الناس عادة ما تدعو إلى أفكارها، وآرائها، ووجهات نظرها، وتحاول أن تحفز الآخرين وتشجعهم على تبني هذه الأفكار، وهذا أمر طبيعي...
لكن هناك قسم من الناس يفشل في إقناع الآخرين بفكرته ووجهة نظره فما السبب في ذلك؟
هل السبب أن الأفكار غير صحيحة، وبالتالي غير مقبولة لدى الناس؟
أم أن الآخرين متعصبون لآرائهم، ووجهات نظرهم، ولا يريدون تغييرها؟
أم أن الأسلوب الذي يستعمل في عرض الأفكار غير مناسب، أو غير مقنع ؟
في هذا المقال سألقي الضوء على عدة أمور ونقاط؛ لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة بإذن الله.
-
نقاط حول الأفكار التي ندعو إليها
دعونا - قبل أي شيء - نقف وقفة مع الأفكار التي ندعو الناس إليها، ونريد منهم قبولها وتبنيها، لنختبر هذه الأفكار بعدة معايير...
1.صوابية الفكرة :
هل الفكرة التي ندعو إليها صحيحة؟
علماً أن معيار صحة الفكرة هو الآتي:
أولاً: أن لا تخالف ثوابت الشرع الحنيف الذي نؤمن به وهو الإسلام.
ثانياً: أن لا تخالف المنطق السليم، والعقل الصحيح.
2.السياق الموضوعي للفكرة:
هل السياق الموضوعي الذي نطرح فيه الفكرة مناسب، ويساعد في قبول الفكرة؟ أم أننا نطرح فكرة صحيحة وجميلة ومميزة في سياق غير مناسب؟
كمن يدعو الناس إلى إظهار الفرحة بنعم الله عز وجل في كلمة يوجهها إلى أهل شهيد!!!
3.السياق الزماني للفكرة :
وفي هذا المعيار نختبر الفكرة من حيث تناسب الزمان والعصر الذي تقال فيه، هل هو مناسب للناس ومزاجهم في تقبل هكذا أفكار؟ أم أن العصر والزمان لا يساعد على تقبل هذه الأفكار ولو كانت صحيحة؟
كمن يتحدث اليوم عن أحكام العبيد والرق وفضل الإعتاق والمكاتبة، في زمان لا عبيد فيه ولا رقيق!
4.الأسلوب الذي تعرض فيه الفكرة :
كم رأينا وسمعنا عن أفكار رائعة وجميلة أعرض عنها الناس ورفضوها بسبب فظاظة أسلوب قائلها و مروجها.
ولا أبالغ إذا قلت إن نسبة 40% أو أكثر من حالات عدم قبول الأفكار يكون بسبب الأسلوب الذي تغلف به وتعرض فيه الأفكار...
ومعيار الأسلوب فيه عدة ملاحظات سأذكر بعضها أو أهمها من خلال النقاط التالية :
قدم الأسلوب وفقدان صلاحيته!
بعض الأساليب فقدت اليوم صلاحيتها بتقدم الزمان وتطور العصر، وهذا يستوجب على دعاة الأفكار مواكبة الأساليب الحديثة والمتطورة حتى يتقبل الناس هذا الأفكار ويعطوها اهتمامهم.
فرض الرأي والإرهاب الفكري:
بعض الناس تمارس الإرهاب الفكري وفرض الرأي، من خلال طرحها لأفكارها ووجهات نظرها والآراء التي يؤمنون بها، ويصّورون الآخرين بأنهم حمقى أو جُهّالاً إن لم يقتنعوا بأفكارهم ووجهات نظرهم!
وأرى أن المتلقي - في مثل هذه الحالة وفي أغلب الأحيان - إما سيكون له موقف نفسي من هذه الأفكار ويرفضها حتى لو كانت صحيحة، أو أنه يقوم بمداراة القائل ويُظهر بعض التعاطف مع الأفكار وهو رافض لها جملة وتفصيلا في نفسه!
بساطة الأسلوب لا تعقيده:
وهذه الملاحظة مهمة في الأسلوب، لأنها تلعب دوراً كبيراً في جذب المتلقي، من خلال السلاسة في إيصال المعلومة وفهمها ، حيث أن الأسلوب البسيط يجذب الانتباه ويُسّهل عملية الإدراك والفهم بشكل أكبر من الأسلوب المعقد وخاصة إذا كانت صاحب هذا الأسلوب من المغرمين بجلب غرائب المفردات والألفاظ والمصطلحات البحتة التي يتعذّر على نسبة كبيرة من الناس فهمها واستيعابها.
5.إخلاص النية لله وقصد النفع لعباده :
وحقيقة هذا المعيار لا يمكن قياسه ولا معرفته إلا من قبل القائل والداعية نفسه هو فقط.
وهذا سبب تأخري لذكره، ولكن لا يمكن الحديث عن الاشتغال في ترويج الأفكار والدعوة لها من غير التذكير بهذا المعيار الهام والمفصلي وهو إخلاص النية لله وإرادة النفع للعباد من خلال ما نعرضه ونروجه بين الناس.
ورحم الله الإمام ابن تيمية حين قال:
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سُعدى فهو إذاً دمع مُضيع
-
نقاط حول موقفنا تجاه الأفكار التي تعرض علينا
الآن سنتحدث عن بعض النقاط والمعايير التي يمكن اعتمادها في محاكمة الأفكار التي تعرض علينا فضلاً عن قبولها .
1- ظنّية أم قطعيّة؟
هل الأفكار والآراء التي نتبناها - نحن - تجاه أغلب المسائل والقضايا التي نعرفها هي قطعية وثابتة ويقينية، أم أنها ظنية تقبل الأخذ والرد والمناقشة والترجيح؟
إذا كانت أفكارنا تجاه قضية ما ظنية وغير يقينية، فهذا يجعلنا نستمع ونتعرف على الأفكار والآراء الأخرى التي تعرض علينا، ونسمح لها بفرصة الدخول إلى مختبر عقولنا؛ لنحاكمها محاكمة عقلية بعيدة عن العواطف والقبليات التي نحملها في أذهاننا، ومن الطبيعي أن الأفكار الجديدة التي نتبناها - أيضاً - قد تكون ظنية ويمكن أن نعدلها أو نتخلى عنها إذا وجدنا الأفضل والأحكم والأجود في أي زمن آخر.
2- نحاكم الفكرة أم قائلها؟
عندما تعرض فكرة على بعض الناس، يغضون الطرف عن مدى صواب الفكرة وصحتها؛ لينالوا من قائلها، ويرمونه بسهام اتهاماتهم وآرائهم، وهنا قد تكون الفكرة صحيحة ولكن بسبب قائلها تضيع فرصة التعرف عليها فضلاً عن قبولها.
وأحياناً - في بعض الأحيان - تقال أفكار من أشخاص فيتقبلها الناس ويتغنون بها - بغض النظر عن صواب الفكرة وصحتها - لأنهم معجبون بشخصية قائلها ويثقون به!
وبرأيي لا هذا صحيح ولا ذاك؛ لأن الأفكار يجب أن تحاكم بشكل موضوعي، وتعرض على مختبر العقل والشرع ليدقق في المقدمات والحجج والأدلة والبراهين والنتائج، ثم يصدر الحكم عليها - أيضاً - بشكل موضوعي بعيداً عن تقييم قائلها سلباً أو إيجاباً.
القائل جزء من فكرته :
نعم قد يكون هناك حالات نركّز فيها على قائل الفكرة والداعية إليها، وهذه الحالات يكون في الأفكار كلمات وألفاظ غير محددة، وغير معروف المراد منها على وجه الدقة، أو أن بين السطور معاني أكبر من الكلمات والألفاظ التي قيلت...
وفي هذه الحالات يكون التركيز على القائل بهدف عرض الفكرة وفهم مدلولاتها، لا بهدف الحكم عليها بالصحة والبطلان أو القبول والرفض.
3- نحاكم الفكرة أو زمانها؟
البعض معياره في قبول الأفكار هو الزمان، فما كان من الأفكار مطروحاً في الماضي فهو عين الصواب، وما يطرح في الحاضر هو محض هراء وزيف لا يستحق التفكير فيه!
وفي المقابل هناك أناس يرون أن الأفكار الجديدة التي تطرح اليوم هي الصحيحة والمقبولة وما كان مطروح في الماضي لا يستحق النظر أو التفكير فيه؛ لأنه قديم وإن كان صحيحاً فهو يناسب زمانه لا الزمان الذي نعيش فيه نحن!
وبرأيي لا هذا صحيح ولا ذاك؛ لأن معيار الزمان لا يصلح أن يكون الحكم على الأفكار بل ينبغي محاكمة الأفكار بشكل موضوعي، لا بالنظر إلى الزمن الذي قيلت فيه؛ لأن الأفكار المقبولة هي التي تكون صحيحة في جوهرها وذاتها، ولا تستمد شرعيتها وثوابتها من الزمن الحاضر أو الماضي.
4- نحاكم الفكرة أو موقف المجتمع منها؟
البعض معياره في قبول الأفكار هو: مدى قبول آبائه وأجداده وأعرافه، وما هو منتشر في مجتمعه لهذه الأفكار!
فما كان سائداً وسائغاً لديهم فهو مقبول لديه، وما كان غير ذلك فهو مرفوض لديه!
وبرأيي صحيح أن العادات والتقاليد وأعراف المجتمعات وآراء الآباء والأسلاف لها مكانة في نفس الإنسان وعقله، لكن هذا لا يسوغ لنا أبداً أن نجعله معياراً لقبول الأفكار ورفضها.
بل المنطق السليم والعقل الصحيح ، وقبلهم الشرع الحنيف هو الحكم والمعيار الصادق في الحكم على صواب الفكرة أو خطئها ومن ثم قبولها أو رفضها.
هذه بعض النقاط التي سمحت لي الفرصة بالحديث عنها، لعل الله يجعل فيها النفع لي وللقارئ الكريم، ونستطيع من خلالها أن نعتمد بعض المعايير التي تساعدنا في الحكم على الأفكار والدعوة إليها.
وطبعاً أنا لا أدعي أنني أحصيت كل النقاط التي تساعد على ترويج الأفكار أو محاكمتها، لكنني أشرت إلى بعضها أو أهمها.
والهدف الذي أطمح إليه وأسعى نحوه هو محاولة التركيز على هذه النقاط المهمة وقد اختصرها في خمس نقاط:
- صقل أفكارنا وإنضاجها ومحاكمتها بشكل موضوعي قبل الدعوة إليها.
- التجديد المستمر في الشكل والمضمون للأسلوب الذي نتبعه في عرض الأفكار، مع مراعاة السياق الموضوعي والزماني للفكرة.
- أن نعتمد في محاكمة الأفكار - التي تعرض علينا - على سلطان الشرع ومعيار العقل؛ حتى تكون المحاكمة موضوعية وعادلة بإذن الله.
- عدم التعصب للأفكار والآراء التي نحملها بل نتحلى بالمرونة الذهنية، وننفتح على أفكار الآخرين وآرائهم في القضايا والأفكار الظنية التي تقبل الاجتهاد وهي تدور في فلك المتغيرات لا الثوابت.
- أن يكون هدفنا البحث عن الحق والحقيقة، ونتحلى بالجرأة والمصداقية في طريقنا نحوهما.