العدل من أكثر القيم الإنسانية أهمية، لأنه ركيزة الحكم بين العبادة، ومنطلق النظام في المجتمعات، فبدونه تحل الفوضى ويعم الخراب ويسود الظلم والفساد، ولقد أشار الله إلى أهمية العدل في الدولة في قصة ذي القرنين فقال: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، فالعدل قائم على ميزان الثواب والعقاب واسترداد المظالم لأهلها.

سنتعمق أكثر في مفهوم العدل من خلال الإجابات القيمة التي يعرضها علينا الدكاترة الأفاضل في هذه الحلقة من برنامج بيان للنّاس. 

ما هو مفهوم العدل في القرآن؟

 د. علي الصلابي: العدل مقصد من مقاصد القرآن الكريم، وجعل الله العدل في النفوس والفطر السوية، وهو مغروس في العقول الراجحة السليمة، فقيمة العدل هي الميزان الدقيق في معرفة الأمور، والسماوات والأرض قامت بالعدل، والشرائع والكتب السماوية نزلت بالعدل، فإرسال الرسل من عدل الله، والعدل ضد الظلم، فالله تكلم عن العدل وبيّن ملامحه في القرآن الكريم.

فمن ملامح العدل في القرآن؛ الوسطية (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، ومن ملامح الوسط في القرآن الكريم أيضًا؛ الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، ومن ملامح العدل أيضًا؛ رفع الحرج واليسر في القرآن الكريم، والخيرية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، خيرية هذه الأمة، وكان الأمر مباشرةً (إنّ الله يأمرُ بالعدل)، وقد نفى الله الظلم عن نفسه (وما ربًّك بظلامٍ للعبيد)، وحظر الناس من الظُلم ووضع موازين العدل لهم.

والعدل في القرآن موجه للحكام والرؤساء (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..)، هذه الآيات والتي بعدها جمعت السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ووجهت لعامة الأمة الخطاب الرباني (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، الإحسان والعدل، كلما اقترب الإنسان منهما اقترب من رحمة الله أكثر، فالعدل يحل النزاعات بين الناس.

لماذا لا نستطيع أن نمزج بين العدل والمساواة في المجتمعات الإسلامية؟

د. نور الدين خادمي: كلمتي (العدل والمساواة) كثيرًا ما تردان معاً، وبينهما فروق جوهرية، فالعدلُ: هو الاعتدال والتوازن بين الحقوق والواجبات؛ بناءً على الحاجيات والإمكانيات، وبناءً على الفرد والجماعة؛ ولذلك العدل يكون بين الجهات، وبين الدول وأفراد الأسرة والقطاعات. أما المساواة: فهي التماثل التام الشكلي بين الحقوق والواجبات والأفراد والجماعات، والأصل في الإسلام والعقل، العدل؛ لأن العدل هو تحقيق التوازن بين حق وواجب، وكلما كان الحق قائمًا كان يقابله الواجب، والعدل بين الحاجة والإمكانية، والمساواة بخلاف هذا فهي طريق إلى العدل.

فالمقصود الأصلي في الدين والعرف والفطرة هو العدل، فضلًا على أن العدل هو علامة الثراء والتنوع، لأن المساواة ستقضي على هذا التنوع بين البشر، والاختلاف في الأوضاع، فكيف نسوي في الأسرة بين الطفل الرضيع الذي يحتاجُ إلى غذاءٍ خاص، والشاب الذي يدرس في الجامعة، أو الذي يعمل في المجتمع، فكيف يسوي الوالد والوالدة بين الطفل الرضيع في غذائه والشاب والشابة، وكذلك كيف نسوي في المستشفى بين الطبيب الجراح ومدير المستشفى والموظف والعامل، فلو قمنا بالمساوة في المستشفى لسوَّينا بين الطبيب والجراح والحارس والعامل، وهذا خلاف العدل.

 

والعدل أن يكون الطبيبُ طبيبًا والحارس حارسًا، كلُّ يقوم بواجبه في إطار هذا العدل، أخطأ كثيرٌ من الناس عندما لبسوا علی الشعوب في قضية المساواة والعدل، يدعون إلى المساوة المطلقة في كل شيء، بما في ذلك المساوة في الأسرة والشركة، ونحنُ نعلم أن القانون الدستوري فيه نواه تطرح في الشأن العام، فالمساواة أمام الدولة، وعلاقة المواطن بالدولة، كالمساواة في الوظيفة والتداوي والتقاضي والمساوة في نظام المرور. 

 لكن المساواة في الفضاء الخاص بالشركة أو المؤسسة أو الأسرة؛ هذه كلها محكومةٌ بتراتيب داخلية وأحوال شخصية وخصوصية معينة، لا بد فيها من العدل، فالمساواة بين الرجل والمرأة هو التطابق بينهما، هل هما متطابقان من الناحية الخَلقية والهرمونية والوظيفية، فعلماء التغذية يقولون أن غذاء المرأة ليس كغذاء الرجل، بناءً على المحدد الجسدي الهرموني، فالمرأة أثناء حملها ليست هي المرأة بغير حمل، لذلك عندما نتحدث عن المساواة بين الرجل والمرأة بإطلاق، فنحن لا نتحدث عن العدل بل نتحدث عن ما هو ضده، والعدل أن تعطي المرأة ما تحتاجه من غذاء وحقوق مالية وأن تعطي للرجل كذلك، فالعدل هو المقصود، وهذا ليس موجوداً في التشريع الإسلامي وحسب، بل هو موجود في التشريعات السماوية والأعراف البشرية والفطرة الإنسانية، ولذلك قال العلماء في الأسرة، أنها: فضاء خاص محكومة في خصوصية، فالأسرة تختلف عن غيرها، وكذلك الشركة لها نظامها الخاص وهي تقابل شركة أخرى، فالمساوة تطرح في المواطنة والشأن العام، لا بد من إقامة العدل أساسًا والمساواة طريقٌ لذلك.

كيف ننزل العدل ونحققه في أرض الواقع في المجتمع والدولة؟

 د.عبد المجيد النجار:

 العدل لا يتحقق إلا إذا تحقق أمرين: العدل في الحقوق والعدل في الواجبات، وذلك بأن يصل الحق إلى كل فردٍ من المواطنين، وأن يؤدي كل فرد واجبه، ثم إن العدل لا ينبغي أن يترك نظرية إيجابية مجربة، ويترك لجماعة الناس أو لصفات مطلوبة من الرؤساء. 

 ولا بد من أن يتحقق هذا العدل من خلال أمرين أساسيين في الواقع:

  1. أن يدستر العدل؛ أن يكون العدل مضمنًا في دستور الدولة بوضوح، لأن الدستور هو الحاكم الأعلى فيما يتعلق بالقوانين وبين الحاكم والمحكوم.
  2. أن يكون العدل مبنيًا على المؤسسات المجتمعية والاقتصادية، وهي التي يتم العدل من خلالها.

العدل بشقيه له مظاهر في المجتمع وفي الدولة.

  1. المظهر الأول: هو (العدل السياسي) أن يتساوى الناس وأن يعطى الحق لكل أفراد المجتمع ولكل المواطنين أن يعطوا رأيهم في تيسير أمور البلاد ووضع المشاريع المستقبلية، وفي اختيار المسؤولين من ذوي الرأي والسلطة، ثُمّ هناك عدل سياسي في العدل بين الجهات وليس بين الأفراد فقط، فالآن الشائع مع الأسف؛ أن هناك خلل بين الجهات التي تعطى الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للحواضر والمدن، وتترك الأرياف والمدن الصغيرة من دون هذه الامتيازات.
  2. المظهر الثاني: هو (العدل بين فئات المجتمع) فكثيرًا ما نجد أن هناك طبقات، طبقة تعطى لها امتيازات فتصبح ثرية، وطبقة تكون دون ذلك، والمظهر الثالث هو (العدل الاقتصادي) بأن تتاح الفرص في تكافئ بين جميع المواطنين، لا يميز هذا عن هذا في إمكانيات وصفقات ومبادرات وما إلى ذلك، بحيث تتاح لكل الناس الفرص بتكافئ، والمظهر الرابع هو (العدل الاجتماعي) وذلك بأن يكون المجتمع متكفلا بجميع الأفراد، حتى الذي يكون فقيرًا وعاجزًا له الحق في أن يكفل من مال الدولة ومن مال الأقارب، حيث يتحقق العدل بهذه الصورة، وهذا كله ينضم إلى دستور الدولة.

لك كتاب أسميته (الميزان)، كيف نتعامل بهذا الميزان في العدل؟ ولماذا كتبت هذا الكتاب؟ هل وجدت خللا في المجتمعات الإسلامية حتى كتبته؟

د. علي القرة داغي: كنت أفكر كثيرًا في أحوال أمتنا الإسلامية، وأسباب الاختلاف، خاصة أن كل المختلفين يعتمدون على أساس القرآن الكريم، الذي نزل أساسًا لرفع الخلاف، فكنت أبحث عن الخلل، لا يمكن أن يكون هذا الخلل في القرآن، ففي إحدى الليالي كنت أقرأ الآية من سورة الحديد (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وكأني أقرأ هذه الآية لأول مرة، رغم أنني حفظت هذه الآية قبل 40 سنة منذ الصغر، فأصابتني قشعريرة وقلت: عندما يذكر الله العدل يذكر تحقيق العدالة ورفع الظلم، وتحقيق العدالة مرتبط بالفكر والتصور وكذلك في إقامة الحقوق والواجبات، وفي هذا الميزان الذي يقوم على كفتين. هنا أحسستُ بأنني وصلتُ إلى الجواب، بأن الخلل في هذه الأمة ليس في القرآن أبدًا أبدًا، وإنما الخللُ في الميزان؛ وهو ميزان العدل، وأننا لا نتعامل في ميزان القرآن الكريم بالطريقة الشرعية.

كيف ننزل قيمة العدل في المؤسسات والبيوت والمجتمعات؟

د. أحمد الريسوني: ذكرني هذا السؤال بكتاب (طبائع الاستبداد) للعلامة المجاهد عبد الرحمن الكواكبي، فهو ذكر أن الاستبداد ليس فقط هو استبداد الحاكم المتسلط والمتفرعن، بل يكون في رجل التعليم الذي يكون في قسمه مستبدا، والأب في بيته أحيانًا يكون مستبدا، والأم على أبنائها، والموظف، فقد أظهر وصرح أن الاستبداد الذي نعاني منه موجود في كل المجالات، والاستبداد ظُلم، فكيف نستطيع أن ندرب الأمة والفقهاء على مفهوم العدل؟

وظيفة العلماء هي البيان، وهذا البرنامج نفسه سُميّ بالبيان، ولكن هذا البيان يجب أن يتكرر ويتخذ أشكالًا متعددة وأن يلح صباحا ومساء على هذه المفاهيم، حتى تستقر عند العلماء، وإذا استقرت عند العلماء تستقر عند الفقهاء والمربين، وليس لنا إلا أن نسلك هذه الطرق، وهنا نطرح واجبات تجاوب الأحزاب والمصلحين، ولكن وظيفة العلماء في الدرجة الأولى؛ هي البيان الذي لا يفتر، والذي لا يتوقف، وأنا أفكر منذ مدة في مظاهر الظُلم الخفي، الذي يقع في البيوت وحتى ظلم الإنسان لنفسه! 

من تخلق بالظلم يظلم حتى نفسه، ويظلم أطفاله وتلاميذه، إذن على الفقهاء والمفكرين أن يتتبعوا هذا الظلم الخفي الذي إذا تحدثنا عن الظلم والعدل لا نبالي ولا نهتم به.

يتواجد العدل في الحضارات الإسلامية، فكيف يمكن أن تعرفه بمفهومٍ عام من منظور إسلامي وحضاري؟

د. علي الصلابي: قيمة العدل هي قيمة إنسانية، والعقل الراشد والسليم سيجد نفسه منسجما مع الخطاب القرآني في قيمة العدل، فقيمة العدل مع كل الناس مع النصراني والضعيف والقوي، وهي الفكرة السليمة التي تقوم عليها الشريعة، فالدولة الإسلامية التي لا تقوم بالعدل تنحرف عن مسارها الصحيح، فقيمة العدل دخلت في التشريع كاملة، فنجدها تدخل في الزواج (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، والعدل في القضاء (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، والعدل في القول (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، فتجد العدل في جميع التشريعات قائما على ذلك، سواء في الميراث أو الوصية أو جوانب الروح، لكن عند بعض الشعوب الأخرى نجد أن العدل نسبي، يعني داخل دولتهم، فيسمحون بظلم الآخرين وبتحويلهم إلى عبيد ويجبرونهم على عقائدهم، فهنا فرق كبير بين العدل في الإسلام والعدل عند الآخرين، العدل أيضًا مع العدو (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..) ممارسة العدل كقيمة هو عبادة لله.