للأسف التركيز في زمن الانترنيت أصبح صعبا جدا... 

وأنت ربما تقرأ هذا المقال، وتفقد التركيز، وتنتقل إلى مقال آخر، أو موقع إلكتروني آخر.

التنقل بين مواقع الأنترنيت و تبويبات المتصفح الكثيرة، زيادة على مواقع التواصل الاجتماعي وفيديوهات يوتيوب... وكأن العقل أصبح قردا، يقفز من شجرة لشجرة، وغير قادر أن يثبت على شجرة واحدة وقتا كافيا.

كل صفحات الشركات الإلكترونية، والمواقع، والإعلانات، تريد أن تخطف تركيزك إليها. عندهم فرق متخصصة، لدراسة نفسية المُستهلك، ومحاولة الاستحواذ على وقتنا لصالحها.

نعم يتم تدريبنا وتربيتنا على التشتت!
إذا وجدت نفسك كل يوم تسأل أين أنا؟ 

فإنك غالباً ضيعت الوقت في التشتت بين حاجات كثيرة، ليست مهمة، بدل من التركيز على شيء واحد، يكون له إنتاجية فعالة، وعائد واضح.

"وآفة المتعلمين اليوم، إنما تكمن في العجلة، فما أن تطأ قدمه رحاب علم من العلوم، حتى يرجع بصره في كتبه وفنونه وعلمائه، فيرتد عليه بصره، مُشيرا عليه برأي فاسد، مفاده: أسرع، اقرأ هذا بسرعة، وذلك في ليلة، والمهم هو الفهم، فالحفظ يُضيع الوقت، نريد أن نصل، لا تقعد هكذا، آخر وساوس السوء هذه، فترى الواحد من هؤلاء يُمسك بكتاب اليوم، وبآخر غدا، ويضع البرنامج بالليل، ليُهدمه بالنهار" (1)

ويقول جون ماكسويل في نفس السياق «إن تكريسك جزءا بسيطا من نفسك لكل شيء، يعني التزامك الشديد تجاه لا شيء" (2)

المُشتتات فهي مثل المُسْكْرات، تُعطي للمدمنين متعة مؤقتة، لكنها تورثهم الاكتئاب، والهم والحزن فيما بعد. 

لا تضيع عمرك في أشياء رخيصة وتافهة!

إن كثرة الملهيات من أدوات الترفيه، والتسلية، والتي انتشرت بكثرة في عصرنا، من موادَّ مرئيةٍ، ومسموعة، وألعاب مختلفة ومتنوعة؛ زيادة على إشعارات البريد الإلكتروني، والرسائل النصية عبر الهاتف النقال، أو الأفراد الذين يسيرون في اتجاه نظر الفرد المنشغل بعمل ما، إلى جانب كثير من العوامل الأخرى، التي يصعب تجاهلها طوال ساعات العمل، هي أيضا من عوامل التشتيت الذهني..

فكلما زادت الأمور الملهية، أو التافهة التي تشد انتباهنا، زادت صعوبة اختيار ما يجب التركيز عليه. لذلك يجب أن يكون هدفنا الأول، والأهم هو إيجاد "حِمية التركيز" للحد من المُلهيات، والمشتتات التي نتعرض لها.

من وسائل الحمية لمعالجة التشتت:
  • الاستعانة بالله عز وجل: والاستعانة بالله هي من أهم أسباب النجاح؛ فإن كل الأمور معلقة بإرادة الله تعالى وتوفيقه؛ قال الله سبحانه "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ". سورة غافر، الآية 60

وكما قال الشاعر:

إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى *** فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتَهَادُهُ

  • التخطيط: دائمًا يكون التخطيط أساس النجاح -بعد توفيق الله عز وجل- في أي عمل تقوم به، وإلى تركه يُعزى فشل كثير من الأعمال؛ كما يقال"من لم يخطط للنجاح فهو يخطط للفشل" لذلك وضع خطة يومية، وأسبوعية، وشهرية، مما يساعد على التركيز وعدم التشتت، ويساعد على ترتيب الأعمال، والأفكار؛ ويقلل الجهد، ويزيد من الإنتاجية. و"كلما كانت المهام مُرتبَّة، وواضحة في رأسك، كلما سهل عليك تنفيذها في وقت قياسي".(3)
  • تحديد الأولويات: بأن ينظم الإنسان أولوياته في الأعمال؛ ليعلم ما الذي يبدأ به أولًا؟ وما الذي يؤجَّل؟ ويرتبها حسب أهميتها. وكما يقول جاك كانفيلد"عندما تركز معظم وقتك، وطاقتك على القيام بالأشياء التي تتفوق، وتتألق فيها حقا، فسوف تجني مكاسب ومميزات كبيرة آخر الأمر. هذه حقيقة أساسية، وهي ضرورية للغاية لنجاحك المستقبلي".(2)

لذلك «إذا أردت أن تزيد من تركيزك وفعاليتك لمستوى لم تصل إليه من قبل، فاتخذ قرارا بوضع أولويات في حياتك، واحرص على إدارة القاعدة الانضباطية الخاصة بالأولويات يوميا".

  • عدم التأجيل: إن تأجيل الأعمال، وتراكمها، يسبب التشتت، وعدم التركيز، لذلك الحل لهذه المشكلة، هو المبادرة لإنجاز الأعمال، بحيث قد يكون لديك مليون عذر تَحُول دون بدئك الآن، ولكن في أعماق قلبك لا يوجد واحد منها أقوى من رغبتك في التغيير، وتنمية ذاتك، ورغبتك في تحقيق النجاح.

قال ابن المقفع: "إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لا راحة لك، إلاَّ في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك".(4)

ولسوء الحظ فإن كثيرا ينتهجون نهجا في منتهى السلبية تجاه حياتهم، إذ لا يبادرون في يومهم، وينتظرون الغد المأمول، الذي قد يأتي، أو لا يأتي.

لذلك لا داعي للتسويف والمماطلة في البدء بالأعمال المهمة والمفيدة.

وقد عقَد الخطيب البغدادي بابًا في كتابه "اقتضاء العلمِ العملَ" بعنوان: باب ذم التسويف [ص 113]، وقد جاء فيه: قِيلَ لرجلٍ من عبد القيس: أَوْصِ، فقال: احذروا (سوف).

  •  التعلم الذاتي المستمر: يُكسب الفرد مجموعة من المهارات، والخبرات. فيمكن للتعليم الرسمي أن يمنحنا الأدوات التي نحتاجها، لكي نصبح متعلمين مدى الحياة، ولكن التعليم الذاتي يمنحنا الأدوات اللازمة لنصبح فاعلين، ومبدعين في مجالات مختلفة مدى الحياة. وهناك قائمة طويلة بأكثر الأشخاص نجاحا في العالم، الذين اعتمدوا على التعليم الذاتي في تطوير قدراتهم الإبداعية.

وفي عالم الأعمال أقوى الشركات، وأكثر رواد الأعمال نجاحا، وثراءً مثل: بيل غيتس، مارك زوكربرج، ستيف جوبز وكثيرون اعتمدوا على ذواتهم في تطوير إمكاناتهم، وتمتعوا بقدر كبير من مهارات التعليم الذاتي في اكتساب المعرفة، مما يؤكد أن التعلم الذاتي مفتاحُ النجاح الحقيقي.

التعليم الذاتي جزء حيوي من نمو الفرد وتطوره، فهو يساهم في بناء وعيه ومعارفه، ويساعد في تطوير المواهب، وتحسين المهارات الشخصية، وصقل المهارات، ويرتقي بالفرد من مدارك الجهل والخمول، إلى مراتب أرباب الحكمة والعقول. ويدفعه إلى التحفيز المستمر والإلهام، ويساعده ليكون أفضل نسخة من نفسه، ويساهم في تعزيز مهارات التفكير خارج الصندوق، من خلال طرح الأسئلة، ومحاولة العثور على أجوبة، وحلول مبتكرة للمشاكل. كما يساهم التعلم الذاتي والمستمر، في تنشيط الدماغ، وفتح آفاق جديدة للابتكار والتفكير الإبداعي، وبالتالي القضاء على التشتت، وتحقيق التركيز، والزيادة في الفعالية والإنتاجية. 

اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، واجعل غدنا خيرا من يومنا، واجعل خيرنا في دنيانا، وآخرتنا، واحشرنا في زمرة المتقين.