لكلٍ منا طريقته في التفكير ومنهجه في التدريس وعمل الأشياء وصولا إلى أفضل النتائج، وما يحدد صحة هذه الطريقة أو تلك، هو نسبة المتفاعلين مع الأساليب والاستراتيجيات المتبعة لحصد أعلى نسبة من النتاجات المتوقعة والأهداف المرصودة.
وما يميز كل أسلوب عن آخر -برأيي الشخصي- هو انسجام تلك الأساليب المتبعة مع ماهية الفكرة المدروسة وما أنتجته من علاقات تدريسية وتفاعلات مع مجتمع التعلم ضمن البيئة الصفية الواحدة، فكل أسلوب ناجح، ما دام قد جاء منسجما مع موضوع الدرس المطروح وقد تفاعل لتنفيذه أكبر عدد من المتعلمين وفي ذات الوقت أقدموا على التعلم تغمرهم الرغبة وتجذبهم الطريقة والاستراتيجية والتقنية، جنبا إلى جنب مع حب خالص للمعلم الذي تشرب قيم الإنسانية وارتقى بحبه للتعليم. وانعكس ذلك على دافعية طلابه عيوناً تلمع وأعداداً غفيرة تقبل على حصته الدراسية وأداء أكاديميا عاليا وتحصيلا رقميا جميلا.
كل هذه الأمور لا بد تعكس بطريقة من الطرق فاعلية عملية التدريس ونجاعتها، وبالتالي نكون قد رصدنا عوامل جذب للطلبة نَدُر أن تجتمع عند عدد من المعلمين إلا من أقبل على التعليم بحب خالص وشغف غير منته ولا يتأتى ذلك للمعلم إلا بتوفير بيئة صحية يستطيع من خلالها أن يحرز إبداعا وتفوقا في مجاله مع طلبته.
والقاعدة تقول: إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع. فالمعلم إذن بحاجة إلى الموهبة والرغبة تشحذهما العزيمة والتدريب والتأهيل والتدريب والمران المستمر، فإذا وجد نفسه في بيئة خصبة كانت ثماره يانعة تؤتي أكلها طيبة في بناء جيل مدرب واعٍ فاهم مقبل على التعلم.
أما إذا وجد نفسه في بيئة معدومة الإمكانات فلا تسأل المعلم عن سبب تقصير أو انعدام المبادرة لديه، فقلة الحيلة أعيته ورمت كل رغبة وحب للتعليم والتعلم ونقل الخبرة خارج الأسوار. يكون قد حاول جهده ووجه بلا عالية أو لم يجد الدعم الكافي سواء أكان المعنوي أو المادي بما يتطلبه من تجهيزات وإمكانات، حاول مرة وثانية وثالثة وكان نفس الرد بالرفض والتعزير عوضا عن التعزيز فانكفأ على نفسه وبات يلعن نفسه حين فكر يوما أن يكون معلماً. غاب يبكي حلما راح أدراج الرياح.
أعود لأقول: كل قارئ لهذه الكلمات، له حق في أن يوافق أو يخالف، لكن عليك بالحجة والبرهان وإثبات الدليل، فما نراه اليوم في ظل الظروف الاستثنائية التي نعيشها (جائحة كورونا) التي شملت العالم والكرة الأرضية (شرقها وغربها، شمالها وجنوبها) ترانا كلنا مجبرين نحو التوجه إلى الدراسة والتعلم عن بعد، فهو أمر فرض علينا ولم نكن مخيّرين فيه البتة.
والسؤال يبقى يفرض نفسه على ساحة البحث: لو حق لنا أن نقيم عملية التعلم عن بعد بين النجاح والفشل، بدرجات ونسب مختلفة، فلن يكون ناجحا خلواً من الأخطاء والعثرات، وكلمة (فاشل) صعبة جداً على وقعنا سمعا وإنجازاً، فلا بد من وجود ملامح للنجاح.
فكم هم عدد الطلاب الذين توافرت لهم دعائم وركائز قادرة على تحقيق الفاعلية المرجوة من عملية التعلم عن بعد، وكم عدد الطلاب الذين تمايزوا عن سواهم بعملية التفاعل عبر الشاشات؟ وكم هم عدد الطلبة الذين انفردوا بعملية التعلم دون مساعدة ودعم من أولياء أمورهم؟
في العائلة الواحدة تجد خمسة أطفال على مقاعد الدراسة إن لم يكن عددهم أكبر من ذلك، وكل منهم ينتظر دوره ليحصل على جهاز الخليوي الخاص بأمه أو أبيه ليحضر حصصا أو يقدم امتحانًا. لست أقدم الأمر بصورة تشاؤمية كما يتهمني البعض من القراء وأسمعه بأذني يقول ذلك. لكنها الحقيقة التي أغفلها الكثير وأغمض عينيه عنها، فكنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال .
ناهيك عن أن عملية التعلم والفاعلية المطلوبة منه لا تكون فقط بحشو المعلومات في رأس الطالب، واجترارها منه بعد ذلك من خلال الامتحان، لكن العملية التعلمية أكبر من ذلك بكثير، نسينا أننا نتعامل مع آدميين من دم ولحم، وفيهم الشعور والعاطفة والإحساس كما فيهم العقول والأدمغة، تناسينا أن هناك مهارات حياتية كثيرة يحتاجها الطفل الناشئ والطالب الكبير في عملية التعلم، وتحصل بصفتها الكبرى في التعلم المباشر الوجاهي، وللأسف لن يحصّل جزءا منها ولو يسيرًا في عملية التعلم عن بعد - مع احترام الجهد المبذول - فهو يحتاج أن يتعلم المشاركة وروح الفريق الواحد، قبول الرأي والرأي الآخر، يحتاج أن يتعلم احترام الوقت وآداب المكان واحترام صديقه والشعور بغيره ممن يعاني وضعا اجتماعيا سيئا، كيف له أن يعرف كل تلك المهارات ومن ثم يتقنها وهو بعيد كل البعد عن الجو الصفي الذي يفترض به أن يشبه العائلة الصغيرة في تراحماها وتعاطفها؟ كيف عليه أن يتعلم روح المبادرة ليساعد زميله في فهم فكرة لم يكن قد فهمها بالشكل المطلوب؟
وكيف له أن يتعلم مفهوم المنافسة الشريفة المبنية على الاستعداد لا على الإمكانات المادية بخاصة بعد أن انتشر وجود معلمين وأولياء أمور يقومون بحل الامتحانات عن أطفالهم وهم يغطون في نوم عميق؟
للأسف نتحدث عن فترة صعبة على الجميع بدءا من ولي الأمر الذي وجد نفسه مضطرا للقيام بأعباء كثيرة نجح في بعضها ورفع الراية البيضاء في بعض آخر منها، نسي أن الصدق في تعامله مع ابنه ومادته الدراسية والأمانة المرجوة منه هي درس لقادم الأيام، سيخلده عند ابنه الحياة بطولها. كان هَم الأب أن يتقدم ابنه ويحرز المكانة الأولى فحل عنه الواجب وأدت أمه الامتحان عنه، أو وفرا له معلمة قد يكون ضميرها غائباً، وهنا أستخدم (قد) للتشكيك، فقد تكون الحاجة للمادة (النقود) تسيّرها، فوافقت على حل الامتحان بمقابل مادي وجدته حلاً لكثير من المشكلات التي تعانيها. غابت المصداقية وانتفت التربية، وتربعت على العرش الأموال، وتحكمت في طباع الكثيرين وغيرت في مبادئهم، فصاروا أُجَراء خلف الشاشات.
وفي النهاية نجد التصريحات الوزارية التربوية تشيد بنتائج الاستطلاعات عند الأهالي، مقرّة بنجاح عملية التعلم عن بعد ورغبتهم في استمراره، محاولة إقناع نفسها بأن نسبة عالية جدا راضية كل الرضا عن نجاعة عملية التعلم عن بعد. كيف سيكون ذلك صحيحا؟ وقد فوجئ الجميع بمتطلبات حاسوبية فنية لم يكن على دراية بها أصلا؟ كان يطلب من المعلم دورات تدريبية وإرشادية تضمن وقوفه في الحصة الصفية أمام طلبته بنجاح، والآن هو مطالب بشكل فجائي أن يكون ممثلا ومنتجا وفنيا ومقدما لحصة هو حضر أفكارها وعليه أن يقدمها بصورة فنية حاسوبية مبهجة تجذب انتباه الطالب وتحقق أكبر نسبة مشاهدة. هكذا يقاس نجاح الحصة إذن؟ فالسؤال هو : كم من المعلمين قد حصل على كل التأهيل ليكون ذلك المخرج والمنتج والممثل في آن معا؟
لم يغب عن البال قط أن الطلاب في الأردن صاروا ينقسمون قسمين تبعا لأوضاع أهلهم المعيشية ، فهناك من يتربعون على الأموال ويدرسون في مراكز ريادية ومدارس خاصة، قدمت لطلابها عن بعد، ما لا تقدمه عن قرب، ووفرت لهم حصصا وجداول امتحانات وعلامات لاتكال ولا توزن، وكانوا عباقرة متقدمين، والأهل لم يهمهم الأمر، فلكل طالب منهم مدرّسه الخصوصي (Private teacher) الذي يجلس معه جنبا إلى جنب في كل حصة محوسبة، وهو يساعده في التحضير للامتحانات. ومن المعلمين من يستلم الحقيبة الدراسية كاملة للطالب مقابل راتب شهري، فضلا عن مساعدته في حصص اللياقة البدنية وتصويره لتحميلها للمعلم في المدرسة. وفي المقابل، فالطلاب موزعين على فئتين: فئة حاولت جهدها وقدمت ما استطاعت لتحصيل أكبر نفع مرتجى للخروج من هذا المأزق بفهم وإدراك، وتعاون الأب والأم في عقد مجلس عائلي؛ ليضعوا أولادهم بتصور الأحداث فيتشاركوا معاً الهموم، وأبدعوا هنا في مهارة حل المشكلات وتناوبوا على الأجهزة الخلوية والتابلت والكمبيوترات المتوفرة لتتحقق قيمة العدالة. وكان منهم من ثبت قيمة المصداقية، وأعلى منها فالطالب يقدم الامتحان وحده ويحصد نتيجته، ويشارك في المسابقات وتصوير الفيديوهات التشجيعية التي تثبت مهاراته وقدراته الخلاقة في الرياضة أو الإلقاء أو الكتابة الإبداعية.
في الجانب الآخر تجد صنفا وإن قل عدد منتسبيه فلا يمكن إغفاله أو إغماض العيون عنه، إذ تنصب الأم نفسها طالبة عوضا عن ابنها وابنتها، وتقدم للامتحان عنهم وتتركتهم نياما وإن لم تكن قادرة تحاول أن تستجلب معلما أو معلمة بسعر زهيد يجيب عنهم. وبذلك تكون - برأيها الخاص - قد أدت رسالتها على خير ما يرام ونام ضميرها مرتاحاً.
أيها الجمع الكريم، لست هنا لأثبت فشل التعلم عن بعد، أو أتغنى بنجاحه في دولة فقيرة الموارد، جزء كبير من ميزانيتها قائم على المعونات الدولية، لكن أحرى بتلك المعونات أن توجه لرفع مستوى المعيشة لفئات تبكي لها العيون لا تجد لقمة طعام تقتات به، تبيت الليل وقد شدت الحزام على بطونها، بيوت وعوائل نسيت أمر التعلم واِلتفتت لتحصيل الطعام سببا للعيش وعدّت التعلم رفاهية. كم هو محزن أن تجد أطفالا في عمر الورود يعملون في الكازيات ومحطات البنزين أو في العتالة ورفع المواد الثقيلة على ظهورهم مقابل مبلغ زهيد، وتسألهم فيجيبوا بعين دامعة بأنهم تركوا المدارس لأصحابها وأهلها. فهم لا حظ لهم في دنيا غير عادلة، لا تلتفت لهم أصلًا ولا تعيرهم اهتماماً، منهم من يوفر ثمن الدواء لأمه المريضة، ومنهم من تخلى الأب عنه فصار أباً من حيث لا يدري وهناك عائلة تنتظر قدومه نهاية نهار يود لو يكون آخر يوم في حياته فيطوي صفحة العذاب تلك. عن أي تعلم نتحدث؟ وهناك من القضايا الكثير يحتاج إلى توقف وقراءة ومناقشة ووضع حلول، حلول عملية تترك التنظير جانبًا…