إن قراءة القرآن تختلف عن حفظه، كما أن قراءته بتدبر وفهم يكمن اختلاف آخر، تلك هي ثلاثية تعاملنا مع القرآن، فهو يمرن عضلات اللسان اللغوية، أو يُمَتِع بقصصه العبقرية، أو يُقيم لسانا لئلَّا يميل ويعوج، لكن هُناك من يتعامل معه على أنه كتاب بينما هو ليس كالكتب! وكيف يكون مثلها؟ وهو روح لا كتاب، روح تنزلت من العلياء ليحيا بفحواها ومعانيها الإنسان الحياة الطيبة الراقية الراشدة، وبها تُعمر الأرض وفق مراد ومبتغى رب السموات والأرض.
هو روح لأن (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [الآية2، سورة النحل]، القرآن في حد ذاته عظيم وجليل، وكل آياته عظيمة وجليلة وبها نقيِّم ونقم أفعالنا وأنفسنا وعقولنا ونحاكمها من خلاله، لنعرف هل نحن على الصراط المستقيم القويم؟ أم على النقيض من ذلك؟
كل آياته كبرى، لكن أن يقال لنا بالضبط أن هذه الآية من أكبر الآيات فهنا علينا أن نتوقف لنتأمل ونتدبر، لنفهم ونسأل لماذا هي كبرى بالذات؟ لماذا اختصت هذه الآية بهذا النعت لاغيرها؟
وهل وصفها بالكبر له علاقة بعالمنا بما نعيشه بيوميات أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا؟ فهم الآية هو الذي سيمنحنا الإجابة التامة الكاشفة المنيرة.
خاطبنا القرآن الكريم الذي هو كلام الله الموجه لنا بعدة آيات، محذرًا إيانَا من أوزارٍ وأزلالٍ وآثامٍ، لكن هذه الآية بالتحديد ليست كغيرها من الآيات، لأنها نعتت من رب الكون بالآية الكبرى هي ذاتها منفردةً لا سواها من الآيات، لماذا يا ترى؟ وهذه بعض الآيات التي تكلم عنها القرآن (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الآية 21، سورة الروم] (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [الآية 37، سورة فصلت]
هذه آيات عظيمة وجليلة وغيرها من الآيات التي ذكرت في القرآن لكنها لم توصف بأنها كبيرة مع إيماننا القاطع وتصديقنا الجازم بأن كلام الله كله كبير وعظيم وجليل ومنزه، لكن هذا القرآن موجه لنا كمخلوقات لله ونحن مطالبون بتدبره لفهمه، وفهمه يعني تحريكه في واقعنا، وإذا تحرك في واقعنا حدثت الغاية وهي: العمارة التي تعني توحيده بالعبادة وخلافته في كونه على أكمل وأحسن وجه.
(لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) [الآية 23،24، سورة طه] لكي ترى آيات الله الكبرى لا تطلب آيات مادية ولا معنوية، ولا متعلقة بكيفية خلق الإنسان ولا بتعاقب الليل والنهار، إنما الآية الكبرى تتعلق بشي واحد وهو الطغيان، هذه المفردة التي تُنعت من جناب المولى عزّ وجلّ أنها أكبر الآيات "الطغيان" (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ)
لماذا الطغيان هو أكبر الآيات؟ ولماذا لم توصف عبارة بالآية الكبرى سوى الطغيان؟ الطغيان كبيرة من الكبائر لا ريب في ذلك، و ما ينجر عنه لهو من أكبر الدلائل والقواطع. ففيه سلب لأثمن ما يملك الإنسان: الأرواح، والأملاك، والحريات، وذلك من أكثر ما يدلنا على خطيئة الطغيان، فأي معنى للإنسان إن كان منزوع الحرية، مقهور مقتول مظلوم محتقر؟!
يبقى القرآن نبراساً لنا ونوراً منه نقتبس لنفلح في حياتنا وننجو في أخرانا، وصف القرآن الطغيان بالآية الكبرى لهو مفتاح وتنبيه وحل من حلول الأزمة، كما أن اتباع سير نبيه موسى عليه السلام، وقراءة خطواته لحل آخر لمشكلة الطغيان التي يبدو أنها مكتوبة على بني الإنسان كغيرها من المكاتيب.
والآن سنضع نقاط من خلالها نبيّن سبل مواجهة الطغيان من وحي التدبر والتأمل في آيات كتاب الله
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي)، إنّ أول باب من أبواب مواجهة الطغيان باب الربوبية والابتهال؛ أي أن ربك ورب الكون واحد لا شريك له ولا خوف ولا طمع ولا محبة مطلقة إلا له سبحانه، ولا توكل تام إلا عليه، وندرك أن لا نصر إلا منه وبه، وأن نبتهل إليه بين الفينة والأخرى آناء الليل وأطراف النهار، ومناجاته والتذرع إليه خشوعاً؛ ليرزقك بقلب شجاع رابط الجأش مطمئن متوكل لا رهبة فيه إلا ممن خلقه، وليسهل طريقك الوعر؛ لأنه ليس بأي طريق إنما هو أشد وأحلك الطرق "مواجهة الطغيان" أكبر آية من آيات الله!
الباب الثاني باب الكلام "الحجة الكلامية" أن تدعو الله بأن يسدد لسانك، وأن يوفقك ليمكنك من لسان: حجة وبرهنة نافذ لا يُخرج، ولا يتفوه إلا ما يُبهر ويحجج ويوقن، ويشدِّدَّ الأسماع والأنظار والعقول، فقد مكّن المولى عز وجل موسى من ذلك، وأنت يا من على درب موسى وشاكلته ادعو ليمكنك من ذلك، واسعى في امتلاك ذلك؛ أي في أن تصبح ذا لسانٍ محجج مقنع، وذا كلام نافذ إلى موطني السكون واليقين العقل، والقلب، ولك ذلك لو سعيْتَ وتحركتَ من أجل بلوغه خصوصا في زماننا هذا بعد الجهد البشري الذي وفر المعرفة وسهل الوصول إليها.
الباب الثالث هو باب علينا التوقف إزاءهُ توقف قراءة وتفكر؛ لأنه سيُمكننا من معرفة كيفية مواجهة الطغيان، والتي تحتاج إلى جهود متعاضدة متماسكة لا إلى جهد واحد مهما بلغ كماله وقدره، وما طلب موسى أن يكون له سند إلا تقريرا لذلك (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أمري)
ومن التيسير في الأمر أن هذا السند معيّن ومعروف من قِبل موسى عليه السلام، وهذا ما يقودنا إلى أساس من الأسس وهو أن شريك درب مواجهة الطغيان له خصائص ومميزات معينة، وليس أي شخص بإمكانه امتلاك هذه الخصائص؛ إنما هو صاحب الصلاح العام الذي في حوزته من أخلاق وقيم ما يؤهله لخوض ذلك، وليس كل من هب ودب حتى ولو ادعى، فالمحطات مغربلة مفرزة والمسار لعظمته لا يحتمل هؤلاء، وما ينطبق على الشريك الواحد ينطبق على مجموعة مجابهة الطغيان لها هدف مشترك وروح واحدة وأخلاق وقيم واحدة، وإلا لما استطاعت مواجهة الطغيان؛ إنما أهله خواص مخصوصة لذلك الجماعة والسند حتمية لمواجهة الطغيان ومشاركة الأمر الجلل، كما أن هناك متلازمة ملازمة للجماعة المناكفة للطغيان، وأي تفريط لن تحمد عواقبه وهي التحميد والتسبيح؛ أي ذكر الله وإدراك أن المواجهة في سبيل الله لا غير، وبذلك يحصل الفلاح بإذن الله، والتفريط هنا المقصود به: التخلي عن الصراط المستقيم الذي رسمه لنا قرآننا ونبينا الكريم.
الطغيان ابتلاء كغيره من الابتلاءات التي يُبتلى بها الإنسان إلا أنه أشدها؛ لأن القرآن أقرا بذلك من خلال وصف الآية (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) إلا أن الطغيان كالشجرة ذات الفروع، ففروع الطغيان إمام متجبر متسلط ظالم، أو شيخ محتكر متكبر متزمت، أو زوج ظالم، أو مدير متفرد، أو أستاذ قاسي لا يعرف سوى الضرب والتوبيخ طريقا لاكساب العلم والمعرفة، أو رئيس جماعة مريض بالأنا، أو رئيس شركة يعاني بهذا المرض،.. إلى آخر فرع من فروع شجرة الطغيان، وسبيلك المواجهة لا غير إلا أن سبيل المواجهة قد يختلف من طاغي إلى آخر الشيء الوحيد الثابت المطالب به أنت (الإنسان) كمستخلف لله في كونه الفسيح هو عدم الاستكانة والركون، والمواجهة خيار حتمي لا غنى لك عنه؛ لأن الطغيان مهما كانت درجته في النهاية مآلاته غير محمودة لا على الأفراد، ولا المجتمع، ولا الأمة، ولا الإنسانية.