لا شك أن شهر رمضان هو شهر الاستزادة في الطاعات والعبادات، على نحو ما سنتحدث عنه في السلسلة القصيرة الأولى عن: " أفضل الطاعات في رمضان" وأهمها الصيام والقيام. غير أن ثمة ما يجعل الإنسان يبلغ درجة الصائم القائم دون صيام ولا قيام، وهي الحالة السويّة التي يكون عليها في سائر أيامه، في شهر رمضان وغير شهر رمضان، وما جاءت الطاعات والعبادات المخصوصة في الشهر الفضيل إلا للتدريب عليها لتكون سمة لازمة فيه ألا وهي حسن الخلق. روت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).

وكما أن الصيام والقيام يتطلبان مجاهدة النفس وإكراهها حتى يتحولان إلى عادة سلسة تستمر ما تم تعهدها، فكذلك الأخلاق الحسنة تتطلب المجاهدة حتى ترتفع النفس إلى مستوى العلياء فتأنف تلقائيا الانحدار إلى سفسافها، كما تتطلب المحافظةُ على الأخلاق السوية مجاهدةً دائمة من صاحبها لكي لا ينقص رصيدها عند أحوال وأهوال المخالطة.

ولعظمة شأن الأخلاق الحسنة جعلها الله تعالى أعظم ما يثقل الموازين وفق قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)). فهي لذلك أعلى صورة الكمال الإيماني التي يمكن بلوغها على نحو ما يبينه صاحب الخلق العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في الحديث الصحيح:  ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)).
كما أن آثار حسن الخلق تصيب أصحابها في حياتهم الدنيا بعمارة الأرض وبركة الأعمار وفق ما جاء في الحديث الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم:

(( إنَّهُ مَن أُعْطيَ حظَّهُ مِنَ الرِّفقِ، فقَدْ أُعْطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ، وصلةُ الرَّحمِ، وحُسنُ الخُلُقِ وحُسنُ الجِوارِ، يُعمِّرانِ الدِّيارَ، ويَزيدانِ في الأعمارِ)). فعلى أساس شيوع الأخلاق الفاضلة تنهض الجماعات والجمعيات والأحزاب والدول والأمم، وكلما انحطّت الأخلاق وشاع سيئها أذنت المجموعات والتنظيمات والحضارات البشرية بالانهيار مهما بلغ شأنها من قبل.

إن #الأخلاق هي الحال الذي يكون عليه الإنسان وتصرفاته  التي تصدر  عنه تلقائيا دون تفكير تجاه الأوضاع النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها. والمصدر الأصلي لمعرفة حسن وقبح الخلق  هو الفطرة الإنسانية التي فطر الله عليها الإنسان كما جاء في قوله تعالى في سورة الروم:
 
((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)))

 فالإنسان مخلوق على تلك الفطرة ثم يطرأ ما يحرفه عنها وفق قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها)) ثم قرأ أبو هريرة: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾. وكل مخلوق من ولد آدم أودع الله فيه معرفة المنكر من تلقاء نفسه وفق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ   عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ )). 

وأرزاق الأفراد في الأخلاق مقسمة كأرزاقهم في المعاش، ثمة أخلاق فاضلة يهبها الله لبعض عباده جبلّة وبعضها يكسبها الإنسان بالاجتهاد. فقد جاء في الحديث الصحيح  أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لِأَشَجِّ عبدِ القيسِ: (إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ)، فقال: أخُلُقَينِ تَخلَّقتُ بهِما؟ أم خُلُقينِ جُبِلتُ علَيهِما؟ فقال: (بل خُلقَينِ جُبِلتَ عليهما) فقال: الحمدُ للهِ الَّذي جبَلَني على خُلقَينِ يُحِبُّهما اللهُ [ورسولُه]. ولكن في حديث آخر حسن الإسناد: ((إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ ، و إِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، و مَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ ، و مَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ))   

أما المصدر الثاني لتشكل الأخلاق فهي الأعراف والتقاليد والعادات التي تستقر في المجتمعات، حسنها وقبيحها، وهي التي تؤثر في المصدر الأول المتصل بفطرة الإنسان، بإحياء الحسن ودعمه أو تحريفه وبعث القبيح أو إضعافه إطفائه.

 وأما المصدر الثالث فهو الوحي الذي ينزله الله على الأنبياء ليذكر به عباده ما استقر في أنفسهم من إيمان بالله وأخلاق حسنة ويصلح الانحرافات التي تطرأ على النفوس والمجتمعات. ولذلك اختصر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام رسالته بإنه إنما بعث ليكمل النقص الذي طرأ على مكارم الأخلاق في حياة الناس، أي أن تلك الأخلاق مودعة في نفوس كل البشر مهما كانت الانحرافات الدينية والعقائدية والنفسية والاجتماعية التي طرأت عليهم. 

إننا حينما نتأمل في أحوال البشر وتصرفاتهم نجد أن أكثرهم، أو كلهم يقرّ بقبح القبيح من الأخلاق وإن كان يقترفه، وبحسن الحسن من الأخلاق وإن كان لا يتصف به، وقد أردنا في هذه السلسلة الثانية في شهر رمضان أن نذكر بقرابة عشرين خلقا من مكارم الأخلاق المتعارف عليها بين الأمم والتي جاء ديننا الإسلامي لإعلائها، والتي نسأل الله تعالى أن يجعل صيامنا وقيامنا وسائر عباداتنا في هذا الشهر الكريم فرصة لنا جميعا لتجديدها في أنفسنا وإعلاء شأنها بيننا.