إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أمّا بعد..

مقدّمة                                                                                     

"الحضارة نتاج فكرة جوهرية تدفع بها في التاريخ " [1] انطلاقا من هذه المقولة لمالك بن نبي نفهم أن أصل قيام الحضارة هو الأفكار الجوهرية التي يؤمن بها الإنسان يتخذ من خلالها منهجا فكريا ليصوغ به محيطا ثقافيا ليصبح سائدا حتى يرسم بذلك اتجاه مساره الحضاري. 

فالمجتمع الأوروبي عرف بداية نهضته استنادا إلى الفكرة المسيحية في قرون مضت، ومن بعدها في عصور النهضة أفكار سقراط وأفلاطون. 

والمجتمع الإسلامي بفضل رسالة الإسلام انتقل من البداوة إلى مجتمع متحضر يعرف التقدم والازدهار في شتى الميادين، واستطاع أن يحكم العالم لفترة طويلة من الزمن وفق مبادئ العدل والقيم الإنسانية. 

إلا أنّنا في العصر الحالي نجد من يندد بهذا فيقول إن العالم الغربي في وقتنا يشهد تطورا في مجال العمران والعلوم والتكنولوجيا، وهو لا يحتكم إلى فكرة دينية، بينما العالم الإسلامي يمتلك تعاليم الرسالة الإسلامية التي تؤهله لبناء حضارته من جديد إلا أنه يشهد آثار التخلف والتقهقر في العديد من المجالات.

للإجابة عن الإشكالية المطروحة قُسم البحث إلى جزئين الأوّل يتناول الفكرة الدينية ودورها في بناء الحضارة الإسلامية والجزء الثّاني يتناول الخلل السائد في الحضارة الغربية بعيدا عن الفكرة الدينية.

أوّلا: الفكرة الدينية ودورها في بناء الحضارة الإسلامية

لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران/ 19]، إن الفكرة الدينية هي فكرة التوحيد لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران/ 19] 

وبما أن الفكرة الدينية هي العلاقة بين الإنسان والمجتمع وفق منهج رباني كما يرى مالك بن نبي، فالهدف من الفكرة الدينية هو إحداث الفاعلية. 

لقوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور/55] 

وإن الاقتناع بالفكرة الدينية يقودنا إلى اتخاذها منهجا فاعلا للتخلص من الاستعمار وحتى من القابلية للاستعمار بالرجوع إلى منهجية الكتاب والسنة بالمنطق العملي، للانتقال من التكديس إلى البناء الذي طال الأفراد حتى في تكديس الشهادات العلمية الهائلة.

 ولا يكون هذا الانتقال إلا بتحريك الجانب النفسي ومحاسبة الذات وفق الناتج الفكري وذلك بمقياس مستوى الحضارة بربط الأفكار بالواقع الاجتماعي لبلوغ أهداف سامية تخدم الرسالة المحمدية.

ثانيا: الخلل السائد في الحضارة الغربية بعيدا عن الفكرة الدينية 

لقد دلّ التحليل التاريخي أنّ ما يطلق عليه" بمركب الحضارة " أي الفكرة الدينية هي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة لناتج الحضارة (إنسان + تراب +وقت ). [2] 

وفي هذا السياق يقول الدكتور بكار في إحدى محاضراته: مستقبلا القوانين لن تكون كافية للضبط، لابد من وازع داخلي لضبط الإنسان وقد ضرب مثالا عن أعمال العنف والشغب في أمريكا رغم توفر الأمن إلا أنه لم يتمكن من ردعهم ومنعهم من أعمال العنف. [3] 

من هذا نفهم أنّ الجانب القيمي والروحي هو مصدر هناء الإنسان أكثر من المال، وضبط العلاقات الاجتماعية هي العمران الروحي والمعنوي للحياة لذلك نجد في الحضارة الغربية فجوة وهوة نلمسها في الجانب الأسري والانحلال الأخلاقي المجتمعي بالرغم من وجود قوانين إلا أنها غير رادعة كفاية، كما نجد أن بعض القوانين في حد ذاتها مشجعة للانحلال الأخلاقي كالزواج المثلي لعدم الارتكاز في البناء القيمي للمجتمع على الفكرة الدينية والوازع الديني وهذا ما يعرف بالنهضة الروحية وهو الجزء الغائب في الحضارة الغربية.  

قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين﴾ [آل عمران/85]، وقال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ الفرقان:23

ومن الآيتين الكريمتين نتوصل إلى أن مهما بلغ الإنسان من تطور صناعي وقوة إذا لم يصاحب هذا التقدم والرقي إيمانا وتوجها خالصا لله تعالى فسيرد على صاحبه هباء.  

  • فكل عمل ولو كان صالحا لا يبتغي به وجه الله تعالى وفق المنهج فهو مردود على صاحبه غير مقبول 
  • يلزم لقبول الأعمال شرطان: إخلاص النية لله تعالى سبحانه والاتباع وفق المنهج السني.  

توصياتٌ لتفعيل الفكرة الدينية في العالم الإسلامي

إنّ الرؤى الفكرية للنهضة تختلف باختلاف الأجيال وذلك لأن مشاكل ومعوقات النهضة تختلف من جيل إلى جيل وتتطور وتزيد وتتعقد، وبذلك خلصت هذه الدراسة إلى بعض التوصيات لتفعيل الفكرة الدينية في العالم الإسلامي:

  • البحث عن آليات تتناسب ومستجدات النهضة. 
  • تفعيل مواهب الناشئة بالمرافقة والتحفيز وفق المنهج النبوي.. نموذج عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
  • التشجيع على الابتكار والإبداع لما يخدم متطلبات المجتمع.
  • أسلوب التنظير وفق رؤية فكرية نقدية للمجتمع بإيجابية وتحدي ونظرة ثاقبة عميقة. 
  • انتهاج المجتمع الموجّه وفق الفكرة الدينية بتوجيه الإيمان للسير عمليا. 
  • تحريك المجتمع بمخططات تخدم رسالة الإسلام. 
  • تفعيل الروح والعقل والعمل باتجاه واحد وفق مبادئ سامية تخدم الإسلام. 
  • ربط الأفكار بواقع المجتمع... ابدأ بالأهم ولو كان صعبا. 
  • التحرر من الانتماء والعيش تحت ظلال الطائفة أو جماعة معينة.