أحد أبرز المفاهيم الخاطئة والخطيرة في عالمنا العربي والإسلامي، هي أن كون الإيمان غيبيا، يعني أنه شيء غير يقيني وليس أكيدا، واحتماله كبير جدا، لكن لا تستطيع أن تقول مائة بالمائة، بحيث يقولون لك: لا أحد يستطيع أن يجزم بصحة ما لديه وخطأ الطرف الآخر، لأنه غيب في النهاية، وترى من يطبق ذلك حتى على المسألة الكبرى، وهي وجود الله تعالى قائلا: الإيمان هو أن تؤمن بشيء دون وجود كل الأدلة الحاسمة والقاطعة عليه، أي أن الإيمان يحتاج إلى ما يسمى قفزة إلى شيء لا يمكن البرهنة عليه بشكل قطعي.
هذه العبارات تجعل الإيمان بوجود الله تعالى وبالغيب عموما أمرا حدسيا وتخمينيا، لا قطعيا ويقينيا، كما تجعله أمرا يغلبه الظن واحتماله كبير لكنه دون المائة بالمائة، فهل الإيمان بوجود الله تعالى هو كذلك فعلا في المنظومة الإسلامية؟ يقينا، لا، بل الإيمان بوجود الله تعالى هو إيمان بما تدل الأدلة عليه بشكل قطعي حاسم، لا يقبل الشك ولا التردد، وكونه غيبا لا يعني أبدا أنه لا يمكن الجزم به، فهو غيب لا يساوي مبهم أو غامض، ولا يعني أيضا أن الإيمان بالله تعالى هو موقف عاطفي تسليمي محض، بل هو موقف برهاني، واستدلالي، وفطري وعقلي.
الإيمان بوجود الله تعالى هو إيمان يدّلك عليه العقل والفطرة، وذلك دون أن يمنعك عنه مرض القلب أو اتباع الهوى، والغريب أن هذه المسألة التي هي أولى بديهيات الإسلام، ليست واضحة عند بعض من يتصدى لمحاربة الإلحاد، فإن كان الإيمان بالله تعالى عند بعض أتباع الأديان الأخرى قد اختلط بصورة مشوهة عن الله تعالى وصفاته، مما جعل أتباع هذه الأديان يحتاجون إلى القفز في الفراغ والتسليم غير المستند إلى العقل، لكن نحن لا نحتاجه في الإسلام والحمد لله.
وهذا طبعا لا يعني أننا ندعو الناس إلى الإيمان الحدسي العاطفي التسليمي، بل نحن ندعوهم إلى إيمان فطري وعقلي ومبرهن، كما أن التسليم الذي ندعو الناس إليه ليس في مسألة وجود الله تعالى فقط، بل التسليم هو في أمور في تفاصيل الإسلام المبنية على إيمان فطري، وعقلي ومبرهن، حيث يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)، بمعنى الذين آمنوا إيمانا يشمل التصديق الجازم الذي لا يخالطه شك، وليس غلبة الظن، ولا إيمانا احتياطيا ولا إيمانا اعتباطيا.
فالمنظومة الإسلامية تنص على أن وجود الله تعالى عز وجل هو الحقيقة الكبرى، بل الله تعالى نفسه هو الحق والحقيقة، حيث يقول الله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (لقمان:30)، هذا ولشدة بداهة وجود الله تعالى، فإن القرآن لا يجعل هذه القضية محور أدلته ومناقشاته، بل يدلل على شيء زائد عن مجرد الوجود، كالتوحيد وصفات الله تعالى، أما الوجود نفسه فقضية محسومة، حيث يقول الله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (إبراهيم:10)، يعني هل في وجود الله تعالى بعد الدليل الفطري والدليل العقلي شك؟ أو هل في وحدانيته شك؟ فوجوده ووحدانيته أمر فطري مغروس في النفس لا يشك فيه، والبرهان العقلي أنه فاطر السماوات والأرض، فكل ما في الكون يدّل صحيح العقل وسليم القلب على وجود الخالق، حيث يقول الله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:23 – 28).
فالله تعالى رب العالمين أعرف من أن ينكر وأظهر من أن يشك فيه، وذلك إن كنا من أهل اليقين بأي شيء، فإن اليقين بهذا الرب أولى من كل يقين، وإن قلنا لا يقين لنا بشيء، فهذا كذب بيان، فكل إنسان لابد له من يقين بأمور بديهية ضرورية، وإن أنكرنا وجود الله تعالى، فنحن أولى بوصف الجنون، لأنه بذلك تم سلبنا العقل النافع، فبالعقل نستدل على الخالق سبحانه، فإن كان لنا يقين، عرفنا الله تعالى، وإن كان لنا عقل، عرفنا الله تعالى، وبنفس المعنى أيضا جاء مطلع سورة الجاثية، حيث قال الله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (الجاثية:3 – 6)، فالذي عنده يقين، فأولى اليقين، اليقين بالله تعالى وبآياته الكونية، ومن عنده عقل، فلن ينكر ربه ولن تكون عنده مشكلة في أن يؤمن بالغيب، فالذي لا يؤمن بالله تعالى وآياته الكونية مع شدّة ظهورها ووضوحها، فأولى به ألا يؤمن بشيء، لأن الله تعالى وآياته أظهر ما يمكن أن يؤمن به إنسان، حيث يقول الله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات:21)، ويقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (يونس:67)، فالذي لا يؤمن بالله تعالى، كأنه ما أبصر، ولا سمع، ولا أحس ولا عقل، حيث يقول الله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام:149)، فالله تعالى هو الحجة الدالة والبالغة على صدق كلامه، والتي تعني الواصلة إلى ما قصدت لأجله، وهو أن يغلب الخصم وتبطل حجته، وهذا كله في إثبات صفات الله تعالى ووحدانيته وتفاصيل من دينه، فكيف بثبوت وجود الله تعالى نفسه؟