ما رأيك في اِمتلاك منزل على البحر مع سيارة فخمة وثروة كبرى لاقتناء السلع وكل الأشياء التي تحلم بها لغرض التمتع وإبهار الناس من حولك؟
هل نبض قلبك وشعرت برغبة طاغية تسيل في دمائك، لامتلاك الثروة والمكانة والسلطة والهوس بالحصول على كل شيء؟
إننا نعمل جاهدين للحصول على أكبر قدر من المال ظنا منا أنه وحده لا شريك له هو القادر على إسعادنا. إنها عملية خداع نمارسها على أنفسنا بشكل يومي بسبب سطوة المال على الحياة وتحريكها وجعلها مرتبطة ارتباطًا دائما وثيقا به، مما يجعلنا بدورنا مهووسين بطريقة ما للحصول على المزيد.
أطمئنكم بأن الهدف من المقال ليس أن نعيش حياة فقيرة في الكهوف والجبال، ونرتدي ثيابا مرقعة، ونكتفي بأكل الخبز والماء. وإنما لنحيا حياة عظيمة مع النظر إليها بعين الزوال.
فلنطمح لامتلاك الحدائق الخضراء الواسعة، لكن دُون أن ننشغل بها وتنسينا الاستمتاع بالورود الصغيرة التي تحت النافذة.
1- المــــــال:
المال في حد ذاته مجرد عملة ليس لها قيمة، لكن قيمته تكتسب من قدرته الشرائية للمنتجات والخدمات، وبالتالي نرغب في كسب المزيد منه للحصول على الأشياء الضرورية التي نحتاجها من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، مع بعض الكماليات من زينة وعطور وترفيه.
فهو إذا وسيلة لشراء المقتنيات، وكلما حصلنا على المزيد منها أصبحت الحياة أسهل فنشعر ببعض السعادة.
فهل يمكن للمال أن يشتري السعــادة؟
وهل تزيد السعــادة بزيادة الأمـوال التـي نملكها؟
يقول البعض إن المال يجلب السعادة وهو أحـد مسبباتها، ستتمكن من شراء كل ما يحلو لك، وتتخلص من ديونك التي ترهقك نفسيا، بينما يقول البعض الآخر: إن السعادة لا علاقة لها بالمال، فهناك الكثير من الفقراء سعداء، والكثير من الأغنياء لم يجدوا السعادة التي ينشدونها.
فهل هناك علاقة بين السعادة والمال؟
دعونا نبتعد عن الآراء الشخصية ونطلع على الأبحاث التي أجريت بهذا الخصوص، فقد أثبتت دراسة منشورة في المجلة العلمية Emotion أنه بالفعل هناك علاقة بين السعادة والمال، فالشخص الذي لا يشغل نفسه بتوفير وجبة عشاء لأبنائه، سيكون غالباً أسعد من المعدوم الذي يرى أبناءه جوعى ولا يملك المال الكافي لشراء ما يسد جوعهم.
لكن تلك الدراسة وصلت لنتيجة أخرى أيضا وهي أن علاقة السعادة بالمال تنتهي عند وصول الشخص لمرحلة الاكتفاء بالحاجات الأساسية كالمسكن والمأكل والتنقل مع بعض الكماليات من زينة وترفيه.
فأظهرت الدراسة أن بعد تحقيق نمط المعيشة المتوسط ينتهي دور المال في خلق السعادة، وتدخل عوامل أخرى كثيرة، كالعلاقات الاجتماعية المتميزة، والأسرة المتماسكة، والعطاء الخيري، والشعور بالرضا النفسي، وغيرها من الأمور.
يقول أحد الأثرياء في مجلة فوربس الأمريكية: "خلال الشهر الأول الذي تقود فيه سيارة من طراز رفيع وتتناول طعامك في مطعم فاخر، فإنك تستمتع بذلك حقا".
لكن بعدها سيصبح الأمر معتادا بالنسبة لك وستبحث عن شيء أفضل وهكذا. كما أنّ المنتجات التي كنت تتمنى الحصول عليها قبل الثروة عندما تحصل عليها بعد ذلك، لن تكُون بتلك القيمة التي كنت تتخيلها، سيتسربُ إليك الملل سريعا.
ليضيف: "لقد وجدت أن توفر المال الكافي لشراء أي منتج أفقدني الإثارة والرغبة في الأشياء التي كنت أسعى إلى اقتنائها قبل أن أصبح ثرياً".
فإذا كنت تتمتع بدخل متوسط يغطي مصاريفك الأساسية مع توفير بعض الكماليات للسفر والترفيه وشراء بعض الأشياء الثانوية، فلا تظن أن زيادة المال ستجلب لك المزيد من السعادة، بل عليك أن تركز وتوجه وقتك لأمور أخرى تحقق فيها التوازن كالحب ومساعدة الآخرين وتمضية أوقات جميلة مع الأهل والأصدقاء وممارسة بعض الهوايات وكسر الروتين.
أما إذا كان دخلك أقل من المتوسط، فيكفي القيام بخطة لزيادة دخلك والعمل عليها، كالقيام بمشروع خاص لو كنت موظفا، أو العمل على تطوير مشروعك.
لكن إياك أن تجعل كل همك القيام بذلك، بل اِعمل على زيادة دخلك دُون أن تنسى التمتع بما تملك.
فإذا لم يكن لديك قدرة على السفر حول العالم يمكنك التنزه مع الأصدقاء في الغابة والعزف والطهو معا، وإن لم يكن لديك المال لممارسة الرياضة في النوادي يمكنك ممارسة الرياضة على الشاطئ وهكذا.
كما أنّ ربط السعادة بالمال أمر غير صائب، فلا توجد سعادة دائمة أو حزن دائم، بل كل إنسان تمر عليه أوقات حزينة وأوقات سعيدة، حسب الظروف التي يمر بها، وحسب استغلاله للأوقات.
2- المقتنيات:
وهي المنتجات التي يشتريها المرء لاستخدامها مباشرة لغرض إشباع احتياجاته ورغباته، ويحصل عليها عادة من المتاجر.
ومن مواصفات هذه السلع قيام المستهلكين بشرائها عند الاحتياج إليها، ويتأثر قرار شرائها بالدافع الشخصي للمستهلك، وهذا الدافع هو الذي يصنع الفرق.
فعندما نرغب في شراء هاتف نتواصل به مع الآخرين واِستعمال خصائصه الإضافية فهذا أمر جميل حقا، لكن حين نسعى لتغيير هاتفنا بشكل جنوني بهدف الحصول على آخر نوع في السوق، وحين لا نحصل عليه نشعر بالضيق والقلق بسبب قلة المال، فلقد وقعنا حينها في بوابة الجحيم!
لأن الدافع حينها لا يصبح الحصول على شيء نريده، بل نرغب في شرائه فقط بدافع التباهي والتفاخر أو لنشعر أننا أفضل وليس أقل من الآخرين!
وتلك مجرد أوهام نصنعها في خيالنا المريض، حيث نضع حجابا كثيفا على عقولنا لنلبي غرائزنا الحيوانية، وميولنا النفسي الفاسد.
حيث نقيس قيمة الشخص بما يملك من سيارات وعقارات وممتلكات وليس بما يملك من أفكار ومواهب وقدرات، لكن قيمة الإنسان الحقيقة ليست بما يملك بل بما يمنح. فلقد أنزل الله تعالى آياته لتعيدنا إلى جادة الطريق، حيث يقول المولى عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. فهي آية ترسخ القيم والمبادئ التي خلقنا من أجلها. وهنا مقياس التفاضل بين البشر.
حين يلغي رب العزة العظيم الفوارق كلها التي خلقنا عليها، وتبقى قيمة سامية هي تقوى الله تعالى، هذه الآية تؤكد وتخبر بأن الأكرم والأفضل هو الذي يمتثل لأوامر الله ويجتنب نواهيه.
وطبعا هنا التقوى بمفهومها العام، من أخلاق وقيم ومساعدة للآخرين وتجنب النواهي وإتباع الأوامر والتصدق وفعل الخيرات، فالمقصد العام يكون إصلاح الأرض والعيش بسلام فيها، والعمل على الفلاح في دار الآخرة.
3- حب الذات:
وهي حالة تقدير للنفس يعجب فيها الإنسان بمميزاته وقدراته بشكل مقبول، ويحاول تعزيزها وتطويرها، فهي حالة طبيعية تساعدنا على تحقيق الأهداف والوصول الى النجاح، وهي التي تخلق أيضا حافز التنافس بين الناس لإخراج أحسن ما لديهم من إبداعات ومواهب.
وذلك بهدف الوصول إلى المراتب الأولى والحصص الأكبر، وهي السبب الأول في التقدم والإنجاز في المجتمعات، وعند الفشل في المنافسة أو الإحساس بأن الآخرين تفوقوا علينا في أي أمر حتى لو كان بسيط، تشتعل لدينا مشاعر الغيرة.
والغيرة ليست بأمر مذموم كما يتصورها البعض، بل هي مشاعر طبيعية، تشكل لنا دافعية نحو المحاولة للتقدم لإنجاز الأفضـل من السابق والتفوق على المنافسين.
إلا أنه عندما تتحول مشاعر الغيرة الى مشاعر الحسد، حيث يتمنى المرء زوال النعمة من غيره والحصول عليها هو فقط!
فحينها يقعُ المرء في بوابة الجحيم، وعليه مراجعة نفسه، لأنه جعل ذاته مركزا للكون دون الاهتمام بالآخرين، حيث يتحول حب الذات إلى الغرور والتكبر واِحتقار الآخرين واستصغارهم وتسفيه آرائهم، والسعي إلى السيطرة عليهم ، مما يوّلِد أضرارًا بالغة في المجتمع، من عدوان ومكيدة، ورغبة في إفشال جهود الآخرين وتخريب أعمالهم وإنجازاتهم بأي وسيلة.
وهنا يجب أن يدرك الشخص أنه لا أحد يتسم بالكمال ولا أحد دوما على حق، وينظر إلى نقاط ضعفه ويعترف بها، ويعلم أنّه معرض للوقوع في مواقع محرجة أو حالات ضعف، ومن الطبيعي أن يحصل آخرون على أشياء أكثر أو أفضل منه، فيقبل ذلك ويصحح نظرته لذاته.
حينها فقط يصبح الانسان قادرا على تقبل الأشخاص المتفوقين عليه، ويطمح للوصول لأعلى المراتب دون أن يلحق ضررا بهم، لأنه يكُون مقتنعا وراضيا بما يملك من قدرات، فإذا حقق المزيد شعر بإحساس جيد، وإذا لم ينجح لن يشعر بمشاعر الكره والحسد تجاه الآخرين.
4- التفاخر:
يتفاخر الناس بالمنازل والسيارات والمناصب والجمال، وهُناك أشكال عديدة للتباهي قد طفحت على السطح عند ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وذلك باستعراض المقتنيات الثمينة أو بالسفر عبر العالم وزيارة أفخم الفنادق، وهناك من يتفاخر باللقب أوالمكان الذي يعيش فيه، بل قد يتباهى المرء بإنجازات غيره كحصول ابنه على درجة تميّز!
فتفشت العدوى بين فئات كبيرة في المجتمع، ليسلبوا من حياتهم معانيها الإنسانية مقابل التباهي والاستعراض.
تحوّلت تلك الممارسات إلى إدمان نلهث خلفه بأعداد كبيرة لنتنافس بيننا بأشياء مادية، وذلك لأننا أصبحنا دون قيمة حقيقية، فلم يعد لنا فكر أو موهبة أو عقل لنستعرض مهاراتنا ونفيد الآخرين، لذلك أصبحنا نستعرض لباسنا الذي يستر عورتنا، نظن أن التباهي بما نلمك قد يجعل الآخرين ينظرون الينا كأشخاص ذو شأن.
لكن عكس ذلك ما يحدث تماما، فغالبا لا يبالي بنا الأشخاص أو لا يشعرون تجاهنا بالحسد، مما ينمي لديهم الكره والحقد، مما يدفعهم ليتحدثوا عنا بالسوء أو حتى النيل منا.
استعراض النجاح الحقيقي يكون بما تقدمه من عطاء وإنجازات، فحينها لن تحتاج الى التحدث عن نفسك لأن الآخرين سيفعلون ذلك عوضا منك.
عندما نتابع حياة شخص مثل "غاندي" نجد أنه عاش حياةً متواضعة بين الناس، فلقد كان يرتدي دوما زيًّا بسيطا ويأكل مما يسد جوعه، لكن مع ذلك يذكر اسمه في جميع أنحاء العالم بفخر واحترام، وذلك ليس بنوع السيارة التي قادها أو المنزل الذي اِمتلكه، لكن بما قدمه من أعمال وإنجازات تحسب له.
للخروج من بوابة التباهي يجب أن نجرب التعاطي بعفوية مع المحيطين معنا والتحدث عن إمكانياتنا المحدودة بارتياح، بعيدا من ضغوطات التظاهر والتمثيل والتصنع. قد يكون ذلك أمر صعب على البعض في البداية، لكن مع مرور الوقت سيتعود وسيشعر بثقة عالية في النفس لم يشعر بها من قبل.
كما أن الاهتمام بمضموننا الداخلي أي القيم من أخلاق ومبادئ وعطاء حقيقي، كفيل بإعطائنا شعورا بالرضا عن الذات والثقة والاكتفاء، مع إدراك أن المجاهرة بما نمتلك أمام الآخرين، لن تضيف لنا أي شيء.
5- عادات مقدسة:
لقد اِعتدنا على العيش بطريقة تتوافق مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، أمور اعتدنا على وجودها بشكل أو بآخر رغم غرابة أو سذاجة بعضها، في العادات والتقاليد ليست بأمر مقدس كما يعتقد البعض.
فهي تنشأ من خلال قيام شخص في الماضي بشيء معين، فيتم تقليده من أقربائه وأبناء منطقته، فتنتشر العدوى على هذا الشكل، ومع مرور الوقت تصبح عادة في المجتمع!
ومع ذلك يجد البعض صعوبة في الاستغناء عنها للسير مع التيار، أو لأن اعتقادهم بأنّ التغيير قد يعرضهم للاستهزاء وتشويه السمعة!
لكنه منطقيا لا يجب التقيد والالتزام الصارم بجميع الأفكار السائدة من دون تحري حقيقتها والتفكير في مدى منفعتها.
فإذا كانت أفكار ستجلب لك مصلحة أو ستعود عليك بالنفع فلا مانع من القيام بها، أما إذا كانت مجرد أفكار سائدة لا منفعة منها فلا داعي للتقيد والالتزام بها. وبذلك ستبدأ في التحرر من الشوائب، وستشعر أنك تتحكم في حياتك بعيدا عن تسيير وتدبير الناس. كما تساهم أيضا بدورك في القضاء على العادات المتخلفة من المجتمع.
في الختام لا تجعل الدنيا غاية لنفسك فتسعى للحصول عليها بأي ثمن كان، وبأي وسيلة ممكنة، بل اِجعل الحياة وسيلة للعيش بسلام داخلي مع نفسك، من خلال احتقار الأشياء التي ترى أنها ذات أهمية، والنظر إلى الدنيا بعين الزوال.
فنحن نشعر بالحرج من الفقر والضعف والفشل، بل نشعر بالحرج حتى عند الكلام أمام الناس بشكل خاطئ، ونسعى جاهدين لتغيير تلك المواقف والصور باختلاق الأكاذيب والمبررات كأننا آلهة لا نخطئ ولا نضعف فيجب التصرف بشكل عفوي على صورتنا الحقيقية، دون تصنع وتعلق زائد بالدنيا، لأننا ببساطة لسنا خالدين.
كل شيء يخبرنا بذلك لكننا لا نود الإصغاء الى تلك الأصوات، لا نحبها فهي لا تتوافق مع رغبتنا في الخلود والبقاء والانتشار.
لكن كلما استحوذت عليك الدنيا، يكفي أن تتذكر جبريل عليه السلام، لــما قال: "عِــــشْ مــــا شـــئـــت فإنـك ميـــت".