لقد اشتغلت على مسألة المراجعات لأكثر من فترة، على إمتداد السنوات الأربع الماضية، حتى أصبحت المراجعات قضيتي الأولى. وبعد كل ما عايشته من نقاشات -من موقع المتابع أو المشارك- استقرت عندي قناعة راسخة، بأن المراجعات في علاقة بالحركة الإسلامية الحديثة، ليست مجرد معْبرٍ أو وسيلة، إنّما هي الغاية في حد ذاتها. إذ أن التأسيس لبنى فكرية، نفسيّة وتنظيمية، ذات قدرة وقابلية عالية على محاسبة وتجديد الذات، شرط لا مناص منه لإدراك العنفوان الإستراتيجي للمشروع الإسلامي، وخطوة لا مهرب منها في هندسة العبور الناجح للحركة الإسلامية؛ من فقه الدعوة إلى فقه الدولة ومن مرحلة الصحوة إلى عصر النهضة، كما أكّد على ذلك المفكر والسياسي الجزائري د.عبد الرزاق مقري في كتاب "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور". (1)

إذ أن البنى المذكورة في شكلها ومضمونها الحالي، تحمل حساسية مفرطة وعميقة إتجاه مسألة النقد الذاتي. ويكفي أن يطرح هذا السؤال، حتى ينفجر في وجهه سيل من التّهم، المؤاخذات، الكوابح والتبريرات. سيل يعيد إنتاج ذاته بشكل شبه ثابت في كل مرة، رغم اختلاف المساحات والسياقات، وكأنه منظومة من الخطوط الدفاعية المتصالبة أو ما أفضّل تسميته ب "منظومة الكوابح والمغاليق".

منظومة، لأنها تشتغل بنسق آليّ متراصّ، وهي كابحة للتقدّم والتجديد، منغلقة على ذاتها وماضيها. وهذه المعاني امتداد لمفهوم "الأيديولوجيا المغلقة" الذي أسس له مفكر النهضة القطري، د.جاسم سلطان. (2) 

مرتكزات الأيديولوجيا المغلقة 

الا أنني أحاول تفكيك "الأيديولوجيا المغلقة" وفهم مرتكزاتها في ثلاثة أبعاد رئيسية:

1-الأيديولوجية الشمولية 

تتكون من مجموعة من المسلّمات الكبرى أو ما يسمى ب "الحتميات التاريخية"، التي يُفَسَّر الواقع المتحرّك في أطرها الثابتة، وترسم صورة المستقبل المنشود وطرائق الوصول إليه ضمن قوالبها الجاهزة. وبالرغم من أن هذه الأطر التفسيرية في مجملها مقاومة للتجديد أو إعادة الصياغة إلا أن أحدها يضغط على المراجعات أكثر من البقيّة. إذ أن الأيديولوجيا الشمولية عادة ما تُعرِّف المحنة السياسية، من خلال الحقل الدلالي للتضحية والنضال، لكن في تغييب تام لمعجم التوبة والاعتبار. (3)

2-ثقافة التنظيم الحديدي 

وتنتج شخصا ميّالا للانضباط في تفكيره وتعبيره، مهووسا بديناميات المجاراة والإنجاز والتسيير كارها لترف الفكر والتنظير، فتجده يحسن الدفاع والتبرير قليل التساؤل والتقييم. كما أن للتنظيم حساسيّة خاصة من كل ما يمكن أن يثير الخلاف أو النقاشات الحادة داخل الصفّ، لذلك فإن القراءة الإسترجاعية أو التأريخ للذات يكتسي في حدّ ذاته طابعا إشكاليا، لما يصطصحبه معه من توزيع للثناء والمسؤوليات بين الأفراد والتكتّلات. وفي هذا الاتجاه شرح القائم السابق بأعمال المرشد، أ. إبراهيم منير، أسباب نهي الإمام المؤسس حسن البنا -رحمهما الله- للإخوان، عن كتابة مذكّراتهم مثلا. (4) 

إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام السابق للإخوان المسلمين في مصر الأستاذ إبراهيم منير رحمه الله (1937-2022)، الجزيرة نت 

3-سيكولوجيا الإشتباك المفتوح 

وهي تأسس للخلط بين التقييم العقلاني الصّارم من ناحية والتشويه أو التشهير والاستهداف من ناحية أخرى، لذلك فإنها تتمترس وراء ترسانتها الدفاعية فور استشعارها لإمكانية اندلاع المراجعات في جوارها. (5) إن السيكولوجيا المنجرفة في الصراعات، يصعب عليها أن ترى أو تفسّر أي جزئية في هذا العالم خارج إطار ذلك الصراع الذي استنزفها. كما يشحن الأفراد بمشاعر المظلوميّة وخطاب تعبوي قائم على ثنائية المقدّس والمدنّس إلى درجة يستحيل معها تقديم أو التعامل مع القراءات الموضوعية الدقيقة. (6)

مقولات الأيديولوجيا المغلقة 

وعموما فإن هذه الأبعاد الثلاثة تتداخل وتتشاكل في نمط من المقولات المتراصّة، التي تنفجر بنسق أوتوماتيكي كلما طرح سؤال المراجعات، فتخمده أو تكبح مروره في الحد الأدنى، ثمّ لا يصل منه ختاما، إلا مسحة مخفّفة أو ما يمكن اعتباره "ظلّ مراجعة".

وتبدأ "منظومة الكوابح والمغاليق" أول ما تبدأ بأن تقول لك:

  1. ليس وقته: ويطرح ذلك عادة في إطار من النصح البراغماتي الذي يصم الطرف المقابل ضمنيّا على الأقلّ، بالجهل بفقه الأولويات وعدم فهم فريضة الوقت، ليُعتبَر في أحسن الحالات رومانسيّا مشاغبا ينقصه النضج السياسي أو ربما حتى مندسّا يسعى إلى التشويش على البوصلة النضاليّة للجماعة، إن اقتضى الأمر.ونجد أن هذا الطرح يكاد يكون امتدادا لمقولة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" التي أنتجتها إذاعة صوت العرب في منتصف القرن الفارط. أي نظام الاستبداد العربي بأدواته الديماغوجية في أكثر رمزياتها كثافة في تاريخنا الحديث. (7) ولكن هذه المقولة غير كافية وقد تبدأ في فقدان بريقها كلما طالت مراحل الضغط والاستهداف أو حصل الانفراج والانفتاح. 
  2. جلد الذات: ولذلك فسيقال لك يا أخي "لا تجلد نفسك" و"لا تخمش وجهك"، بما يوحي بأن المطالبة بالنقد الذاتي إن صدرت من داخل الجسم، فإنها لا تعبّر إلا عن حالة من الاكتئاب والانهيار النفسي، فوجب اقناعها بتجرّع العلاج للخروج من الحالة المرضيّة. وان استعصى الشفاء أو انتشر مدى الوباء فيمكن مسايرته وترشيده، لاحتواء ما يمكن احتواءه على الأقلّ. وهذه المقولة فعّالة في الحقيقة في لجم المراجعات، فهي ترسم لها سقوفا وحدودا، أو هي بالأحرى محاولة لتحويلها من "مراجعات جلد الذات" إلى "مراجعات المسح على الحذاء".
  3. شماعة ال"هم": وحتى حينما يخيل لنا أن أحدنا قد قدم تقييما أو مراجعة، سنجد أن كل ما تتضمنه من أفعال مصرّف لضمير الجمع الغائب (هم). وهذه ال"هم" يمكن أن تشمل كل شيء من حولنا تقريبا؛ المخابرات،الجيش، الإدارة، الاعلام، النقابات، اللوبيات، الشعب، الشباب، الفواعل الإقليمية والدولية. وان لزم الأمر ستتسع أكثر لتضم الجوائح الطبيعية وتقلبات المناخ أو اضطرابات أسواق الطاقة والبورصة العالمية، ولكنها أبدا لن تتطرق لعناصر القصور الذاتي ولن تتوقف أبدا عند إسهامات الذات في أزمة الوطن.

لعل أكثر ما يعبّر عن حالنا المعطوب، تلك الصورة المجازية التي اعتمدها د. عبد الله النفيسي في كتاب "الحركة الاسلامية: ثغرات في الطريق"؛ "مؤذن كثيرا ما يتأخر عن صلاة الفجر وحينما يسأل عن سبب ذلك يقول: أنا لم أتأخر ولكن الشمس أشرقت باكرا اليوم، أي إن افتراض حصول تغييرات كونيّة عظيمة خلاف سنّة الله أسهل علينا من مراجعة أنفسنا". (6)

  1. علينا العمل ولسنا مطالبين بالنجاح: وهنا يبدأ الاعتراف بإمكانية الإخفاق، ولكنه اعتراف مصحوب بتهرّب من تحمل المسؤوليّة. إذ يحاول إخراج الأخطاء من دائرة تأثير البشر إلى دائرة القضاء والقدر، فتُوضع المراجعات أمام مصدّات إيمانية، وتصبح المطالبة بها ضربا من ضروب الاعتراض على مشيئة اللّه. في حين أن مراجعة الأعمال تمتحن مدى انضباطها لسنن الله التي لا تتبدل ولا تنحرف. (8) كما أن المنطق القرآني يربط النجاح بتوفيق الله والإخفاق بتقصير الإنسان. وسنجد هذا المعنى في أكثر من آية كقوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك". {النساء: 79} أو في ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عتبة بن مسعود: "… فإن يك صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان …"(9) 
  2. خطأنا الوحيد: وفي اللحظة التي تظنّ فيها أن الأمر قد استتب للمراجعات وأن المضي فيها أضحى محلّ إجماع، ستنطلق الموجة الأخيرة بكل حزم، مؤكدة أننا أخطأنا، لكن خطأنا الوحيد كان في التسامح مع خطايا الآخرين. وهذه في الحقيقة صيغة مدح مبطّن للذات، دارجة في ثقافتنا الشعبية ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بنقد الذات، ولكنه يقع تقديمها كذلك. لنجد أنفسنا في كل مرة في دائرة مغلقة، تعيد إنتاج أمسها مع كل صبح جديد. 

وهذه العودة في كل مرة على بدأ، مسار حكم كل نقاشات النقد الذاتي خلال السنوات الأخيرة، مهما اكتنزته البدايات أحيانا من زخم وحماس. سيذوب كل شيء في مطحنة الكوابح والمغاليق أولا، ثم لن يتبق إلا شبح مراجعات، يتكفّل بعض الحبر على الأوراق باحتواءه إلى الأبد. أما الواقع فيبقى مغلقا. وهو ما يجعل حسب تقديري المتواضع، من تفكيك الجذور العميقة لمنظومة المغاليق، أولى ما يكمن أن تشتغل عليه المراجعات من أولويات، فليس المقصود انجاز المراجعات لهذه المرة فحسب، بل يجب أن نطوّر في بنياننا القدرة على تحويل النقد الذاتي إلى مسار مستدام، له ميكانيزماته وأدواته، التي لا تتوقف عن الاشتغال، ما استمرّ العمل والاجتهاد البشري للحركة الإسلامية في حقل السياسة.