من أبرز قواعد تنظيم المجتمع المسلم، وأهم بنود سيره قاعدة ذهبية عرفها المسلم مع أول بدايات الدعوة الإسلامية: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ولعل المجتمع الإسلامي ينفرد بهذه القاعدة الحياتية، ويرجع ذلك لأن مشرعها الخالق عز وجل هو الأعلم بالطبيعة البشرية التي لا تحتمل هامشا مطلقا للحريات، بل لا بد من ضابط اجتماعي وعرفي ينظم سير المجتمعات والأمم.

سنتعرف معا على أهم النقاط والتساؤلات المثارة حول قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونتعمق فيها من خلال الإجابات التي يقدمها العلماء في بيان للناس.

بداية فساد المُجتمعات 

كيف نؤصل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
د. أحمد الريسوني:
يجب التذكير بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ركن من أركان الدين، فهو قضية كلية ومقصد عظيم في الإسلام، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أول ما دخل النقص على بني اسرائيل أنهم كانوا في البداية يتهاونون، فيكون الرجل جليس الرجل، وهذا يرتكب المنكر وهذا ساكت).

 فترك الأمر بالمعروف هو البداية عند بني اسرائيل، وقد لعنوا بسبب ترك الأمر بالمعروف، وكلما تم تركه كلما فسدت المجتمعات، ومن السنن الثابتة أنه كلما ترك الأمر بالمعروف اجتاحنا الفساد واضمحل من حولنا الصلاح. 

والمنكرات بعضها أنكر من بعض، عندنا الموبقات والكبائر والصغائر واللمم، ولكن المنكر درجات، فكلما اشتد ضلاله فيكون النهي عنه أوجب، وكذلك الأمر في المعروف، المجتمع هو الذي يستطيع أن يمنع المنكر، فالدولة لها واجباتها في كل الواجبات، فهي تمارس الإشراك العام في المجتمع.

فإذا كانت الدولة تحارب السرقة بالعقوبات، فنحن نحارب السرقة بالتربية والوعظ، وإذا كانت الدولة تعاقب شارب الخمر بالعقوبة الجسدية، فنحنُ نحارب هذا بالإعراض عن فاعله وتحديد مسارات للتوعية وتحذيره، فجميع المنكرات يمكن للناس أن يتدخلوا في محاربتها، هناك حدود للفرد لا يمكن للفرد أن يفعلها، مثل إقامة العقوبات على الناس والقصاص، فهذا أمر الدولة.

من رأى منكم مُنكرًا

 ما هي أنواع المعروف والمنكر؟ وكيف يمنع المجتمع المنكر؟

د. علي القره ياغي: مصطلح الأمر بالمعروف جميل ومتناسق مع الجانب الإنساني والفطري، بعض الأخوة يفهمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه، فذلك أضعفُ الإيمان)، يفهمونه خطأ، والخطأ يكون في حصر قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي فيها عشرات الآيات والأحاديث التي تم حصرها على حديثٍ واحدٍ، وإنما المنهج الصحيح أن نجمع جميع الأحاديث في نفس المجال ثُم نعمل فيها وفقًا لفقه الميزان.

وهذا يعني أن التغيير باليد ليس بالضرب ولا القتل، وإنما وفقًا للعقوبات المقررة والقوانين والتشريعات المتسقة مع البيئة الإسلامية، وهذا ما فهمه المتشددون وأقاموا فيه الحدود من دون وجه حق، فإقامة الحدود يكون للدولة الشرعية، ولا عقوبة إلا بالنص، لذلك مبدأ الحرية أوسع بكثير من هذه كي لا يتم تضييق "ليغيره بيده"، أما التغيير عن طريق اللسان، فهو يشمل جميع الوسائل الحديثة المكتوبة والمقروءة والمشاهدة، ولها تأثير بما يدخل بقضية الإعلام، فإذا وجدت دولة حديثة تقرر هذه الأمور يكون المجتمع سليمًا وآمنًا وتحميه من الأمر الداخلي والخارجي. 

المعنى الفسيح للمعروف 

ما هي مجالات المعروف في الإسلام، وما الفرق بين المعروف ومكارم الأخلاق؟

د. نور الدين خادمي: المعروف والمنكر عمومان، ولفظ المعروف معرفا بـ"ال" الاستغراقية (المعروف)، أي الذي يستغرق جميع أفكاره ودلالاته، والمنكر كذلك معرف بـ"ال"، ولذلك نتحدثُ عن منكرٍ بمفهوم عام في المجالات وفي الشخصيات والهيئات، يوجد المنكر السياسي والتربوي والدولي، مثل قضية تهجير الشعب من دولته وعملية الإبادة الجماعية والتعذيب الجماعي الممنهج، كلها منكرات فعلية ودولية ومحلية.

نجدُ ذلك مقابلا للمنكر المعروف العالمي والمعروف السياسي، قضية حركة الطيران وتنظيم المرور في المجتمع الإنساني ومقاومة الاختلال البيئي، كلها معروفات بالمعنى الواسع، ولذلك نتحدث عن العموم، ولستُ أدري لماذا اختزل مصطلح المعروف والنهي عن المنكر في بعض التفاصيل والصور، مع أن هذه التفاصيل والصور تدخل ضمن الجزء الذي يدخل في الكُل، ولكن المعروف والمنكر كلاهما بمصطلح عام ومفهوم فسيح بناءً على نصوصه ومداركه الشرعية.

أما الفرق بين مكارم الأخلاق والمعروف، المعروف هنا أوسع من مكارم الأخلاق؛ لأن المعروف يشمل ما تعارف عليه الناس من الواجبات والمسؤوليات والفضائل، ومن الوسائل والمقاصد. ويوجد معروف منصوص عليه في الدين؛ إقامة الصلوات وإقامة العدل، كل هذه قيم تعارف الناس عليها، وهناك معروف باجتهاد وبعقل وبمصلحة يحددها الناس.

لذلك المعروف هو ما عده الناس حسنًا بالنظر إلى قيمه ومآلاته ومصلحته، وكما في الحديث الموقوف: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح).

 نحن نشترك مع الإنسانية في عدد من المعروفات، في النظام الإداري وفي قضية التوازن البيئي واستقلال الدول، كل هذا من المعروف العالمي ومن المعروف السياسي، فلا ينبغي أن نختصر المعروف في أشياءٍ هي صحيحة في ذاتها، ولكنها لا تعبر عن المفهوم الواسع المحرر لهذه الكلمة، ونتساءل: هناك عالِم يحب المعروف كثيرًا ولكنه لا يعمل في محاربة المنكر؟

هذه المسألة ترد إلى قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن المعروف سميت به المصلحة، فالمصلحة عند بعض العلماء هي المعروف والخير والمنفعة، وعبروا عن المفسدة أيضًا بالمنكر والشر، ولذلك إذا وقع الإنسان بين معروفٍ ومنكر فإنه وقع بين مصلحةٍ ومفسدة، أو بين مصلحة ومصلحة، أو بين مفسدة ومفسدة، ولذلك إذا عرض عليه هذا التقابل بين المصلحة أو المفسدة، يُحال مباشرةً إلى مبدأ الموازنة بين المصلحة والمفسدة، ضمن قواعد معروفة، فهل يجوز للعالم من باب المصلحة أن يسكت على المنكر؟

إذا كان سيغيرُ منكرًا إلى منكر أشد وأعظم، أو منكر مساوٍ للمنكر الأول، فلا يغير هذا المنكر، وإذا كان هذا المنكر سيؤدي إلى فوات مصلحة أكبر وأعظم فله أن يقدر هذا التقدير اجتهاديًا يبنى على الاجتهاد الفردي والاجتهاد الجماعي، ولذلك كُل مسألةٍ لها حالها ووضعها التشريعي والتنزيلي، فبعض الناس لم يفهموا المعروف والمنكر جيدًا لأنهم لم يتعرفوا على هذه القواعد والموازنات.

واصبر على ما أصابك!

المنكر إن تم إنكاره سيأتي منكر أكبر منه، هل توافق على هذا؟

 د. علي الصلابي: هذه أمور تنسجم مع العقل بمعرفتها، فالناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهم من يأخذ بالعزائم ومنهم من يأخذ بالرخص، والأصل في هذا التعب والمشقة، ولهذا في خطاب لقمان لابنه (يا بُنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف واِنهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) فالمحافظة على الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقابل هذا كله أحيانًا سجون وتعذيب وهجرة وتعب وموت، واصبر على ما أصابك!

فكلما كانت الجماعة تتبنى نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما كان هذا المصطلح أقوى، وإن خيرية هذه الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (كُنتم خير أمةٍ أخرجت للناس..)، ومن أهداف التمكين والسلطان والحاكم (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة..)".

مُنكَر الاستبداد.. 

المشاهد سيفهم أن هناك من يجيز الاستبداد السياسي الذي هو من المنكرات، فكيف نوضح الموضوع أكثر؟

 د. عبد المجيد النجار: الاستبداد السياسي هو منكر من أكبر المنكرات، إنكاره واجب، فعلى الأقل إنكاره بالقلب، ونكران هذا الاستبداد أمر واجب على المجتمعات والأفراد، لكن التطبيق العملي لإنكار هذا يخضع للواقع، الاستبداد يستنكر، ولكن إذا كان هذا الاستبداد سيؤدي إلى فتنةٍ أكبر، تقع هنا الموازنات.

 فقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ عظيم يقع تطويره إجرائيًا، نعم وُجدت مؤسسة الحسبة ولكن مؤسسة الحسبة نفسها التي كانت تقوم بهذا الدور، لم يقع تطويرها، فالإعلام عندما يكون رشيدًا يمكن أن يكشف المنكر وينشر المعروف، وكذلك مؤسسات المجتمع، وينبغي تطوير الآليات التي تقوم بالمحافظة على المعروف وتطويره، وأنا عندما كنت في الغرب استطعنا أن نغير قليلًا من المنكر ولكن بالشكل الشرعي والمتاح، فقد عشنا بمجتمع تختلف ثقافته عنا، فنحن ملزمون أن نكون مخلصين للقوانين ونقوم بالمعروف بحسب الإمكان، وقام المجلس الأوروبي بالبحوث المقدرة بهذا الشأن.

مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

على من تقع مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، هل على الأفراد أم على الدولة؟

د. علي القره ياغي: النصوص الشرعية والأحاديث تدل على أن المسؤولية هي مسؤولية الأمة؛ (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، يشار إلى التكملة، الأمة مسؤولة وتضاف إلى الأمة جهات عديدة مثل المجتمع المدني والإعلام، فوظيفة الدولة حماية المجتمع وتطبيق هذه التشريعات، ثم توجيه المجتمع من خلال وسائل الإعلام، لتحقيق المجتمع القائم على المعروف، وبالتالي توزعت الأدوار، فلا يجوز أيضًا أن يتولى الفرد دور الدولة بيده.