بتاريخ 05 جويلية 2020م مرّت الذكرى الـ: 58 لاستقلال الجزائر، وقد ألّف الدكتور عبد الحميد الإبراهيمي كتابًا قيّمًا وثريًّا سنة 2001م، تحت عنوان: في أصل المأساة الجزائرية، شهادةٌ عن حزب فرنسا الحاكم في الجزائر (1958 ـ 1999)، وهو القامة الجهادية والسياسية والأكاديمية، حيث التحق بالثورة التحريرية المباركة سنة 1955م، وختم مساره السّياسي كرئيسٍ للوزراء بين سنتي 1984 و 1988م.
يتحدّث في القسم الأوّل من هذا الكتاب عن المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد، عن طريق المشروع الديغولي (الجزائر الجزائرية) المؤسّس على (القوة الثالثة)، والاستيلاء على قيادة جيش التحرير الوطني واختراقه بين سنوات (1958 و 1962). ويتحدّث في القسم الثاني عن مشاركة الفارّين من الجيش الفرنسي في انقلابي 1962م و 1965م، ومنحهم الشّرعية في الاستقلال الملغّم، والظروف السّائدة في الجزائر بينهما، حيث يشقّ جيش الحدود طريقه إلى السّلطة ويحسم الصّراع عليها بالقوّة.
ويتحدّث في القسم الثالث عن استيلاء حزب فرنسا على القطاعات الاستراتيجية الرّئيسية، وتفاقم تبعية الجزائر متعدّدة الأشكال لفرنسا.
ويتحدّث في القسم الرّابع والأخير عن توطيد مواقع الفارّين من الجيش الفرنسي، وهجومهم للاستيلاء على السّلطة بين سنوات 1979م و 1988م والتلاعب بالأحداث، إلى الانفجار غير المتوقّع في أحداث أكتوبر سنة 1988م، إلى الحديث عن العشرية الحمراء واللّطخة السّوداء في تاريخ الجزائر.
لقد مثّلت الثورة التحريرية أملاً كبيرًا للاستقلال التام والكلّي، ولكنّ دهاء ديغول ويقينه بحتمية استقلال الجزائر جعله يتطلّع إلى تأبيد البقاء السّياسي والاقتصادي والثقافي لفرنسا فيها.
وذلك ببروز (قوة ثالثة) من متعاونين مدنيين وعسكريين موالين لها، بالإضافة إلى تنظيم عمليات تسلّل الفارّين من الجيش الفرنسي واختراقهم لجيش التحرير الوطني ابتداءً من سنة 1958م، عبر جيش الحدود بتونس ليكتسبوا الشرعية التاريخية وصِفة المجاهدين، وليُشرِفوا على المؤسّسة العسكرية بعد الاستقلال ومن أعلى المستويات، والتي ستتشكّل من القوّة المحلّية. وهي أقلّيةٌ ألهب جوانحها الطّموح المفرط للاستيلاء على السّلطة بالقوّة لتحقيق سياسة المسخ الثقافي والحضاري للشّعب الجزائري، مستغلّة الصّراعات التي هزّت جبهة التّحرير وجيش التّحرير أثناء الثورة وبعد الاستقلال مباشرة، لتتمّ تصفية وتهجير القيادات التاريخية المفجّرة لها، واستبدالهم بأبطال الاستعمار الجديد، ويمكن تتبّع مصير أحمد بن بلّة وحسين آيت أحمد ومحمّد بوضياف وعبان رمضان وكريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوالصّوف وغيرهم لتعرف حجم المأساة في سرقة الاستقلال والانقلاب على الثورة.
فبعد وصول ديغول إلى الحكم عقب انقلاب 13 ماي 1958م، سعى إلى ترجمة استراتيجيةٍ شاملة للانتقال إلى الاستعمار الجديد، بعد قناعته الحتمية باستقلال الجزائر، ولا يختلف المؤرّخون في أنّ الطاقة العدوانية التي خاضها ديغول ضدّ الثورة التحريرية هي الأكثر ضراوة والأشدُّ عنفًا، والتي لم يسبق لها مثيلٌ في السّياسة القمعية والوحشية.
ولكنّه في نفس الوقت كان يسعى إلى الانحراف بالثورة عن مسارها الذي رسمه بيان أول نوفمبر 1954م، وكانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى تعزيز الحضور والنفوذ الفرنسي في الجزائر بعد الاستقلال الشّكلي والملغّم وإلى الأبد.
وذلك وفق استراتيجية تجسّد مشروعًا خبيثًا يحمل شعارًا مغريًّا وجذّابًا اسمه: الجزائر الجزائرية، للتجديد والتمايز عن المشروع القديم: الجزائر الفرنسية، لاستدراج الجزائريين (مدنيين وعسكريين) وتفريغ جبهة وجيش التحرير الوطني من عمقهما الحقيقي، عبر ما سُمّيَّ بـالقوّة الثالثة، وذلك بتنظيم عمليات التسلّل والاختراق للثورة عن طريق الفارّين من الجيش الفرنسي.
ويمثّل مشروع الجزائر الجزائرية الخلفية الفكرية والإيديولوجية والسّياسية للاستعمار الجديد، وهذا المشروع لا يشكّل في ظاهره حرجًا للمنخرطين فيه بحسن نيّة أو بسوء، فلا يمكن وصفهم بعملاء فرنسا وخدّامها، ولكنه كان يهدف في جوهره إلى فصل الجزائر عن أمازيغيتها وعروبتها وإسلامها، ولذلك نجد الآن مَن يدعو إلى اللّغة الجزائرية أو اللّهجة العامّية كبديلٍ عن اللّغة العربية الفصحى؟؟ وتبدو فرنسا بهذا المشروع أنّها تقبل بمبدأ استقلال الجزائر، ولكنه استقلالٌ شكليٌّ وملغّم ومفرّغ من محتواه، عندما تُفصل عن بُعدها وعمقها الحضاري (الإسلام، العربية، والأمازيغية) وتبقى مشدودة عضويًّا بفرنسا، وخاصة في المجالات والقطاعات الاستراتيجية عبر التعاون والتشارك معها.
ولذلك نرى هذا الحرص على الإشعاع الثقافي الفرنسي وهيمنة اللغة الفرنسية كغنيمة حرب، وكخلفية إيديولوجية وليست كضرورةٍ علمية وتكنولوجية، واغتيال اللّغة العربية والأمازيغية في عقر دارها على مذابح اتفاقيات إيفيان، وبالمقابل يتمّ عزل الإسلام تحت غطاء مدنية الدولة وفصل الدّين عنها، كما سيتعلق البعض بالفرنسية أكثر من الأمازيغية التي لا بواكي لها، وسيؤجّل تحقيق أهداف الثورة إلى أجلٍ غير مسمّى، المنصوص عليها في بيان أول نوفمبر بـإقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية.
كما اشتغل ديغول منذ 1958م على القوّة المحلية أو جيش الجزائر الجزائرية، والذي سيمثّل حزب فرنسا الحاكم في الجزائر، والذي يتشكّل من:
- الحرْكيين: وهي وحداتٌ إضافية من الفرنسيين المسلمين كسكّانٍ أصليين عارفين بالميدان للقتال بنجاعةٍ ضدّ جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني، وقد بلغ عددهم بين (1954 و 1962) حوالي 200 ألف حسب وزارة الجيوش الفرنسية، وقد تُركوا لمصيرهم بعد الاستقلال ولم يسمح إلا لحوالي 05% منهم للالتحاق نهائيًّا بفرنسا، بينما طُلب من الآخرين بتنظيم إعادة دمجهم اجتماعيًّا، وإبقائهم تحت حماية الجيش الفرنسي لمدة 06 أشهر كأعوانٍ مدنيين متعاقدين، أو دمجهم في القوّة المحلّية (حزب فرنسا القادم).
- المخازنية: ففي سنة 1955 تمّ إنشاء أولى الأقسام الإدارية المتخصّصة (la SAS) كنوعٍ من تطوير النشاطات البسيكولوجية، وربط العلاقات المباشرة والمتعدّدة بين الجيش الفرنسي والشّعب الجزائري، وقطع الطريق عن جبهة التحرير الوطني وتجذّرها في الأوساط الشّعبية، وتتحرّك هذه الأقسام على 04 محاور أساسية: سياسية واجتماعية وإدارية وعسكرية قصد استعادة التحكّم في السّكان، وجعلهم موضع الثقة في فرنسا، والتجنيد والجمع المنظّم للمعلومات عن الثورة، وقد بلغ عددهم في سنة 1956م حوالي 680 قسمًا، موزّعًا على 13 عمالة، تشغّل حوالي 20 ألف مخزني..
- المفارز المتنقلة للحماية الرّيفية: والتي أصبحت تسمى سنة 1956م بالمفارز المتنقلة للأمن (GMS)، وتتمثل مهمتها في التدخل والحماية والحفاظ على الأمن، خاصة في الأماكن التي لا تحوز على التغطية الكافية للجيش الفرنسي من أجل حماية المؤسّسات والشخصيات العمومية، ويقدّر عدد أفرادها سنة 1962 بحوالي 10 آلاف..
- مفارز الدّفاع الذاتي: وهي امتدادٌ للجيش الفرنسي وهو مَن يقوم بتسليحها، وتقوم بمنع جبهة وجيش التحرير الوطني من دخول المداشر والقرى والمزارع للتموين وجمع المعلومات للثورة، وبلغ عدد أفرادها سنة 1962م حوالي 60 ألف.
وبحسب 04 مصادر مختلفة فإنّ مجموع العسكريين والإضافيين (الفرنسيين/ المسلمين) المتعاونين مع فرنسا في مارس 1962م يتراوح عددهم بين (180 ألف و225 ألف).
وبعد تشكيل القوّة المحلية المنصوص عليها في اتفاقيات إيفيان، فقد تمّ انتقاء 60 ألفًا وبعنايةٍ مركّزةٍ من بين هذه الوحدات السّابقة، وهم الأشدُّ ولاءً والأكثر إخلاصًا لفرنسا، وهي النّواة الصّلبة لـحزب فرنسا الحاكم في الجزائر بعد هذا الاستقلال الملغّم.
وهكذا وبعد أن أخفقت فرنسا في تكسير جبهة وجيش التحرير الوطني في حربٍ هي الأكثر ضراوةً والأشدّ قسوةً في العصر الحديث، اتجهت وبكلّ برودةٍ إلى تكييف استراتيجيتها لتشكيل هذه القوّة المحلّية من المتعاونين معها.
بعد أن ضبطت خطة اختراق جيش التحرير الوطني من طرف هؤلاء الفارين من الجيش الفرنسي، وتهيئتهم - في اللّحظة المناسبة - للإشراف على قيادة أهم مؤسّسة استراتيجية ستحكم الجزائر بعد الاستقلال..
والمشكلة ليست في هذه القوة المحلية، فقد فشلت وحُلّت بعد إصرار ورفض جبهة وجيش التحرير الوطني لها وعاد بعضُ أفرادها إلى بيوتهم تاركين وراءهم العتاد العسكري والتحق البعضُ الآخر بفرنسا مباشرة، ولكنّ المشكلة في الذين تمّ دمجهم في الإدارة والجيش الوطني الشّعبي بعد الاستقلال، وترقّوا في مناصب المسؤوليات السّامية والعليا للدولة بعده، ممّا جعل هذا الاستقلال ملغّمًا وإلى الآن..