حاوره أ. شمس الدين حميود

نظّمت صفحة عمران يوم الخميس 5 سبتمبر2019م /الموافق لـ 6 محرم 1441هـ في صفحتها على فيسبوك بثًا مباشرًا مع أ. عبد القدوس سماتي (لمشاهدة البث الجزء1 - الجزء2)

ابتداء من الألفية الجديدة، برزت نقاشات عديدة وأفكار غزيرة حول الحاجة للتجديد ومشروعية المراجعة داخل الحقل الإسلامي، هذه النقاشات والدعوات تنوعت بين خطابات تتحاكم بمعايير شرعية وبين خطاباتٍ أُخرى صارت تمارس علانيةً التحييد العملي للنص من الحياة العامة.

نحاول اليوم فهم الاختيارات الجوهرية بين الإسلام والحداثة في نظرتهما للإنسان والكون، وكذلك في توصيفهما للغاية من الوجود، في استحضارٍ مباشرٍ لتطورات الخطاب المتأثر بالفكر الغربي والذي يعيد تقييم العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية، كما يجعل من الوحي محاميا عن منتجات الحضارة لا حاكما على الحضارة بحد ذاتها. 

في هذا اللقاء نستضيف الأستاذ والباحث في الفكر السياسي الأستاذ عبد القدوس سماتي من الجزائر للحديث عن هذا الموضوع، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا به.
في البداية، إن سؤال وظيفة الإنسان هو المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية، هل لنا أن نعرف الإجابات المتعددة لهذا السؤال؟ 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أعتقد أنّ السؤال الذي طرحه أ. شمس الدين يستدعي منا أن نعرض مشروع الحداثة ولو باختصار؛ إنّ منطلقه يتمثل في محاولة تغيير نظرة أوروبية قديمة إلى الإنسان وطرح نظرة جديدة، والإسلام بالمقابل أيضا له نفس الفكرة فمضمونه طرح رؤية للإنسان ولعلاقته مع المكان الذي ولد فيه، فلا أظن أني سأستطيع أن أجيب عن سؤال "كيف تنظر الحداثة للإنسان؟ وكيف ينظر الإسلام إلى الإنسان؟" إلا في ختام اللقاء بعد عرض بعض الأفكار مثل "كيف نشأت الحداثة؟" وهذا هو السؤال الذي ننطلق منه، لأننا إن كنا نقارن بين الحداثة والإسلام فمن أين بدأت الحداثة؟ ومن أين انطلقت؟ وكيف تكونت؟ سأعرض بعض الأفكار والنقاط التي أراها أساسية ومن خلالها نستطيع أن نفهم ما هي الحداثة؟ وكيف قرأت الإنسان؟ وبالمقابل الإسلام لأنّ هذا هو الموضوع؛ الإسلام وكيف يرى الإسلامُ الإنسانَ؟ ونحاول أن نستنبط في النهاية المقارنة البسيطة بينهم.

يمكن أن ننطلق من فكرة أساسية في الحداثة يعرفها أصحاب العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي محاولة خلع/نزع القداسة عن العالم، وتعني بالتفسير القديم في أوروبا وخارجها هو إن كان أي تفسير للإنسان والحياة مأخوذ من وحي أو ما يشبه الوحي، فهو تفسير متجاوز لا يمكن أن يفسر حياة الإنسان إلا من خلال عملية خلق (من خلال إلـه)، أما الحداثة فهي محاولة أن تكسر هذا الأصل وأن تخلع القداسة والتفكير القدسي المتجاوز عن العالم، وهنا قد تعاملت مع ما يسمى الظواهر (phenomenon)، فالتعامل مع الظاهرة في العلم الحديث يعني أننا لا يمكن أن نحكم على أي شيء موجود إلا من خلال ما يظهر لنا.

وهكذا كل ما قدمته الحداثة ستجده في النهاية أنه جانب معين من المعرفة الإلهية حين رفضها الإنسان وحاول أن يقدم معرفةً موازيةً لها، وستجد نفس العملية في أي فلسفة، وبالتالي هكذا هي الحداثة، لم تجب عن أسئلة كانت من دون أجوبة، وإنما رفضت أجوبة الدين وحاولت أن تقدم أجوبةً مغايرة.

أدوات العلم الحديث هي أدوات تُمكننا من جمع المعلومات فقط التي تظهر للإنسان ولعقله، فتأسست المعرفة الحديثة كلها على هذا الأساس الذي تجدونه عند ماكس فيبر، وهو خلع القداسة عن العالم، حيث يقصد أني إذا أردت أن أفسر أي ظاهرة، سواءً الأسرة، الإنسان، الطبيعة أو أي شيء يجب أن أُعطيه معنى ظاهريا يظهر لي، أما أي معنى متجاوز يأتيني من مكان آخر فهو غير مقبول، وإن أدخلته فهذه المعرفة لم تعد علمية، هذه النقطة الأساسية، وبالتالي تجد الحداثة من البداية في اتجاهها للمعرفة تقصد الدين، هذا خيار وليس شيئا تستدل عليه الحداثة، أي لا يوجد دليل لماذا تقصد الدين.

وقد جاء في فلسفة اليونان أنّ اليونانيين يتصورون أنّ هذا الكون له عقل، والإنسان حين يكتشف عقل الكون يستطيع أن يفهم كيف يسير الكون، يحدث نوع من التطابق بين عقل الكون وعقل الإنسان وهذا ما نسميه حاليا القوانين الموضوعية والعلمية، يعني نكتشف القوانين التي تتحكم في العالم ففي النهاية اسمه عقل الكون، لو تلاحظون أنّ هذه "الميتافيزيقا" التي يفسر من خلالها الكون والإنسان باعتباره جزء منه -"الميتافيزيقا" الحالية-، يعني يمكن أن نفسر الكون كله وأن نصل إلى عقل الكون، ومنطقه، من دون أن نرجع إلى أي خطاب متجاوز متجاوز للإنسان (إلهي)، ومن هنا تلاحظون أنّ أول ما فعلته الحداثة وأول ما فعله المفكرون والفلاسفة الأوروبيون في ذلك الوقت هو أنهم أقصوا الإله من المعرفة، والمعرفة هي ما ينتجه الإنسان من دون أي خطاب إلهيّ.

بعد ذلك لم يقف الأمر عند هذا بل وصل للهدف من الحياة نفسه، إن كنا لا نستطيع أن نفهم ظاهرة الإنسان إلا من خلال عقل الإنسان ولا يُسمح لأي خطاب متجاوز لعقل الإنسان مثل الوحي أن يفسر لنا الإنسان، يعني هدف الإنسان نفسه يصير بشريًا بحتًا فلا يُسمح لأي أحد أن يضع هدفًا للإنسان لأنّ هذا الخارج عن الإنسان -الإله- مرفوض أصلاً (معرفياً)، مثلاً يأتي شخص يقول "الله عز وجل قال" فيقول له توقف! الله عز وجل شيء متجاوز للإنسان، فمركزية الإنسان باعتباره هو الذي ينتج المعرفة بعقله وأي شيء فوق العقل غير مقبول، وباعتباره هو الذي يضع هدفًا للحياة أصلًا ولماذا وجد الإنسان، هذه هي الفكرة الأساسية في الحداثة، مركزية الإنسان.

 وهنا نجد أن الحداثيين بدؤوا بالرجوع، وقد انطلق اليونانيون من نفس الشيء برفضهم المتجاوز، حتى الآلهة عندهم لم تكن تملي عليهم ما يفعلون في الحياة، فكانت اختراعات فقط وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فمثلاً لو نظرنا في الحداثة نجد لماذا بدؤوا في محاولات تفسير لماذا وُجِد الإنسان؟ وإلى أين يصل الإنسان؟ ما هو الخير؟ ما هو الشر؟ وجاءت نظرية إلحادية في الأخلاق حيث يأتي أصحاب المنفعة مثلاً في نظرية المنفعة التي تقول: "إنّ الأصل في الإنسان أنه يبحث عن المتعة والمصلحة وينفر من الألم ومن العذاب" وإلى آخره من المقولات اليونانية، وهي كلها تشترك في أننا إذا فقهنا الهدف الذي يحدده الدين سواء كان النصرانية المحرفة أو الإسلام أو أي دين، فإننا نبقى من دون هدف ويجب أن نضع هدفًا جديدًا.

كل التنظير الأخلاقي الحداثي الحديث هو محاولة إجابة عن سؤال أجاب عنه  الدين من قبل، ولكن حين أقصوا الدين صاروا بحاجة إلى هدف جديد ومعرفة للإنسان، الآن مثال بسيط نحن في الإسلام نعرف من أين أتى الإنسان وإلى أين يذهب وكيف سيسير تاريخ البشرية كله عموما من غير تفاصيل، وهذا ما حاول أن يفعله في المقابل "هيغل" في الفلسفة، فقد حاول أن يدخل العقل في التاريخ ويفسر التاريخ تفسيرا عقليا ويعرف هو نفسه إلى أين سينتهي تاريخ البشر، حاول من خلال فلسفته أن يقدم جوابا قدمه الدين من قبل، وهكذا كل ما قدمته الحداثة ستجد في النهاية أنه جانب معين من المعرفة الإلهية حين رفضها الإنسان حاول أن يقدم معرفةً موازيةً لها، وستجد نفس العملية في أي فلسفة، وبالتالي هكذا هي الحداثة، لم تجب عن أسئلة كانت من دون أجوبة، وإنما رفضت أجوبة الدين وحاولت أن تقدم أجوبةً مغايرة. نعطي أمثلة بسيطة، في السياسة تجد نظرية العقد الاجتماعي، والمتعارف أنه كانت هناك نظرية من قبل تبين أنّ شرعية الحكم تأتي من الدين ثم بخليط من الدين والأمير وإلى آخره، لكن حين اُخرج الدين من الخطاب وأبعدت الكنيسة من الخطاب السياسي وجدوا أنفسهم في مأزق من أين تأتي شرعية الحكم! ما الذي يسمح لفلان أو المجموعة الفلانية أن تحكم على أناسٍ أخرين؟ فكان لابد من تبرير علماني، تبرير لا يرجع إلى الدين والإله ونجد نظريات العقد الاجتماعي وكيف نشأ المجتمع السياسي.

فقد استخدمت الحداثة أحد الخدع البسيطة من أجل إسكات ردود الفعل، بأن تدعي فصل المجال العام عن المجال الخاص، أي أنّ الدين يبقى، "نحن لا نرفض الدين ولكن يبقى في مجاله الخاص!" المشكلة أننا لو تعمقنا في هذه المسألة وأردنا معالجتها بوضوح، نجد أنه لم يكن هنالك ما يسمى بالخاص إلا بأن تغلق على نفسك الباب في غرفة صغيرة وتتمتم ببعض الكلمات وتخرج منها!

كذلك كما أشرنا في الأخلاق، النظرية النفعية مثلاً أو الماركسية، نظرية أخلاق القوة عند "نيتشه"، فقد حاول أن يفهم الإنسان من أين جاء وإلى أين يذهب وكيف يجب أن يتصرف وما هي قيمة القيم والقوة عندنا، وقيمة القيمة المطلقة بعيدًا عن تفسير الدين بل انتقدوا الدين بصراحة وانتقدوا النصرانية.

أيضا في التاريخ والاقتصاد، أحلت البروتستانتية الربا، وانتقلت من أن يكون الاقتصاد محكومًا بالدين إلى اقتصاد متحرر غير محكوم بالدين، وعلى هذا أيضًا تعرفون أن "ماكس فيبر" ربط البروتستانت بنشأة الرأسمالية وروح الحداثة.

كل هذه الإنتاجات هي محاولة إعادة التوجيه والتفسير الإلهي للكون والطريقة الإلهية في إيصال المعرفة للبشر ومحاولة الاستغناء عن كل هذا وتعويضه بإنتاج بشري، هنا أريد أن أطرح بعض الاستعراضات البسيطة فقد لاحظت مشكلة ردود الفعل لدى المتدينين، فقد جاءت أحد الخدع البسيطة التي تستخدمها الحداثة من أجل إسكات ردود الفعل بأن تفصل المجال العام عن المجال الخاص، أي الدين يبقى، "نحن لا نرفض الدين ولكن يبقى في مجاله الخاص!" المشكلة أننا لو تعمقنا في هذه المسألة وأردنا معالجتها بوضوح نجد أنه لم يكن هنالك ما يسمى بالخاص إلا أن تغلق على نفسك الباب في غرفة صغيرة وتتمتم ببعض الكلمات وتخرج منها، لأنه حتى في طريقة تسيير الأسرة وكيف تنشئ الأولاد نجد هذا مجالا عاما، فعندما أرسل ابني إلى المدرسة مثلاً ويتعلم أشياءً فهو يتعلم من مجال عام، فمن يحدد الكلام الذي سيدرس له؟ ومن يَسن القانون؟ ومن يحدد حتى كيف تسير حياته داخل الأسرة إذا حدثت مشكلة؟ والقانون الذي هو مجال عام حتى إن سُميّ قانونًا خاصًا ففي النهاية الحكم فيه ليس لك، الحكم فيه للمجال العام، للذين لهم السلطة العامة، وتجد في الحقيقة أنه لم يكن هناك وجود لعام وخاص وإنما هي خدعة فقط؛ أنّ الدين لم يُقضَ عليه وحافظنا عليه في مجاله الخاص.

هذا الأمر شاع منذ اليونانيين وربما قبلهم إلى اليوم، وهو ما يسميه محمد قطب -رحمه الله- عقدة بروميثيوس "عقدة الصراع مع الإله" أنّ الإنسان يريد أن يتحرر وهو ينتج معرفته ويضع لنفسه هدفًا ويبتعد عن الإله، وكلما حقق معرفةً أكبر صار أكثر قدرة على التخلص من الإله، فالصراع مع الآلهة هو الحداثة في تصور الغربيين.

هذه محاولة لتقديم تصور عام عن الحداثة التي حاولت أن تنزع الإله وتضع الإنسان كمركز للحقيقة، وثمة المشكلة، فالإنسان كما نعرف نحن في الإسلام هو مشكاةٌ من طين ونفخةٌ من السماء -من الله عز وجل- كما قال تعالى: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي"، فالمشكلة لما أرادت الحداثة وذهبت أصواتها في نفي الجانب الإلهي ماذا بقي؟ بقي الطين فقط! فلم تستطع أن تفسر الإنسان بشيء متجاوز للمادة "الطين" فانتهت إلى تفسير الإنسان بمادية بحتة، وصار مجموعة هرمونات وأعصاب.

أما القيم الكبرى هي قيم مادية لا تقل عن الاقتصادية التي نعيشها الآن في عصر الليبرالية، أي مفكر حداثي أو علماني بالمعنى العام إن حاول أن يكون صادقًا، سيجد نفسه خاض في تصور مادي بحت، لأنه من البداية خيار الحداثة هو إقصاء المتجاوز، إقصاء الروح، إقصاء الإله، إذا لم يبق من الإنسان إلا ذلك الجانب الذي هو طين!

الحداثة هنا حين جعلت الإنسان مركزًا وفسرت هدفه تفسيرًا ماديًا طينيًا، وجدت نفسها في النهاية تتعامل مع الإنسان كأي شيء آخر في الوجود، ما الذي يميزه؟ يصير الإنسان في المصانع الحديثة مجرد رقم فقط، كأن يموت عشرة آلاف وينفع هذا اقتصاديًا فلا مشكلة!

فالقضية أنّ الحداثة حاولت وضع الإنسان في المركز وفقدت الإنسان، فكما قال الله عز وجل: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"، فهم نسوا الله وأنساهم أنفسهم، لأنّ الإنسان لا كرامة له إلا من الله "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" فتكريم الإنسان لم يأت من نفسه، ليس هو من كرم نفسه بل كرمه الله وحين يُقصى المُكرِّم -الله عز وجل- لا تبقى الكرامة! فكرامته تأتي من خارجه لا من داخله. وهذا الأمر يناقشه عبد الوهاب المسيري بوضوح عندما تكلم عن تطور العلمانية الشاملة كما يسميها، والتي انتهت إلى أنّ الإنسان صار من دون قيمة وهذه حلقة مفرغة ونتيجة حتمية للإنسان الذي يحاول أن يُقصي الإله من أجل وضع نفسه في المركز سيجد نفسه يُقصي نفسه في النهاية لأنه أقصى ما يجعله إنسانًا، والإله هو ما يجعلك إنسانًا، كما يقول علي عزت بيغوفتش: "عملية الخلق هي التي تفسر لنا تميز الإنسان عن أي مخلوق من مخلوقات أخرى"، هذا باختصار حديثنا عن الحداثة وتصورها عن الإنسان، والفخ أو المشكلة التي وقعت فيها.

كبداية نعرج أيضًا إلى النظرة الإسلامية للإنسان في حد ذاته والغاية من الوجود حتى يتضح المقال، ثم نُفصل أكثر في مواضيع الحضارة وأسئلة تابعة لما تم ذكره، تفضلوا بارك الله فيكم. 

سلمك الله وبارك فيك، الآن لو تلاحظون عندما بدأنا في الحداثة قلنا أنها لم تنطلق من الصفر، وإنما انطلقت وهي تحاول أن تقدم أجوبةً مختلفة عن الأسئلة التي كانت موجودة أيضًا وكان لها أجوبة في الدين، لأن الله -عزوجل- لما خلق الإنسان خلقه وعلمه الأسماء كلها، أعطاه الهدف والأجوبة وأعطاه كل شيء، ولكن المشكلة أنّ الحداثة غطت تفسيرًا وحاولت تقديم تفسير جديد صنعه الإنسان من نفسه.

الآن كما جاء في مرجع الإسلام نحن لا نقدم منهجًا جديدًا، ما بعد حداثي مثلاً،  بل نحن نحاول أن نرجع للأصل الذي كان موجودًا قبل الحداثة وسيظل موجودًا بعدها.

انطلقنا في الحداثة من أنّ العلم الحديث حاول أن يقصي أي شيء غير ما يظهر من الظواهر، كما قلنا إنّ العلم يرفض أي تفكير متجاوز، ما تراه فسره فقط بما تستطيع أن تدركه حواسك ويدركه عقلك، وعندما ننظر للإسلام نجد أنه يختلف مع هذا الأمر تمامًا، أي شيء نعيشه في الكون من حولنا، والإنسان، والحوادث التي تحدث سواء ما تدرسه العلوم الطبيعية، أو ما تدرسه العلوم الاجتماعية والإنسانية من إنسان وحوادث وتاريخ، يجب أن ننظر إليه ليس باعتباره ظاهرةً ولكن باعتباره آيةً، وفي الإسلام كل شيء هو آية، قال الله عز وجل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ"، وقال الله عز وجل: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"، وقال: "وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ". بل حتى أحداث التاريخ هي آية كذلك، قال الله -عز وجل- بعد كل قصة من قصص الأنبياء في صورة الشُعراء نجد "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ"، وبالتالي، الآية كما يقول طه عبد الرحمن هي شيء له ظاهرٌ مُسخَر، ظاهرٌ نراه نستطيع أن نتحكم فيه، وهذا هو هدف العلوم الطبيعية وحتى العلوم الاجتماعية، فهي تحاول أن تتحكم في الظواهر الاجتماعية في النهاية، وتتحكم في الإنسان، ولها باطنٌ لا سلطان للإنسان عليه، كل شيء نراه ونتعامل معه معرفيًا له باطن، هُنا تتميز المعرفة الإسلامية أو العلم الإسلامي، العلم في الإسلام لا يتوقف على الظاهر بل يذهب إلى الباطن، كُل آيةٍ تدُل في النهاية على علاقتها بالله عز وجل، أما كيف وُجدت هذه الآية وهذا المخلوق والظاهرة التاريخية؟ فبحكمة الله عز وجل، وبالتالي يصير كُل حدث تاريخي ظاهري هو ما نراه -ما نعرفه في التاريخ- باطنه قدره الله، هنا يصير العلم مبنيا على الإيمان بالقدر، كُل شيء موجود في الكون ظاهرهُ نراه وباطنه أن الله -عز وجل- خلقهُ لهدف وسخره للإنسان خليفةُ الله في الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"، يجب أن نتذكر هذه العلاقة عند رؤيتنا للكون، عندما يصعد النبي صلى الله عليه وسلم مُرتفَعاً كان يقول "الله أكبر" فقد كان صلى الله عليه وسلم يرى الباطن ويربطه بخالقه ويتفكر فيه ويقول "الله أكبر.. بقدر ما ارتفعتُ فالله أكبر مني"، وعندما ينزل وهداً يقول "سبحان الله" يُنزّه الله عن هذا النقص والنزول، فنُلاحظ أنّ العلم في الإسلام مُرتبط بالآية والظاهرة، مُرتبط بثُنائية الظاهر والباطن، إذا حذفت الباطن لن يصير علما بل صار جهلًا.

إنّ أطروحة الحداثة تقصي الله وتحاول تقديم تفسيرات، وفي الإسلام إذا أقصيت الإله فكل شيء في الوجود انتهى، يستحيل أن تتفق أطروحة "الحداثة" وأطروحة "الإسلام" في أي مكان، لأنهما من البداية متناقضان على مستوى القيم!

مهما تحكمت في الظواهر -كما هي العلوم الحديثة الآن- هذا يصير جهلاً، وكما يقول الله عز وجل: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" أي الذين علمُهُم علمٌ بالظاهر والباطن معاً، ويقول الله تعالى: "وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ" لأنك مهما حاولت أن تستشف الأشياء لن تستطيع أن تستشفها على حقيقتها إلا إذا جاءك العلم من الله، لأنك لا ترى إلا الظاهر، وبواطن الأشياء لا تعلمُها وإنما يأتيك علمها من الله.

لا تستطيع أن تفهم الحكمة من أي ظاهرة اجتماعية مثل الأُسرة أو أي ظاهرة بسيطة أو مركبة، إلا إن يُعلمك الله كيف تتعامل معها، كيف تدير الزواج، الطلاق، كيف تنظم الاقتصاد، لأن كل شيء كما قلنا له ظاهر وباطن، والباطن لا سُلطةَ للإنسان عليه، الله عز وجل يقول: "وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" في آية القتال والتي هي أمر اجتماعي "حرب"، وبعض آيات الطلاق وهو أيضا أمر اجتماعي، ربما نقول بأننا نتملك قدرة تفسيرها بالمعرفة التي لدينا، لكن الله تعالى يقول: "وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لأنك لا تُدركُ بواطن الأشياء وحكمة خلق الله عز وجل في الإنسان والمجتمع، لهذا لو تلاحظون في بداية الإسلام بدأ بـ"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)"، فالله عز وجل-هو الذي علّم الإنسان الذي لا يستطيع أن يتعلم العلم الحقيقي من نفسه، وهذا ما تحاول الحداثة أن تفعله، أن تتعلم من نفسها العلم الحقيقي دون الرجوع إلى إله، ولهذا هي تعيش الأزمات الفكرية والاجتماعية وفي كل المجالات.

هذا ما يخُص المعرفة، أما الهدف فهو واضح في الإسلام فالله تعالى يقول: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، فقد خُلِقَ لعبادة الله وليخلفه في الأرض ويطيع كل ما أمر به، وهذه القيمة المُطلقة، ولهذا سُميَ إسلاماً أصلاً فقيمة الإسلام الكُبرى هي إسلام الأمر لله رب العالمين، قال الله عز وجل: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا" وقال: "مَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ".

لاحظ الفرق الضخم في أنّ أطروحة الحداثة تقصي الله وتحاول تقديم تفسيرات، وفي الإسلام إذا أقصيت الإله فكل شيء في الوجود انتهى، يستحيل أن تتفق أطروحة الحداثة وأطروحة الإسلام في أي مكان لأنهما من البداية متناقضان "على مستوى القيم"، بعد ذلك على مستوى الحداثة والعلوم؛ أما الاكتشافات والماديات فليس هناك مشكلة، لكن الاستحالة على مستوى القيم، فيستحيل أن يكون لدينا مشروع اجتماعي حداثي إسلامي لأن قيمة القيم -كما يسميها مهدي المنجرة- متناقضة، الله سبحانه وتعالى يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" في البداية آمنوا! ما لم يؤمن الإنسان ليحقق العبودية والإسلام فالباقي كله خُسر، وبعبارة أخرى فالحداثة هي خُسر لعدم وجود الركيزة الأولى "آمنوا" وكل عمل لا يقوم على الإيمان هو عملٌ مقطوع ليس حياً في الحقيقة والله  تعالى يقول: "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ" ويقول في الآية التي بعدها: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" وبعدها يقول: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا"، فكل هذه المشاريع الإنسانية التي تكفر بالإله مثل المشروع الحداثي الذي يقصي الإله ويتظاهر أنه يدع له مجالاً خاصاً وهو في الحقيقة لا مجال له، كل هذا في النهاية هو تناقض.

أعطت الحداثة لكل مجال استقلالية وقيمة، فالسياسة لديها قيمة كبرى تتمثل في السلطة، والاقتصاد قيمته المنفعة، وبعض هذه القيم تتصادم وتتصارع، والإنسان الحداثي يجد نفسه في كارثة كبرى، يجد قيمة السلطة وقيمة الأسرة وقيمة كذا وكذا، ولا يستطيع أن يدمج هذه القيم مع بعضها في حياةٍ صالحة مطمئنة!

لو تأملنا في السياسة والاقتصاد وكل ما حاولت الحداثة إنتاجه، نجدهم يقولون "تكلم عنها أرسطو وغيره"، فالتأسيس لها باعتبارها مجالاً منفصلاً هو حديث جاء قبل عدة قرون، بالمقابل في الإسلام لا نجد عندنا ما يسمى سياسة واقتصاد وغيرهما، لماذا كانت لدينا حضارة إسلامية وليس لدينا علم يسمى سياسة؟ أو اقتصاد؟ كان لدينا شيء اسمه الشريعة! كل مجالات الحياة موجودة في الشريعة، فالإسلام لا يفصل مجالات الحياة، والحداثة فصلتها وأعطت كل مجال استقلالية وقيمة، فالسياسة لديها قيمة كبرى تتمثل في السلطة والاقتصاد قيمته المنفعة، بعض هذه القيم تتصادم وتتصارع، والإنسان الحداثي يجد نفسه في كارثة كبرى، يجد قيمة السلطة وقيمة الأسرة وقيمة كذا وكذا ولا يستطيع أن يدمج هذه القيم مع بعضها في حياةٍ صالحة مطمئنة! في حين أنّ الإسلام لا يفصِل المجالات بل كان تقسيما عمليا فقط، ولو رجعنا لكل كتب الشريعة الإسلامية نجد أن التقسيم كان حسب العمل إن كان زكاة أو صلاة أو حجا أو حربا إلى آخره، لكن القيمة واحدة، يعني الصلاة ليس لديها قيمة بحد ذاتها -قيمة الصلاة غير موجودة في الزكاة أو الزكاة غير موجودة في كتاب البيوع- بل نجد أنّ القيمة واحدة في الإسلام لله رب العالمين والحكم بما أنزله، والباقي هو اختلاف عملي، وهذا فرق الحداثة التي فصلت كل شيء، وكثير من الذين يحاولون إدخال الاسلام في السياسة والاقتصاد حين لا يعون هذا الأمر لا يقدرون على إدخاله فالأمران متناقضان، الإسلام يقول لك ليس هناك من مجال منفصل بذاته يمتلك قيمته، القيمة الوحيدة هي شرع الله عز وجل والإسلام لله رب العالمين، وبالتالي هذا أيضًا فرق محوري، وإذا أردنا علومًا إسلامية يجب أن ننطلق من وحدة الشرع وليس من انفصال المجالات، هذا والله أعلم وإن كانت هناك نقاط أخرى نرفقها لاحقًا.

بارك الله فيكم، الحديث عن الإنسان ووظيفته وتوصيف غايته من الوجود من المنظور الحداثي ومن المنظور الإسلامي يقودنا إلى التعريج لغاية الحضارة في سلم الوحي، وهل الحضارة بمفهومها الشائع حاليًا ذات مرتبة تبعية في الوحي؟ أم هي الغاية بحد ذاتها؟ 

نعم هذا هو المحور الثاني، وما ذكرناه كان مقدمة عن الحضارة حتى لا يكون الأمر مفاجئًا، الفكرة والسؤال الذي يجب أن ننطلق منه هو: ما هي الحضارة؟ مهما تكن، فلنقل أنها مجموعة الشروط المعنوية والمادية التي تسمح لمجتمعٍ ما أن يحقق الشروط اللازمة والحياة الكريمة لكل فردٍ فيه، وكل واحد يريد أن يفسر الحضارة، لكن في النهاية إذا أردنا أن نتفق سنجد أنّها البعد المادي في الحياة وهذا ما يطرحه بيغوفيتش في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" يقول أنّ الثقافة مقابل الحضارة، الفن مقابل العلم، فالحضارة يغلب عليها الجانب المادي في حين أن الثقافة يغلب عليها الطابع غير المادي، يمكن أن نقول أنّ التمكن المادي كما يرجع لمالك بن نبي يقصد به قدرة المجتمع على بناء منظومة اجتماعية مادية ليحقق الشروط اللازمة لحياة كل فرد فيه، هذه هي الحضارة. هل يمكن أن نضع هذا الهدف مع الإسلام؟

الإنسان المسلم يسعى إلى العبادة وفي نفس الوقت إلى إقامة الحضارة، ففي أي مستوى نضع الحضارة في الإسلام؟ أما من ناحية الحداثة فواضح أنها  تعتبر الحضارة هدفا، أي تحقيق التمكُن المادي في هذه الأرض، لكن من ناحية الإسلام نجد أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، كثير من الناس تصور أنّ الإسلام جاء وأدار الحضارة، وكل ما ينقصنا الآن أن نضع الحضارة باعتبارها هدفًا من جديد ونحاول أن نصل إليها من خلال الإسلام، الإسلام أنشأ حضارته التي أنشأها وهو لم يكن يضعها الهدف لكن جاءت نتيجة فقط لطبيعته.

الإسلام يُنتج الحضارة من دون أن يجعلها هي الهدف، وهذا لا ينفي أننا نفهم كيف ننشئ الحضارة لكن فهمنا لكيفية نشأة الحضارة لا يجعلها هي قيمة القيم عندنا.

أريد تعريف الحضارة بشكل أوسع، نرجع لتعريف مالك بن نبي الذي يقول لنا: نحن الآن نعيش في مجتمع غير متحضر فكيف نحضره وكيف نصل إلى الحضارة؟ أن نُنتج من الشروط الظروف المعنوية التي يسميها الإرادة الحضارية، يعني لدينا مجموعة من الأفراد ليس بالضرورة قادرين على أن أداء عملٍ مشتركٍ من أجل هدف، من خلال تربية الناس بشكل مستمر على العمل من أجل هذا الهدف والتضحية له، حينها يكون لدينا ما يسمى بالقدرة الحضارية.

نلاحظ أنّ الحضارة تبدأ من حالة نفسية، فالإنسان يرغب في بناء حضارة، ونصل في النهاية إلى المنتج الحضاري والمنتج المادي، تلك الحالة النفسية وُجدَت في التاريخ الإسلامي لكن من دون استحضار للحضارة باعتبارها هي الهدف وهذه هي النقطة التي نريد الوصول إليها، كان لدى الناس طاقة بناء مجتمع لكن لم يكن بناء مجتمع مرتاح ماديا هدفاً لهم لأنهم كانوا يبذلون جميع طاقاتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعاً ولا توقد نارٌ في بيته الهلال تلو الهلال تلو الهلال أي شهرين ثلاثة أشهر لا توقد نار في بيته.

الحضارة في الإسلام لم تكن هدفًا كانت نتيجة فقط والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصاتها، قالو: أمِن قِلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السيل"، غُثاء لا يستطيع أن يبني حضارة لكن لاحظ في نهاية الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حُب الدنيا وكراهية الموت".

نستطيع أن نتصور أنّ المجتمع الإسلامي استطاع بناء حضارته لأنه كان يرجوها ويسعى إليها؟ لا بل العكس، حب الدنيا هو الذي قضى على الحضارة الإسلامية، فالحضارة بالمعنى المادي ليست هدفًا في الإسلام إنما تأتي تبعًا لأنّ الإسلام باعتباره ديناً كاملاً ليس كالنصرانية أو البوذية أو غيره من الديانات التأملية المحرفة يُقدم لك مشروعاً في الحياة، وأنت المسؤول بتنفيذ هذا النظام والمشروع في كل جانب من جوانب الحياة، يعني بالذروة أنت ستُنشئ حضارة إسلامية تحكُم بشرع الله، ستصل إليه، لكن أن يكون هذا المنطلق فهذه مشكلة كبيرة جداً، نجد أنّ القرآن ضد هذا تماماً، وقد جاء في القرآن: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ" ويقول الله -عز وجل- وهو يحكي عن عاد قوم هود "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ" فليس هذا الهدف إنما شيء منتقَد أصلاً، ويقول الله -عز وجل- في ثمود قوم صالح: "أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ" هنا كانت حضارات في زمنها لكن الخطاب جاء مُنتقدًا.

بل إنّ صراع الحق والباطل في بداية الخلق عند آدم -عليه السلام- كانت بين هذين، بين أمر الله عز وجل لآدم بأن لا تقربا هذه الشجرة -يعني أطع الله وطبق ما يقوله لك- وبين الشيطان يقول له: "يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى" وهي حضارة! هذا الملك الذي لا يبلى والتمكن في هذه الأرض -في الجنة في ذلك الوقت- والخلد.

الإنسان عندما يدخل في معمعة الحضارة ينسى الموت وما بعده وما فيه أصلاً، حتى إن كان يؤمن بالموت لكن شعوره بالخُلد وهو يسعى نحو الحضارة، فتلاحظ أنهما متناقضان من البداية، الإسلام يُنتج الحضارة من دون أن يجعلها هي الهدف، وهذا لا ينفي أننا نفهم كيف ننشئ الحضارة لكن فهمنا لكيفية نشأة الحضارة لا يجعلها هي قيمة القيم عندنا.

بعد الحديث حول كل ما سبق ذكره وهو عبارة عن تقديم وتأصيل للموضوع الذي ارتأينا أن نناقشه في هذه الجلسة الفكرية، الآن سنبدأ بمجموعة من الأسئلة التي تشغل الكثيرين.
لعل القصور الذي يشهده الفكر الحداثي باستبعاد العنصر الأخلاقي قد ظهر جليًا في نمط الحضارة القائمة بالمقارنة بانحراف المسلمين عن الهدي القرآني، كثيرًا ما يتساءل الآخر عن فاعلية صواب الفكرة وصواب النظرة الإسلامية للحضارة في ظل غياب أي ثمار لتلك الآثار في ظل واقعنا المعاصر، والدول الإسلامية المتقدمة اليوم تجدها ميالة للنموذج الغربي المادي نوعًا ما؟ 

الفكرة بسيطة، أولاً، المعيار الذي تضعه للنجاح والفلاح؛ فإذا كان المعيار الذي تضعه هو التقدم المادي، فبكل بساطة اسع في المسعى الحداثي وحقق تفوقاً مادياً، لكن هذا ليس هو المعيار الذي يضعه الإسلام وهذه هي النقطة الأخيرة التي حاولت أن أُؤكد عليها، أنّ المعيار في الإسلام لو نظرنا لمجتمع المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ يوجه المجتمع، لم تكن المادة معيارًا، فقد كان هناك فقر وحصار شديد لكن كان بناء المجتمع مختلفاً تماماً عما كان موجوداً وعن المعايير المادية.

إنك إن لم تتبع نموذجك الإسلامي لن تزدهر داخل النموذج الحداثي فأنت تصارعه، في البداية هو له قوة وسيحاصرك وسيحاول أن يقضي عليك ولن تستطيع التقدم بسرعة لأنك تواجه نموذجًا عالميًا. فالفكرة أن نكون على وعي بأنّ الإسلام يبني نموذجًا مختلفًا من الأساس بديلاً للنموذج الحداثي، فيستحيل أن يزدهر النموذج الإسلامي تحت ظل النموذج الحداثي.

فمنذ البداية لك خيار تتخذه عن وعي، إن مشيت في طريق الإسلام لا يعني أنك ستحقق تفوقاً مادياً في المنظور القريب، لأنّ طبيعة النظام الإسلامي تتناقض مع التشريع الحداثي، فطالما هما متناقضان فلا يمكن للنظام الإسلامي أن يزدهر داخل المنظومة الحداثية، في البداية بالضرورة سيضيق عليه وسيعاني مما يبدو أنه تقهقر حضاري كما عانى منه مجتمع المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين كان لا يجد الإنسان ما يأكله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما الفقرَ أخشى عليكم ولكن أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلكَكُم كما أهلكتهم" وبالتالي كان صلى الله عليه وسلم يخشى بسط الدنيا فيتبعوا النموذج الموجود، مثل النموذج الحداثي الآن الذي يسعى وراء الدُنيا، لأنك إن لم تتبع نموذجك الإسلامي لن تزدهر داخل النموذج الحداثي فأنت تصارعه، في البداية هو له قوة وسيحاصرك وسيحاول أن يقضي عليك ولن تستطيع التقدم بسرعة لأنك تواجه نموذجًا عالميًا. فالفكرة فقط أن نكون على وعي بأنّ الإسلام يبني نموذجًا مختلفًا من الأساس بديلاً للنموذج الحداثي، فيستحيل أن يزدهر النموذج الإسلامي تحت ظل النموذج الحداثي.

في ذات السياق نجد أنّ الفيلسوف طه عبد الرحمن قد أطلق منذ ما يقارب 14 سنة روح الحداثة إيماناً منهم بما يُسميه حق الإبداع، ويهدف طه من خلال هذا المشروع إلى نقد واقع الحداثة والخروج بروحها التي تنفث تمامًا الشيء المُبتذل لمفهوم الحداثة، وقد وصل إلى حد نفي أن تكون الحداثة من صنع المجتمع الغربي بل هي من صنع إنساني، وكذا بأنّ الحداثة ملك لكل أمة متحضرة. ما رأيك في هذا التوجه الاستيعابي الذي يحاول الخروج بحداثة ذات مبادئ تتوافق والروح الإسلامية؟

رأيي كما يقول علماؤنا قديمًا "لا مشاحة في الاصطلاح"، الاختلاف هنا لفظي، يقول طه عبد الرحمن أنّ الحداثة الغربية هي نموذج فقط من نماذج الحداثة، لكن الحداثة بمعنى أوسع ليست هي الحداثة الغربية، فالإسلام يمكن أن يبني حداثته التي لا تُشبه الحداثة الغربية، يبقى في روح الحداثة ولكنه لا يأخذ شكل الحداثة الغربية، الآن لنقُم بعملية بسيطة حتى نلاحظ أنّ الاختلاف لفظي، كل ما كنت أقوله في الدقائق السابقة وكل ما كنت أسميه حداثة يمكن أن تغير اسمه للحداثة الغربية، يعني الإسلام والحداثة الغربية متناقضان وغيره، وإذا كنت أسميه نظاما للكون وللحياة سميه الحداثة، يعني عندما نقول النظام الإسلامي يتناقض مع الحداثة والنظام الإسلامي للحياة يتناقض مع نظام الحداثة والإسلام لا يستطيع أن يزدهر تحت نظام الحداثة، أنت غير المفاهيم وقل الحداثة الإسلامية لا يمكن أن تعيش تحت الحداثة الغربية لأنّ الحداثة الإسلامية مختلفة عن الحداثة الغربية، استخدم طه عبد الرحمن لفظ الحداثة الغربية، وبدلاً عن كلمة نظام الحياة والكون الفاعل استخدم طه عبد الرحمن مفهوم الحداثة، فقط اختلاف ألفاظ والحداثة الإسلامية هي الإسلام.

وردنا سؤال من أحد المتابعين:  لم أفهم كيف أنّ الإسلام لا يستهدف التطور المادي وقد ورد لذهني وأنا استمع لهذه الفكرة قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"؟

نعم هذه الآية كانت في ذهني لكن اختصارًا للوقت لم أطرح الفكرة، حتى قوله تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا" وإلى آخر الآيات، المسألة ليست أنّ الإسلام يرفض أن يكون هناك تنعُم وتقدُم في الحياة وبعض الرفاهية والكرامة، قال الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، لكن أن يكون هذا هدفاً وقيمةً كُبرى هو ما ليس في الإسلام.

الآية التي تفضل بها السائل الكريم "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"، نتأمل في قوله تعالى لو أنهم آمنوا واتقوا، أي هدفهم الإيمان والتقوى وهو هدف الإسلام الذي كنا نتكلم عنه، لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض، يعني الآخر يأتي نتيجةً وهذا ما كُنا نقوله لما أخلص المسلمون دينهم لله.

الحضارة الإسلامية جاءت نتيجةً لأنّ هؤلاء المسلمين عندهم مشروع حياة كاملة جاء به الإسلام مشروع ويشمل كل المناحي، وبالتالي حتى الإنسان المسلم نفسه ويطبق الإسلام مضطراً لأن يخوض كل مجالات الحياة ويبني فيها، وبالتالي يقيم حضارةً، فالمسألة ليست برفضه للأمر ولكن أن لا يجعله هدفًا كبيرًا وقيمةً كُبرى بل يأتي نتيجة، والآية التي قالها الأخ الكريم تُقر بهذا، والله أعلم.

إنّك لا تستطيع أن تلوم عدوك على أنه يعاديك ويحاربك، أنت تلوم نفسك على أنك لم تستطع أن تُبين للناس بالضبط معنى كل مصطلح، بأن تنقلهم من الألفاظ للمعاني.

لو تحدثنا عن هذا التسلسل الزمني للانقلاب المعياري الآن، سيكون هناك تخصيص حاصل لدى جزء معتبر من المثقفين في العالم الإسلامي والذي مآلُه الدائم التماهي مع الخطاب العلماني، كيف نفسر ونوضح هذا التسلسل الزمني منذ متى صار -خاصةً- لدى المفكرين الإسلاميين في العالم الإسلامي؟ وهل هناك منحى نحو تفسير النص في القالب الغربي؟

من المستحيل أن تحدد هذه المسألة تاريخيًا في مسار واحد، لأنّ المسلمين انقسموا في التعامل مع الحداثة، فمنهم من تحول من البداية فهو مسلم شكليًا لكنه لا يؤمن به كمنهج حياة إطلاقًا، ولو ترجع مثلاً لكتاب "إيديولوجيا العربية المعاصرة" لعبد الله العربي؛ يُقسم التعامل مع الحداثة ومع أوروبا لثلاثة أقسام "الشيخ والسياسي ورجل التقنية"، هذا الأخير هو الإنسان الذي يتعامل مع الإنتاج والمادة والصناعة والسياسي الذي يتعامل مع البرلمان والديمقراطية، فالإنسان لديه ظن بأنّ المسألة في العقل، في أن يُدخل العقل من جديد في الإسلام بعد أن طردته الخرافات مثلاً، فتجد مسارات عديدة للتعامل مع الحداثة، كُلٌ له مساره في التطرق لها، وهنا تجدني عاجزا تمامًا على أن أقدم مسارًا تاريخيًا وأظن كل شخص سيكون عاجزا عن هذا لكن المسألة كما قلت تُدرَس في كل مسار على حِدى.

سعى محمد أركون من خلال طرحه الفكري إلى تغيير مصطلح العلمانية، يعني المصطلحات التي تجد الحساسية لدى القارئ أو المتابع الإسلامي يجب تغييرها. ولعل من أعظم فِتَن هذا الزمان فتنة تقليب المصطلحات وتغييرها بأخرى أقل حساسية تجاه القارئ والفرد المسلم وقد قال الله تعالى: "لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ"، في رأيكم من يتولى كبَر هذا التقليب للمصطلحات؟ يعني المصطلحات المصادمة للشرع يُعاد تدويرها بمصطلحات قابلة للتفهم والتقبل داخل البيئة الإسلامية.  

أولاً بارك الله فيكم على هذا الطرح لأنها نقطة مهمة جداً، تغيير المصطلحات واللعب على الألفاظ، حتى الكُفر لا يسمى كُفراً ويُقال لك هذا مذهب معين وتصور معين للحياة أو مذهب في فلسفة الاقتصاد، بينما هو كفر واضح، والإيمان لا يسمى إيماناً ويُسمى رأياً مثلاً من آراء الإسلاميين، وهو الإيمان الذي لو خرجت منه خرجت للكفر، واللعب بالمصطلحات خطير فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا في عدة أحاديث: "يسمونها بغير اسمها فيستحلونها" أي أنّ أمر اللعب على المصطلحات سيكون في آخر الزمان ونحن نعيش هذا الأمر الآن.

المسؤولية في الإسلام هي مسؤولية فردية وجماعية أيضًا، المسؤولية الفردية يتولى كبرها من يغير المصطلحات "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ" لكن فيها مسؤولية مهمة جدًا بالنسبة لنا، لأنك لا تستطيع أن تلوم عدوك على أنه يعاديك ويحاربك، أنت تلوم نفسك على أنك لم تستطع أن تُبين للناس بالضبط معنى كل مصطلح، بأن تنقلهم من الألفاظ للمعاني وأن يفهموا حين نقول "علمانية" ما هي العلمانية؟ وحين نقول "حداثة" ما هي الحداثة؟ وحين نقول "إسلام" ما هو الإسلام؟ وحين نقول "سياسة" ما هي السياسة؟ وإلى آخره، فكلما اهتم المسلمون -وهذا لدينا فيه نقص شديد- ببيان هذه الأشياء نقصت قدرة المحرفين على أن يخدعوا الناس بتحريفاتهم، فكل هؤلاء يتحملون كِبَر المسألة والله أعلم، لكن مسؤوليتنا أكبر. 

في رأيكم ما الذي دفع الكثير من المتكلمين إلى قراءة نصوص الوحي ونصوص التراث الإسلامي خاصةً قراءة مدنية؟ أي بالمعنى المادي للقراءة، قراءة موجهة تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم المدنية المادية الغربية ثم تأول ما يتعارض معها حتى تبين عدم التعارض؟

أظن الجواب بسيطا، وهو عدم إيمان الناس بأن هُدى الله عز وجل هو الهُدى، قال تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ" آتانا الله آياته، فحين تركنا الهدى وأخلدنا إلى الأرض وأردنا الهدف الأرضي الدنيوي؛ الهدف المادي الذي تُقدمه إلينا الحداثة على طبقٍ من ذهب ليبدو لنا شيئًا رائعًا، يبقى عندنا الإسلام موجودا فالإسلام يبقى راسخًا في مجتمعاتنا على الأقل، باعتباره نصوصًا وباعتباره تراثًا من الشريعة، فكيف نتعامل مع الإسلام؟ إما أن نرفضه بوضوح ونصرح برفضه تمامًا كما يفعل البعض وإما أن نحاول أن نجد مداخلا، حتى بيننا وبين أنفسنا نخدع أنفسنا بأن نجد مداخلا ونظن أننا بهذه الطريقة نتعامل مع الإسلام أكثر حداثة، في حين أننا نقضي على روح الإسلام وعلى أصله تمامًا حين نجعله تابعًا ولا نجعله هو الأصل، فالباعث -واعذروني على قسوة العبارة-  هو عدم الإيمان بالله لأنّ الهدى من الله ونظن أن الهدى من الحداثة، ثم نحاول أن نلوي أعناق النصوص حتى نجعل الهدى الذي جاءنا من الله مناسبًا للضلالة التي تأتينا من غير الله عز وجل.

صحيح، وأحياناً يحاول البعض أن يصبّغ الفكرة الإسلامية في القالب الغربي. 

المشكلة ليست في محاولتهم صَّبْ الفكرة الإسلامية في القالب الغربي، هي فكرة إسلامية وفكرة غربية ليست مجرد قالب، فهما شيئان  مختلفان، كالساحر الذي يدخل هذا الشيء في هذا الشيء و في النهاية هذا يختفي ويبقى الآخر ظاهراً ووحده الموجود، فهو تحريف للإسلام فقط حتى يظهر كما يُظهِر الساحر أنه يوافق الفكرة الغربية ولا يتناقض معها في حين أنه يتناقض، فهي مسألة إيمان وليست مسألة معرفة، وتلك المسألة هي الدافع، أن نؤمن بهذا الدين أو لا نؤمن به والله أعلم.

يقودنا الحديث إلى آخر سؤال، يتحدث مالك بن نبي في كتابه "ميلاد مجتمع" بأنّ كل كلمة لا تحمل جنين النشاط هي كلمة ميتة، والحديث عن الوحي ونظرته للإنسان والحضارات في ظل تحديات حداثيات قد ظهرت بالمفاهيم والسلوك والأفكار، هل نجد اليوم في واقعنا مشاريع فكرية أُخرى أو حتى عملية لها سلطان على الواقع وحاولت استرداد روح الفكر الإسلامي في بناء الحضارة؟

فيما هو قائم الآن نعم موجود أفكارا وكتبا نظّرت للأمر، لكن إذا قلنا كواقع يتطور: هل توجد فكرة إسلامية تنشأ الآن ويقتنع بها الناس وتتطور المجموعة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية وتسير في تطبيق النظام الإسلامي في الحياة؟  فأنا لا أرى هذا بوضوح.

يوجد مثال قريب لهذا الأمر حتى أكون صادقًا مع الله تعالى، وهو "النظام الإيراني" كنموذج مواجه للحداثة، وأنا لا أقول أنّ الإسلام يجب أن يبدأ بنظام دولة، فهو يبدأ بعمل اجتماعي، لكن يوجد نظام في إيران أتصور أنه مناقض للحداثة ويحاول أن يناطحها باستمرار، فهو يأخذ من الإسلام لكن لا يمكننا أن نقول أنه نموذج إسلامي مرضيٌ عنه ويعيد نفس التطور الاجتماعي الإسلامي النبوي وليس لهذه الدرجة، أما على مستوى الأفكار فهو موجود، فالقرآن هو الأصل، أما واقعنا الآن على الأقل؛ على المستويات السُنية فلا أرى شيئًا وهذا موضوع ضخم لا أستطيع أن أجيب عنه في عجالة، لذا أتوقف هنا. 

بارك الله فيكم أ. عبد القدوس سماتي، وصلنا إلى ختام هذه الجلسة الشيقة، سعيد جدًا باستضافتكم معنا هنا في صفحة "عمران" على فيسبوك، وسعيد جدًا بالسادة المتابعين، ولا يسعني إلا أن أترك لكم الكلمة الختاميّة.

جزاكم الله ألف خير، وأنا سعيدٌ جدًا بتكريمكم لي بهذا اللقاء، أشكركم كثيرًا وأشكر الإخوة المتابعين وجعل الله هذا في ميزان حسناتكم، ولا أملك إلا أن اختم بما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسم الله الرحمن الرحيم "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".