حين نضع العلاقات الدولية تحت تحليل قريب من الموروث الإسلامي، تنبثق فهوم عدة، وأفكار كثيرة ولعل من أبرزها العلاقة بين مفهومها المعاصر ومفهومها التاريخي وتحديدا مختلف مراحل الحضارة الإسلامية، وطرح أمثلة تمس واقع بعض الدول، الواقع الذي يتضمن بعض القضايا والأحوال بين السلم والحرب، بين المبادئ والوقائع.
ومن أهم وأبرز ما قد يعرضه علماؤنا في عصرنا الحاضر، هو ذكاء المزج بين مفهوم معاصر يشوبه فهم الغربيين، ومفهوم أصيل يشرح فهم الأولين، ممن كان لهم السبق في تشييد الدولة الإسلامية بل والحضارة ككل، لذلك فالحديث عن العلاقات الدولية لن يكون بمنأى عن التاريخ وعن الواقع على حد سواء.
كيف نستطيع أن نؤصل مفهوم العلاقات الدولية في الإسلام؟
د. علي القرة داغي: لما جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فترة مكة لم تكن هناك علاقات دولية، لأنها لم تكن دولة، ولكن حينما وصل الرسول وهاجر إلى المدينة المنورة وتكونت الدولة، هنا تحققت مجامع الدولة الإسلامية وعلاقات هذه الدولة بالخارج، وكان هناك ثلاثة أنواع أساسية نظمتها الآيات القرآنية، منها علاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغيره من المسلمين، وهذا ما نظمته الوثيقة الداخلية، ومنها العلاقات مع القبائل العربية وكذلك مع الحكومات الأخرى -الروم والفرس وما أشبه ذلك- وهنا حقيقة جاءت الآيات القرآنية فنظمت هذه العلاقات لحالة الحرب ولحالة السلم، وكذلك لحالة الأسر، ففي حالة السلم أصل الإسلام مبدأ الصلح وأن العلاقات الأساسية لا بد أن تكون قائمة على الصلح، وأن الصلح مقدمٌ دائمًا على السلم، ولذلك كان هناك تنازل في صلح الحديبية، وكان هذا أول صلح بين دولة الإسلام وغيرهم، فما الفرق بين الصلح والسلم؟
الصلح الذي يحققه السلم، قد يكون هناك صلح، وقد يكون بعد الحرب، فكان صلح الحديبية يراد به تحقيق السلم الدائم خلال 10 سنوات، وقد استفاد المسلمون بهذا الصلح بدليل أنهم بعد سنتّين تكوّن جيش لفتح مكة وكان أكثر من 10 آلاف مقاتل، وكذلك نظمت هذه العلاقة مع تلك الرسائل التي كتبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك الفرس والإمبراطورية الرومانية.
وكان الرسول يدعو إلى قضية التعايش السلمي والقبول بالآخر، ثمّ نظم الإسلام حالات في سورة البراءة مع الذين نقضوا العهد، وهو جزء ومبدأ أساسي، وفي حالة نقص العهد "أتموا مدتهم" فالإسلام لن يخالف الصلح، وكانت مدة الصلح في صلح الحديبية مقدسة في الإسلام، ولكن غير المسلمين من قريش هم الذين نقضوا العهد.
ثم في الحالة الثالثة، في حالة الحرب ووجود الأسرى، كان الإسلام قد أنزل مجموعة من الآيات الكريمة في التعامل مع الأسير، وهو تعامل رحمة، فإذا كان جريحًا لا يقتل، والأسير إذا لم يكن من مجرمي الحرم لا يُقتل، بل إن الإسلام ذكر الأسير عندما قال الله (ويطعمون الطعام على حُبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا)، بل إن القرآن الكريم أشار أن الأسرى إذا كانت نواياهم طيبة فإن الله يرحمهم.
قضية العلاقات الدولية، المبادئ العامة التي تحكمها مبادئ عظيمة، ومنها مبدأ الصلح وهو الأفضل، وأن العلاقات تقوم على السلم والتعايش، وليس على الحرب، وعلاقة القسط والعدل واحترام المواثيق، وحفظ كرامة الإنسان حتى في حالة الحرب.
كيف نستمر في تحقيق العلاقات الدولية، وهل نبقى في حالة الحرب والسلم، وهل يمكن أن نطور بعض المصطلحات الجديدة المعاصرة، وفي بعض الأحيان قبول السلم يؤدي إلى الاستسلام، كما حدث في البوسنة؟
د. أحمد الريسوني: المصطلحات الفقهية لم تتوقف، فعندنا آلاف المصطلحات التي أطلقها الفقهاء ووصفوا بها واقعًا معينًا أو حكموا بها واقعًا معينًا، ومصطلحات الفقهاء منها ما هو في القرآن، وأكثرها حصل عبر العصور لتوصيل حالات كانوا يعيشونها، وما يلزم فيها من إجراءات، وهذه المصطلحات كاللغة تتطور.
ولذلك مصطلح دار السلم ودار العهد ودار الدعوة، كلها مصطلحات وتوصيفات أطلقها الفقهاء ويمكننا أن نطلق غيرها، ويمكننا أن نطور مفهومها، فهذا كله يواكب تطور العلاقات الدولية.
العلاقات بين الدول والشعوب والطوائف، هي مسألة تعارف، وتقوم على قائمة المعاملة بالمثل، فالله يشير إلى قاعدة المعاملة بالمثل، (وَقَٰتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ۚ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ) [التوبة 36]، إذن العلاقات الدولية لا يصنعها طرف واحد، لذلك اليوم أو في أي زمان، إذا كان هناك طرفان أرادا أن يحسنا من علاقاتهما الدولية بينهما، هذا كله شيء طبيعي ويجب أن نكون معه كلما كان إيجابيًا -بعيدًا عن التطبيع- فكلما كان بناءً وكلما كان يحفظ السلم كنا معه، فالسلم هو الأصل في العلاقات البشرية، المقصود بهذا التنوع (لتَتعارفوا) هو أصل العلاقات، ولكن ماذا إذا كان السلم يؤدي إلى استسلام؟
الاستسلام يؤدي إلى الهزيمة، هنا نقول حين الهزيمة، السلم يكون أبغض الحلال إلى الله، لأنك إذا انهزمت لا بد لك أن تبحث عن نصف حل بدل الحل الكامل، فالمشكلة ليست في الاستسلام، المشكلة أننا لم نعد الإعداد ولم نكن في مستوى مطلوب.
فالذي ينهزم لا بد له أن يعقد اتفاقية سلام وأن يرضى بالحلول، فالمشكلة ليست في كونه سلامًا، وطبيعة الحال أي طرف إذا غُلب وكان الأمر فوق طاقته، يكون معذورًا وعليه بأنصاف الأمور.
كيف نجمع بين سيادة الوطن في العلاقات الدولية والمواثيق الدولية؟
د. نور الدين الخادمي: الجمع بين السيادة الوطنية والمواثيق الدولية، هو جمعٌ عالٍ فيه مستوى من التنظير والفهم والتمثل، ومستوى آخر من التطبيق والتنزيل، من حيثُ المبادئ الإسلامية والمواثيق الدولية، فكلاهما يقتضي العيش بين البشر والتواصل، وهذا المتفق عليه في المشترك الإنساني.
اتفاقية في الطيران المدني أو في التعمير أو في تبادل الأسر، كل هذه المشتركات متفقٌ عليها في الغالب الأعم، وهي موضع مقبول وليس فيه مشكلة، فالمشكلة تحصل عندما يقع تصادم بين الميثاق الدولي والسيادة الوطنية، من جهة المشكلة الخصوصية الثقافية.
إخواننا في البوسنة كانوا يُقّتلون وكانت هناك وثائق، ولكنها حرمتهم من السلم والأمان، وهذا فيه مخالفة لمبدأ الدستور العالمي من جهة الخصوصية، وهي إثراء الإنسانية.
هناك مبدأ عالمي حقوقي إنساني يقر مبدأ الخصوصية، فكل شعب له خصوصية، وتعتبر الخصوصية إثراءً للإنسانية، ولا ينبغي أن يُقضى على أي خصوصية من الخصوصيات الموجودة في العالم، فما وقع في البوسنة وما شابهها؛ يعود إلى أخلال دستورية وإلى انتهاك مبادئ وحقوق، الدولة المسلمة هل يجوز لها أن تخالف مواثيق دولية لنصرة إخوانها؟
مبدأ المصادمة بين المواثيق الدولية والمعارضة، مبدأ فيه مستوىً من النظر والوعي والتشخيص والدراسة، وفيه مستوىً آخر من التطبيق والتنزيل، بتخريج دستوري أو بتخريج شرعي أو اجتماعي، نحنُ أمام أوضاع لا بد لها من أقدار عالية من التخريج الدستوري الحقوقي والإنساني، وبوسع الشعوب الإسلامية أن تنتصر لقضايا إنسانية بناءً على هذا القدر العالي من التأطير الدستوري والإنساني الحضاري، بمساقات ذلك ومقتضيات ذلك، هناك الدبلوماسية والاحتجاج السلمي وهناك الاعتماد القانوني على مبادئ قانونية، مثل ما قلنا.
الخصوصية والهوية الوطنية، السيادة الوطنية أمر دستوري في أي دولة، بمعنى الدستور يأمر الدولة والحكومة وكل المعنيين بالسيادة الوطنية، السيادة على الأرض والجو والمياه، وعلى مصير الشعب أو الدولة، فمن بين السيادة؛ المرجعية والهوية والمصير المحتوم والمشترك والحق الإنساني، نحن أمام وضع فلسفي وحقوقي وسياسي، وفيه ضرب من التعقيد في التنزيل، عن طريق مؤسسات عن طريق خبراء وشركاء المصلحة في الوطن، إذا وصلنا إلى هذا المستوى، نضمن سيادة وطنية منفتحة على العالم بخصوصية ثقافية وبهوية ومرجعية.
ما هي تجربتنا التاريخية في العلاقات الدولية؟
د. علي الصلابي: تظهر العلاقات الخارجية بإرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسائله للملوك؛ إلى فارس وإلى العالم في ذلك الزمان، وبالتالي الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعاهم للحوار ودعاهم للنقاش وللرسالة السماوية، فكانت ردود الأفعال متباينة، مثلًا النجاشي أسلم ودخل في الإسلام وفتح مجالات واسعة للتعاون الثقافي والتعاون المعرفي والتعاون العلمي، الفرس كان ردهم عنيفا وبالتالي لما حدث القتال، وهو ليس بنشر الفكر بالقوة وإنما لإزالة الأنظمة الاستبدادية وإعطاء الحق للشعوب في الاختيار.
فحركة الجهاد التي كانت للدولة الإسلامية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، حاربت الأنظمة الاستبدادية التي منعت الناس من حقهم في العدل والمساواة والحرية، وبين لنا النص القرآني أن في فترة الأمويين كان في تعاون ثقافي واقتصادي وكان في حرب، وفي فترة العباسيين كانت يوجد مشاهد كثيرة للعلاقات، يتضح الأمر أكثر في فترة نور الدين زنكي، الذي دخل في صراع مع المحتل في بيت المقدس ودخل في صلح، ودخل في سلام وأعمال تجارية متعددة وكذلك مع الفاطميين، دخل معهم في علاقة من السلم في العلاقات الخارجية، وتباينت حسب المصلحة العليا.
فالدولة الإسلامية في العلاقات الخارجية تعزز قيمة العدل بين البشر، وتعزز قيمة المساواة والتكافل الاجتماعي (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
كيف نفهم الفتوحات الدولية في ضوء العلاقات الإسلامية؟
د. عبد المجيد النجار: البيان الديني في العلاقات الدولية كان كليًا عامًا ليس فيه توصيل، ويقوم على أمرين أساسيين:
- أن هذه العلاقات تقوم على السلم.
- تقوم على نصرة المظلومين وعلى تحرير العباد.
في هذا النطاق يمكن أن نفسر تلك الحركات التي نسميها فتوحا، فإنها تستجيب لهذين المبدأين، لأن الفتوح ليست هي نشر الدين بالإكراه، وإنما هي لإزالة العوائق التي تعوق تعريف الدين الجديد للناس، حتى يفهم الناس هذا الدين ثمّ يختارون إن كانوا يريدون أن يتدينوا به أو يريدون أن يتركوه بحرية، هناك عوائق من الأنظمة الاستبدادية تعوق وتحول دون هذا، وهذا ما يمكن أن نفسر به تلك الفتوحات، اليوم تعقدت الأمور وهذا من حكمة الله أنه ترك مجالا كبيرا للاجتهاد في هذه العلاقات.
العلاقات الدولية شهدت تطور كبير جدًا، أصبح العالم يتجه من العلاقات الثنائية إلى العلاقات الدولية الشاملة، ولهذا نجد منظمات دولية تشمل جميع من فوق الأرض.
وهذا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في العلاقات الدولية في الدولة الإسلامية الحديثة، وأن تتأسس على تلك المبادئ، مبادئ السلم ونصرة المظلوم، فالمواثيق الدولية تقوم على حقوق الإنسان في نصرة المظلوم.
كيف يكون للمبادئ في الشريعة الإسلامية حضور في الفضاء الدولي من خلال الدول الإسلامية الدولية، بحيث أن هذه القيم الرفيعة تكون حاضرة بقوة؟
د. نور الدين خادمي: حضور هذه القيم الإسلامية للمبادئ يكون عن طريق الدول الإسلامية بمقتضى العلاقات الدولية، فكل دولة إسلامية عندها حلول في المنظمات الدولية والأمم المتحدة، وعندها تواصل فني واقتصادي وسياسي، وهذا كله يجعل الدول الإسلامية -إن هي أرادت ذلك- يجعل المبادئ معروفة في إطار السيادة والمرجعية الدينية.
الحضور الإعلامي بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية يكون عن طريق الهيئات والخبراء والفلاسفة ومواقع التواصل الاجتماعي، كل هذه النوافذ يمكن لها أن تعرف بالمنتوج الإسلامي وبالمرجعية الإسلامية.
وأيضًا عن طريق التواصل الاجتماعي الحقيقي عن طريق البعثات والسياحة والترجمة والفنون والتواصل الاجتماعي بعناوينه المختلفة، والتجارة، كما وقع في العصور السابقة، كل هذا يمثل إمكانيات لحضور القيم الإسلامية في الفضاء الدولي، من حق المسلمين ذلك الحضور، وعليهم تفعيل ذلك الحضور بمقتضيات هذه القانونية والدولية والدبلوماسية.
فمن حق المسلمين أن يعرفوا بمنتوجهم الحضاري وبرسالاتهم الإسلامية كما لغيرهم أن يعرفوا بمنتوجهم وخلفياتهم في إطار التداول الثقافي والمشترك الإنساني وما تسمح به القوانين الدولية، لذلك من الأهمية بما كان أن يكون للمسلمين الوعي الكافي لشريعتهم، أما أن نترك الفضاء الدولي فارغًا، فهذا خطأ.