تمر ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهي ملهمة للدعاة في الخطب والدروس المسجدية، وتمر على الأدباء فتفيض عليهم بأبيات الشعر وفنون النثر، وتمر على المربين والمصلحين فتمدهم بالدروس والعبر.
و قد حان الوقت لنعرض إطلالة سريعة عن بصمات النبي صلى الله عليه وسلم في علم الإدارة؛ لنؤكد للمهتمين والعاملين بمجال الإدارة أن لدينا معلم البشرية الذي سطر ووضع خطوات الإدارة الفاعلة.
وقبل أن نستعرض مهارات الإدارة عند النبي صلى الله عليه وسلم نوضح أولا فكرة الإدارة، والتي هي عبارة عن القدرة على القيام بمهارات التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة؛ لتحقيق أهداف المؤسسة بأقل التكاليف وأفضل النتائج.
حينما نتصفح سيرته العطرة في مرحلة الاستضعاف ومحاصرته في شعاب مكة ومع ذلك لم تغب عنه الرؤية الاستراتيجية لمشروعه "واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" رواه البخاري.
وهذا هو صاحب الحكمة في إدارة الأفراد، فقد اكتشف القدرات ونمى المهارات ووظف الطاقات، فأصبح فيهم سيفُ الله المسلول وشاعر الرسول وكاتم الأسرار وعلماء الحديث والفقه وسفراء الدول وقادة الجيوش،.. فنقل أصحابه العاملين معه من أهل بادية إلى قادة الأمم.
بل ونجده صلى الله عليه وسلم حينما رأى أن الدعوة لابد لها من دولة تحميها وتُمكن لها، فقد حدد الهدف الأساسي وهو"إقامة الدولة بالمدينة المنورة"، وحدد المراحل والخطوات التي توصل لهذا الهدف الطموح من بيعة العقبة الأولى ثم الثانية ثم اختتمها بمرحلة الهجرة النبوية، ولم يكتفي بهذا فقط فلم تزل الدولة بدون ملامح، فحدد مجموعة من الإجراءات التنفيذية والمتطلبات لاستكمال هدفه صلى الله عليه وسلم، فأقام السوق كمؤسسة اقتصادية وبناء المسجد كمؤسسة دينية وآخى بين المهاجرين والأنصار كمؤسسة اجتماعية، ثم عقد المعاهدة مع اليهود كخطوة سياسية متطلبة لتثبيت الحكم وإدارة الدولة. بل وتظهر مهارات النبي في إدارة مشروع الهجرة إلى المدينة، والتي تتجلى فيها جميع أركان العملية الإدارية من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة.
وها هو صاحب الحكمة والنظام حينما نبحث في حياته عن مهارة التنظيم، فقد نظم إدارة الغزوات وحدد قادة كل غزوة بل ويحدد القائد الرديف حين يُقتل القائد الأصلي، بل ونظم إدارة حكم المدينة من مهام وهياكل تنظيمية ووضع الضوابط لتوزيع الغنائم، وأكثر من ذلك أنه لم يترك أي تجمع إلا ووضع له نظام "إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ" رواه بن داود.
وحينما نتحدث عن مهارات التوجيه فلن نستطيع حصرها كسابق المهارات، فأخذنا لمحة سريعة حينما قال أبو ذر لسيدنا بلال يا ابن السوداء، فعلق النبي المرشد الموجه بقوله "أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية "رواه البخاري ، وبالتالي أعاد العاملين معه إلى الهدف وإلى الضوابط وهذه هي مهمة التوجيه.
أما قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة والرقابة، حيث لا يتم انجاز الهدف إلا بهما، فقد سأله أحد فقراء المدينة فدبر له المال ببيع بعض الأدوات لهذا الصحابي؛ لإقامة مشروع جمع وبيع الحطب ثم لم يتركه بعد، بل أمره بتقديم تقرير عن المشروع "اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يومًا" سنن بن ماجه ، وبالفعل قدم تقرير المتابعة وقد كسب عشرة دراهم.
وحينما نتحدث عن مهارة النبي في إدارة الاجتماعات، نقف كمتخصصين عاجزين وخاصة في إدارة نوعية الاجتماعات غير العادية، ومنها ما يسمى باجتماعات حل المشاكل والاعتراضات، فاجتمع وفد من الأنصار في نفوسهم شيء من النبي لتوزيعه العطايا على المهاجرين المؤلفة قلوبهم دونهم، وزاد الكلام والضجر حتى قال قائلهم: والله لقد لقي رسول الله قومه "سيرة بن هشام" ، ووصل صعوبة الاجتماع إلى أن زعيمهم الصحابي الجليل سعد بن عبادة قال للنبي أن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك من أنفسهم لما أعطيت العطايا دونهم، وما أنا إلا رجل من قومي أي أنه يؤيدهم، وهنا تأتي مهارة إدارة الاجتماع قبل أن يتفلت منه، ومهارة قراءة النفوس، ومهارة مخاطبة العاملين معه وتذكيرهم بالهدف الأسمى، مع إقراره بفضلهم عليه وعلي المشروع ككل بعد فضل الله، فينجح الاجتماع وتُحَل المشكلة ويقر أعضاء الاجتماع بما فعله قائدهم بل وينصرفوا وقد أخضلوا لحاهم من شدة البكاء، بسبب حسن التذكير والعرض وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحظًا." رواه أحمد
من المخاطر التي يقع فيها المدراء الانصراف عن الهدف في ظل العقبات والأحداث، إلا أن معلم البشرية ومُلهم الإداريين يعلمنا مهارة التركيز نحو الهدف، ففي صلح الحديبية وعند كتابة المعاهدة اعترض سهيل بن عمرو على كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلى جملة (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)، فأقر النبي ذلك واضعًا عينه على الهدف وهو كتابة المعاهدة وإنفاذ الصلح، فكتب (باسمك اللهم – هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله) "صحيح البخاري"
سيظل الحدث الواحد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منبع لكل التخصصات تستقي منه العبر والعظات والمهارات والتأملات، وهذه من معجزات السيرة العطرة لنبي الهدى، والتي اقتطفنا منها زهرات قليلة في المجال الإداري لنؤكد أن معلمنا ونبينا وُلِدَ ليرشدنا وينير دربنا في جميع المجالات وأولها مجال الإدارة.