثرها في زيادة ثقة المستثمرين في أعضاء مجالس إدارة الشركات، وبالتالي قدرة الدول على جذب مستثمرين محليين أو أجانب، وما يترتب على ذلك من تنمية اقتصادات تلك الدول.
وصاحب ذلك قيام العديد من دول العالم والمنظمات الدولية بالاهتمام بمفهوم حوكمة الشركات، وذلك من خلال قيام الهيئات العلمية، والجهات التشريعية بإصدار مجموعة من اللوائح والقوانين والتقارير والقواعد التي تؤكد على أهمية التزام الشركات بتطبيق تلك المبادئ.
مفهوم الحوكمة
لاشك أن هناك العديد من المصطلحات في اللغة الإنجليزية نجد لها معنى واضحا ومتفقا عليه إلى حد الإجماع في اللغة العربية، ولكن في مقابل ذلك هناك العديد من المفاهيم التي لا توجد لها ترجمة حرفية في اللغة العربية، تعكس ذات المعنى والدلالات التي تعكسها اللغة الانجليزية، وإن أحد الأمثلة الحية على هذه المفاهيم هو مصطلح (Governance). وعلى المستوى المحلي والإقليمي لم يتم التوصل إلى مرادف متفق عليه في اللغة العربية لهذا المصطلح، كما إن اقتران هذا المصطلح مع كلمة (Corporate) أعطاه أكثر من مدلول.
وفي هذا السياق يذكر (الصالح) أنه وجد خمسة عشر معنى في اللغة العربية لتفسير المصطلح المذكور وهي حوكمة الشركة، و حاكمية الشركة، و حكمانية الشركة، والتحكم المشترك، والتحكم المؤسسي، والإدارة المجتمعة، و ضبط الشركة، و السيطرة على الشركة، والمشاركة الحكومية، وإدارة شؤون الشركة، والشركة الرشيدة، وتوجيه الشركة، والإدارة الحقة للشركة، والحكم الصالح
للشركة، وأسلوب ممارسة سلطة الإدارة. [4]
وتجدر الإشارة بأنه يمكن اعتبار الحوكمة الرشيدة مزيج من مختلف الشرائح، أي أنها توليفة من الإدارة الرشيدة للسوق والحكم الصائب . (Schmidt & Brauer , 2006 : 14) لأصحاب الملكية والرقابة الداخلية بالإضافة الى النظام المالي المستقر، يشير مصطلح الحوكمة إلى الخصائص التالية: [5]
الانضباط: أي إتباع السلوك الأخلاقي المناسب والصحيح.
الشفافية: أي تقديم صورة حقيقية لكل ما يحدث.
الاستقلالية: أي لا توجد تأثيرات وضغوط غير لازمة للعمل.
المساءلة: أي إمكان تقييم وتقدير أعمال مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية.
المسؤولية: أي وجود مسؤولية أمام جميع الأطراف ذوي المصلحة في المؤسسة أو الشركة.
العدالة: أي يجب احترام حقوق مختلف المجموعات أصحاب المصلحة في المؤسسة أو الشركة.
المسؤولية الاجتماعية: أي النظر إلى المؤسسة والمنظمة والشركة كمواطن جديد.
وقد تعددت التعاريف المقدمة لهذا المصطلح بحيث يدل كل منها عن وجهة النظر التي يتبناها مقدم هذا التعريف، إذ لا يوجد على المستوى العالمي تعريف موحد متفق عليه بين المحاسبين والإداريين والقانونيين والمحللين الماليين لمفهوم حوكمة الشركات. [6]
تقع التعاريف الموجودة لحوكمة الشركات في إطار طيف واسع من المضامين، إذ تتباين التعاريف من تلك التي تعبر عن وجهة نظر ضيقة في طرف من أطرافه إلى التعاريف التي تنطلق لتعبر عن وجهات نظر أوسع نطاقا وأكثر شمولا في الطرف الآخر منه وهي :
يعرف (Hitt et al) حوكمة الشركات بأنها " تمثل العلاقات بين أصحاب المصالح، والتي تستخدم لتحديد الاتجاه الاستراتيجي للشركة والرقابة على أدائها، وأن الحوكمة في جوهرها تهتم بتحديد طرق لضمان اتخاذ القرارات الاستراتيجية في الشركة بشكل فعال[7]. وللتأكيد يقع على أصحاب المصالح دورُ الإشراف على المخاطر وإدارتها في الشركة.
ويعرف كل من (Hermanson و Rittenberg) حوكمة الشركات بأنها "عمليات تتم من خلال إجراءات تتخذ من قبل أصحاب المصالح لتوفير إشراف على المخاطر وإدارتها من خلال الإدارة ومراقبة مخاطر المنظمة والتأكيد على كفاية الضوابط الرقابية لتجنب هذه المخاطر، مما يؤدي إلى المساهمة المباشرة في إنجاز أهداف الشركة وحفظ قيمتها، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أداء أنشطة الحوكمة يكون من مسؤولية أصحاب المصالح فيها، لتحقيق فعالية رعاية العهدة Stewardship" [8]
وقد عرفتها مبادرة Berlin بأنها "المجموعة الكاملة من الترتيبات التشريعية والمؤسسية التي تحدد الإطار التنظيمي الواقعي والقانوني لإدارة الشركة والإشراف عليها " [9].
وفي تعريف Sir Adrian Cadbury ، الذي عرفها بأنها " تعنى بإقامة التوازن بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، و بين الأهداف الفردية والجماعية، وإن إطار حوكمة الشركات هنا لتشجيع الاستخدام الكفء للموارد وطلب المساءلة عن الوصايا عليها، وإن الهدف هو الربط قدر الإمكان لمصالح الأفراد والشركات والمجتمع كله." [10]