الرفض هو نتيجة سوية للظلم، للقمع والاضطهاد، مهما كانت وجهة الظلم حتى وإن كان الإله نفسه، هكذا جاء الرد الأوروبي على الحكم الكنسي الذي كان يقمع، يقتل، ويهجر باسم الرب، كان كيان الكنيسة مصدرا مشرعا ومقدسا، فلا يعلم أحد بعد علم القساوسة علما، ولا يفقه تأويلا ولا يصدر أمرا، يصح التشبيه هنا أن الكنيسة وكل ما يتعلق بها هو تجسيد للذات الإلهية التي لا تخطئ ولا تزل، تعلم الحاضر والغيبيات ، يتساوى شأن العدل فيها سواء أكرمت أو أهانت، كأن أستار الغيب ومقاليد العلم مطلقة و خالصة لهم من دون الناس، ولأن سنة الحياة لا تستوى على وجه واحد و طبيعة البشر ترفض الانصياع المطلق حتى للخالق نفسه، فكيف بمن يتكلمون باسمه، انتشرت أفكار التمرد بين أوساط الشباب والعلماء ممن يخفون علمهم خوفا من بطش الكنيسة، ممن أيقنوا أحقيتهم في بسط أرائهم ومشاركة علومهم، ونبذ أسطورة القداسة التي تفتك بعقول الملايين طول فترة الحكم الكنسي.
ومن المغالطة التي يقع فيها الكثيرين اعتقادهم أن مشكلة الأوروبيين في عصورهم المظلمة هي الحكم الملكي، إنما هي في الحقيقة لم تكن إشكالية حكم من الأصل، بل إشكالية استغلال المقدسات، ودليل ذلك أن الحكم الملكي كان حكما سائدا في مختلف الحضارات وقد عرف الكثير منها ازدهارا ونموا وانفتاحا على مختلف العلوم، وشتى ميادين الحياة، مشكلة الأوروبيين الحقيقية كانت الكنيسة التي أسبغت على قرارات الحكام صبغتها المقدسة التي لا تقبل نقدا أو مراجعة.
الأمر الذي يفتح أمامنا مجالا لطرح تساؤلات عدة :
- لو أن نظام الحكم في العصور الوسطى في أوروبا يكفل للفرد الأوروبي حرية الرأي ورغد العيش وسعة المكسب، هل كان سيفكر في الثورة وخلق نظام جديد ؟
-هل الديمقراطية بمفهومها المعاصر هي نظام الحكم الوحيد الذي تتصالح بنوده مع الحريات والعدالة ؟
-هل يمكن أن يكون هناك بديلا أنفع وأنجع من الديمقراطية يضمن الحريات ويعزز بذلك انفتاح العقول وتنمية الموارد ؟
عرفت الدولة الإسلامية تطورا وتوسعا شاسعا في فترة وجيزة، وكان للشريعة الإسلامية أثرها البارز في سير الحكم وتأثيره أيضا على مختلف القرارات الكبرى للدولة، فقد اعتمد نظام الحكم وقتها على التزكية حيث يتمّ التعبير عن الرأي بين المسلمين من خلال ما يسمّى بنظام الشورى، وهو نظام يعتمد على استطلاع رأي ذوي الخبرة، من أجل التوصّل إلى أكثر الأمور قرابة إلى الحق والبرهان، وقد ثبتت مشروعية الشورى في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ يقول تبارك وتعالى في محكم تنزيله:
(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
وتعد الشورى سمةً رئيسيّةً لدى الأمة الإسلامية ومنهاج حكم وحياة لها .
إن النجاح الذي عرفته الدولة الإسلامية في ظل نظامها الشوري مثلا أو الذي تعايشه حاضرا دولة اليابان من نظام إمبراطوري وبريطانيا ملكي، يدحض أسطورة واحدية الحل الديمقراطي.
ذلك أن العصور توالت على مجموع من الأنظمة التي كانت تلبي مطالب مرحلتها، والديمقراطية تعد نظام حكم المرحلة، الأمر الذي لا يقطع بصلاحها المطلق على كل الثقافات والدول والشعوب، فنجد مثلا أن الدول العربية بوعيها وحقب الاستنزاف التي عايشتها من استعمار واستدمار قد خلفت أنظمة تابعة تستغل ثغرات الأنظمة الديمقراطية لتحولها من أنظمة ديمقراطية شكلا لشمولية ديكتاتورية مضمونا.
فنجد أن الدول ترتدي في العرس الديمقراطي العالمي أزياء الحريات والعدالة والتداول المشروع على الحكم، في حين نجد انتهاكات بالجملة على الشعارات الموسومة بالبريق المثالي، الديمقراطية هي نظام أقرب ما يكون للمثالية، ذلك أن تحقيقة التام بات أمرا شبه مستحيل في ظل المتغيرات وفقه المصالح المنتشر بين الدول الرأسمالية ، نضرب مثلا بأقوى دولة في العالم أمريكا التي تظهر للعامة أنها دولة مؤسسات، دولة تسير بإرادة شعبها، لكن الحقيقة تنافي الصورة تماما بل وقد تدهشك حيث يسيطر أصحاب النفوذ والمال على مختلف القرارات المصيرية، أين تسير البلاد القارة على أوامر ونواهي ثلة صغيرة تحرك الرأي إعلاميا وتمول التنفيذ ماليا، فيصدر القرار كأنه رأي شعبي، في حين أنه مجرد استغلال واضح للفكرالرأسمالي السائد والذي يعطي أولوية العائد المالي على حساب الاستغلال البشري والفكري.
إذن فالحلقة الكاملة التي يظن الجميع أنها لا تقبل التفكيك هي في الحقيقة فخ آخر وقعت في شراكه الدول المستوردة لهذا النظام، بحيث أن النجاح الحقيقي للنظام الديمقراطي لم يكتمل في غالبية الدول المستوردة لهذا النظام.
إذا وضعنا الدول الإسلامية أسفل مجهر التحليل سنجد أنها من أكثر الدول التي لا تصلح لتبني النظام الديمقراطي كفلسفة تسوس البلاد والعباد، ذلك أن صميم المعتقد السائد هو معتقد مبني أساسا على قاعدة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ، قاعدة تقلم بعد بنود الحريات التي تطلق الأمور على عواهنها، وإن كانت توافقها في مبدأ محاسبة ونقد الأكبر سلطة إلا أنها تتعارض معها في فكرة إطلاق الحريات من أوجه عدة، كممارسة المحرمات وتبني أفكار متطرفة إزاء قضايا عدة، كقضية المرأة وبعض الشرائع الدينية، صحيح أن الديمقراطية تعد حاضن جيد للتنوع، الأمر الذي لا يتناقض مع الإسلام إنما لكل سياسته في التعامل مع سعة ونوع الاختلاف وصفة الحضانة والكفالة تختلف.
تتقاطع الديمقراطية مع الإسلام في نقاط شتى، كما أن الإسلام كدين يشمل جميع جوانب الحياة، فهو لا يرفض التجديد والإبداع والابتكار في مجال الأنظمة والهياكل والمؤسسات، كما أنه حاضن ممتاز للأفكار والمشاريع، لكن الاعتقاد السائد بواحدية الحل الديمقراطي، الذي لن يكون للدول الاسلامية بديل عنه هو فخ تعطلت بسببه الأفكار والعقول الإسلامية للبحث والابداع، من أجل استحداث نظام يتناغم مع عمق الإسلام ومتطلباته، دون الاستمرار في استيراد الأفكار المحملة بسلوكات لا تتلاءم مع واقعنا العربي والإسلامي .