في مطلع القرن الواحد والعشرين ازدانت المكتبة الإسلامية بتفسير من أنبل التفاسير وأجزلها وأقواها وأعمقها، انعكست فيه خلاصات مؤلفه التي استقاها من مدارس مختلفة، ومعارف إنسانية متعددة استطاع تحصيلها من خلال تنقّلاته العلميّة بين السودان وبريطانيا وفرنسا وإتقانه لثلاث لغات أجنبيّة ليقدم من خلالها هذا التفسير المتميز في أسلوبه وطريقته والنوعي في مضمونه ورسالته، ألا وهو كتاب التفسير التوحيدي للدكتور حسن عبد الله الترابي رحمه الله.

في هذا الكتاب يسلط الدكتور الترابي الضوء على فكرة التوحيد بمعناها الشامل ومن خلال الهدي القرآني ككتاب حياة، ولقد رأينا في هذه الأسطر أن نلقي الضوء على هذه الفكرة من خلال قراءة مقدمة هذا التفسير، ومن خلالها يمكن إدراك فكرة التوحيد الجوهرية التي تعتبر الرسالة الخالدة التي عاش بها الدكتور الترابي إلى أن لقي ربه.

مميزات الكتاب

يعد كتاب التفسير التوحيدي من أهم الكتب التي صدرت للمؤلف، وهو كتاب في التفسير اعتمد فيه مؤلفه منهج التفسير التوحيدي، وفكرة التفسير التوحيدي تكمن في أن القرآن كله نسق واحد وموضوعه واحد، وإن اختلفت موضوعاته وأسباب نزوله فهو مترابط مع بعضه ومتحد مع كل الأزمنة، ولا بد من توحيده مع الكون والإنسان والحياة لتخضع كلها لله رب العالمين والسورة في نظر الترابي عبارة عن سور لبناء محدد لا تفهم الآية الواحدة منها إلا بفهم كل الآيات، وكذا لا تفهم السورة الواحدة إلا بفهم كل السور، فكان "لا بد من توحيد القرآن كلما وآيات وسورا لينشرح بعضه ببعض ويتعزز وقعه الموصول لتبلغ القارئ وتسري في معاني وحدانية الله المطلقة وحضوره المحيط بالوجود ووحدة كلماته وآياته ورسالته التامة بكل هديها المتجدد؛ لتوحيد حياة الإنسان بشرا مع الكون حوله، فردا في جماعة على طريق واحد مستقيم عبر كل صروف الزمان والمكان وابتلاءات الدنيا المشهودة ورجاءات الغيب والمرجع إلى الله ومشاعر إيمان في كل حركة وسكون من سيرة الحياة".

تميز التفسير التوحيدي عن التفاسير الأخرى بعدد من الميزات، لعل من أهمها ابتعاده تماما عن النقل من التفاسير السابقة، فلا يكرر المؤلف أقوال السابقين ولا يعرض آراء المفسرين ولا ترجيحات المحققين، وهذا لربما من المآخذ على هذا التفسير الذي يراه البعض منبتا عن مدرسة التفسير الإسلامية، بينما هو ميزة مضافة لهذا الجهد، لأن المؤلف أراد عرض ما توصل إليه هو، غير متقيد بالآراء التي رآها غيره في كتبهم بل والثورة على بعض تلك الآراء أحيانا، وخاصة التي تكرس التقليد المعيق لحركة الفكر والتجديد وهو داعية الإبداع والتجديد.

لم يكن التفسير التوحيدي مولعا بالإسرائيليات، بل كان على النقيض من ذلك يذمها ويرى أنها تؤدي إلى الاختلاف في فهم القرآن، لكنه مع هذا قد يقع فيما عابه على المفسرين من قبله، لكن ليس بالقدر الذي وقعوا هم فيه، كما تميز هذا التفسير بنقد أسباب النزول التي يرى بأنها تفارق وحدة القرآن هديا للحياة كافة، وإغفال أسباب النزول بشكل كلي يشكل خللا في فهم كثير من الآيات، إذ أن القرآن نزل منجما عبر الوقائع والأحداث، ولا يكتمل الفهم أحيانا إلا بمعرفة أسباب النزول، من دون إسراف في قبول كل ما ورد ولا رد لكل ما ورد "ورغم زهد الترابي في إيراد أسباب النزول، إلا أنه قد يذكر بعض الروايات بمضمونها لا بصيغتها الثابتة، ويقوم بصياغتها بلغته، مع التصريح بأن ذلك سبب نزولها أحيانا وأحيانا أخرى لا يصرح بذلك".

تميز هذا التفسير كذلك في طريقته ومضمونه بسرد المعاني وتنسيق الآيات، والربط بين السور وتوحيدها مع الإنسان والحياة، لتخرج جميعها في قالب موضوعي واحد، يدرك من خلاله الإنسان قيمة القرآن العظيم ويزداد له حبا ومنه قربا.

طريقته في التفسير

مشى المؤلف في ترتيب السور والآيات على نفس منهجية أغلب علماء التفسير السابقين، وأبدع في تناول هذه السور على نحو لم يُسبق إليه شكلا ومضمونا، حيث حرص على تناول السورة الواحدة من ثلاث زوايا، تؤدي كلها نفس الغرض.

الزاوية الأولى: خلاصة هدي السورة

وهذا ما يفتتح به كل سورة، ويعطي من خلاله تصورا عاما وعرضا مجملا للسورة، بحيث لا يشرع القارئ في القراءة إلا بعد إعطائه فكرة عامة عنها، وفي هذا العرض يتناول غالبا اسم السورة وأسباب التسمية مع بيان فضلها وأهميتها، معرجا على مكان نزول السورة وعلاقتها بالسورة التي قبلها والسورة التي بعدها مع تناول المعنى الإجمالي للسورة وما تتعرض له من أفكار عامة ومواضيع رئيسية محاولا توحيد آي السورة مع بعضها من خلال سرد المعنى الإجمالي للسورة والتسلسل العلمي لها، وتوحيدها مع بقية السور.

الزاوية الثانية: ترتيل المعاني

وهنا يكون البسط في بيان هدي السورة آية آية من خلال عرض آياتها والوقوف مع معانيها وبيان الأسرار والحكم داخلها، مع تناول السياق الزماني والمكاني والاجتماعي والنفسي الذي وردت فيه الآية ويقسم هذه الآيات إلى مقاطع محددة يربط بعضها ببعض.

الفتنة الحاصلة اليوم هي هجر التدين في الحياة العامة، حيث تغلبت القوة والفتنة، وانحسر ضوء آيات القرآن في هدي السلطان والشورى وفي العهود والسلام مع الآخرين وفي المال العام، حتى أصابت هذه الفتنة بعض حفاظ القرآن وقراء التفاسير، فأصبح البعض يقرأه ليبارك له المكان أو يحصل له بكل حرف حسنة من دون تدبر ولا اهتداء، فلما انعزل القرآن انعزل الدين عن واقع الحياة.

الزاوية الثالثة: عموم المعاني

وهذا يأتي في ختام كل مقطع من المقاطع التي يرى المؤلف أن بينها ترابطا وتقاربا، بحيث تتناول موضوعا واحدا أو مواضيع متقاربة، فيربط بين آياتها بعضها ببعض في وحدة موضوعية متكاملة، كما "اشتملت على إيراد الدروس والعبر والعظات التي كان الترابي يستخلصها من الآيات القرآنية، ووصف الواقع المرير الذي يحياه المسلمون اليوم في العصر الحاضر نتيجة عدم تفعيل الهدي القرآني على أرض الواقع، وكان يسلط الضوء فيها على الوصايا والتوجيهات التي يستنبطها من الآيات، ويوجهها للقارئ عموما وللدعاة".

الأسباب والدوافع

بدأ الترابي رحمه الله تفسيره بمقدمة أشار فيها إلى السبب الرئيسي الذي جعله يسير في هذه الطريقة من التفسير، وهو أن التفاسير السابقة تجمع هدي القرآن حسب توالي الآيات، لكنها قد لا تصل بعضها ببعض لتبين كيفية توحدها في الحياة كما توحدت في الذكر، ثم أخذت مناهج التفسير بعد ذلك تبتعد شيئا فشيئا عن مسلك البيان التوحيدي للقرآن، فمفسرون ركزوا على الأحكام الفقهية تركيزا كبيرا انتهى بعزل الأحكام عن أصولها القرآنية، وآخرون متصوفة ركزوا على التدين الوجداني، وآخرون ركزوا على أسباب النزول، وهذا وغيره مما عزل هدي القرآن عن الحياة العامة، فالقرآن كتاب هداية لكليات واقع الحياة ومواضع الصلاح أو الضلال العام فيها، ومعه السنة النبوية المهدية بالقرآن الجامعة لكل شؤون الحياة، أما فقه الدين فإن غالبه يركز على فروع شعاب الحياة الخاصة، حيث يرى المؤلف أن الفتنة الحاصلة اليوم هي هجر التدين في الحياة العامة، حيث تغلبت القوة والفتنة، وانحسر ضوء آيات القرآن في هدي السلطان والشورى وفي العهود والسلام مع الآخرين وفي المال العام، حتى أصابت هذه الفتنة بعض حفاظ القرآن وقراء التفاسير، فأصبح البعض يقرأه ليبارك له المكان أو يحصل له بكل حرف حسنة من دون تدبر ولا اهتداء، فلما انعزل القرآن انعزل الدين عن واقع الحياة وأصبح الإسلام هوية وانتسابا وحصل ما حصل، وقليل من يتلوه مستمعا متفقها متبعا صادقا ملتزما به في حادثات الحياة جميعا، ولهذا جاء هذا التفسير ليعيد الوحدة بين القرآن والحياة.

القرآن كتاب حياة، وإعادة الاعتبار له تكمن في إعادة الوحدة بينه وبين الحياة، ونظمها معا لغاية واحدة هي الله، وهذا الذي دفع المؤلف لهذا النوع من التفسير، ولعل الترابي هنا ينظر إلى البون الشاسع والفجوة الكبيرة بين القرآن والحياة، والأزمة السلوكية التي تعيشها الأمة، والتي تتمثل في الابتعاد عن كثير من قيم الحياة العامة التي جاء بها القرآن، والخلل في تحقيق كثير من العبادات لقيمها ومقاصدها العامة كالوحدة والسخاء والرحمة، والابتعاد عن الفحشاء والمنكر والبغي والبخل، وهذا هو الدافع الرئيسي لهذا الجهد الكبير، وهو إعادة الاعتبار للحياة من خلال القرآن، وتوحيدها مع الإنسان لرب الإنسان.

 

مؤلف الكتاب د. حسن عبد الله الترابي (1 فبراير 1932/ 5 مارس 2016)  

لهذا كان الترابي يعقد مجالس التفسير الأسبوعية التي يحضرها عدد من المهتمين والمختصين، ويشارك معهم غيرهم ممن يحضر ليستفيد من هذه المجالس، وفيها تتم قراءة بعض آيات القرآن وتدبرها واستخراج الدروس والعبر منها، في أسلوب شُوري فعال، نابع من فكرة أن تلاقح الأفكار ينشئ أفكارا جديدة وقد يؤسس لعلم جديد، حيث بدأت هذه المجالس من عام: 1994م، واستمرت عشر سنوات ليخرج منها الجزء الأول من هذا التفسير، الذي أنجز جزء كبيرا منه داخل السجن، ثم جاء من بعده الجزء الثاني إلى سورة العنكبوت، وانتقل إلى رحمة ربه ولم ينته بعد من إكمال هذا التفسير.

لغة القرآن والتوحيد

يرى المؤلف أن التفسير هو أن يؤخذ نص القرآن في ضوء معاني اللغة التي كانت سائدة وقت التنزيل في الاستعمال المعرفي العربي والاصطلاح الشرعي الأصل، ثم في ضوء الإطار الواقعي للتنزيل من أسباب تفصيلية للآيات أو عموم الحياة بين الجاهلية وصدر الإسلام، ثم في ضوء بيان الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الخاصة وفي سيرته العامة في الحياة بالقرآن فإنما ذلك بالاستئناس تعاونا بين المسلمين عبر القرون، ومراعاة لاختلاف الألفاظ وتطورها عرفا وفقها، وتبدل الواقع بما يشمل من ظروف تكييف النظر الحق إلى آراء القرآن وأهواء تؤثر في فقهه.

للمؤلف رأيه فيما يتعلق بالأحرف المقطعة التي ابتدأت بها بعض الصور، ينطلق فيه من تألف القرآن من هذه الأحرف لفظا ومعنى، وفي ذلك إشارة إلى سهولة فهمه، ومعرفة مقاصده وحكمه، فكل القرآن من هذه الأحرف المعروفة، التي يسهل عليكم فهمها ومعرفتها، كما أن اللغة العربية لغة من جذر واحد بمعنى أنها لم تُجمع من لغات متعددة، والقرآن لغة اصطلاحِه واحدة، وفكرة التوحيد في هذا هي في توحيد النطق بحرف القرآن والتوحيد لأصواته نسقا ومعنى.

اللغة تتغير مدلولاتها بتغير الزمان والمكان، فاللغات تتطور وتتغير، ولذا كان لابد من توحيد القرآن وفقا للغة العرب الأولى، فالقرآن تفهم ألفاظه وفقا للغة التي نزل بها، حيث يقول الترابي: "والتفسير الصادق للقرآن ينبغي أن يوحد لغة القرآن في جملته وفيما بينها وأمة الخطاب عهد التنزيل لا يفارقه"، كما أن هناك فرق بين القرآن والشعر، فالقرآن لا يلتزم نغما على الميزان الصرفي، وزينة النظم تؤثر على المعنى في الشعر فقد يكون المراد ناقصا في الشعر بينما البيت تاما وزنا وقافية، بينما القرآن يوحد كل طاقات اللغة لإيقاع المعنى مفهوما منظوما بتعبير بليغ جميل.

آيات الكون والتوحيد

القرآن كله دعوة إلى توحيد الله الذي تُرى آياته في مشهودات الكون، يُعرف بها الله تعالى خالقا ناظما متصرفا قديرا، فالقرآن يوحد بين آياته الخالدة وآيات الكون وبين الإنسان، من هذا المنطلق يرى المؤلف العلاقة بين آيات الكون والتوحيد.

كما يناقش الترابي كتب التفسير السابقة، والثغرات التي لم تملأها بخصوص ما يتعلق بالكون، كالمرور بها عرضا وعدم تبيين ما فيها من سنن وأقدار هادية واعظة، والتقصير في الإشارة إلى حكمة وصلها سياقا بذكر آيات الوحي وحياة الإنسان، ولعل الروايات الإسرائيلية التي أغرقت جُل كتب التفسير في تناولها أضاعت كثيرا من حكم الكون وتسليط الضوء عليها أكثر، إضافة إلى عدم الوصل بين النهضة القديمة في العلوم الطبيعية والتفسير، والتي لو تمت حسبما يرى المؤلف لتبين للقارئ كيف يخشى اللهَ من عباده العلماءُ المتفكرون في ألوان الكون، وكيف تُسخر قوى الطبيعة بين البشر ليزدادوا إيمانا.

السنة والتوحيد

لقد كان المنهج التوحيدي للترابي منهج حياة في كل أموره، وبهذا فهم القرآن وفهم السنة في سياق واحد، فهو يوحد بين القرآن والسنة ويوحد بين القرآن ونبي القرآن صلى الله عليه وسلم، والتدبر التوحيدي هو منهج الترابي في فهم القرآن والسنة، بل فهم الطريقة القرآنية المحمدية حديثا وسنة وسيرة وهي حياة متصلة غير منقطعة، ومنسجمة غير مضطربة، وهي مثل القرآن معانيها لا تنفد، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم كحياة بقية البشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، وحياته حياة العابد والقائد والقاضي والزوج، وهكذا يجب النظر إليها كما يرى المؤلف، فالسنة في نظره هي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أصل شرعي يلي القرآن حكما ولكنه لا ينفك عنه.

"ومنهج الترابي هو توحيد فهم السنة مع فهم القرآن فهما توحيديا تكون فيه السنة تابعه للقرآن لا متبوعة به، وكما ينظر للقرآن وحدة واحدة فهو ينظر إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحدة واحدة لا متناقضة ولا متعارضة،ومنهج الترابي في النظر إلى الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو النظر إليها من خلال درجات الصحة والضعف التي اعتمدها علماء الحديث، وكذلك من حيث انسجام دلالة المتن مع مفهومات القرآن أو السنة التي تكون أعلى رتبة من حيث سندها أو رسوخ معناها في أصول الدين،والترابي يرى أن السنة قد تعرضت للنسيان والخطأ والهوى في تسجيل التاريخ مهما امتازت بدرجة ضبط منهجي فريد، وذلك ابتلاء من الله لنجتهد في تعرف عهد التنزيل ثم نجتهد في الاستغناء بالقرآن فيما غاب عنا من آثار تلك الحياة".

القرآن والحياة والتوحيد

يقسم المؤلفُ الناسَ في تعاملهم مع القرآن إلى ثلاثة أقسام ويبين أن القسم الثاني هو المطلوب منا اليوم وهذه الأقسام هي: قسم حفظ القرآن أو قارب حفظه لكنه محجوب في غلافه بلا تدبر ولا تفهم ولا حضور قلب بل لقصد البركة وكسب الأجر، والقسم الثاني يتلوه مستمعا متفقها متبعا صادقا موقعا معانيه في حادثات الحياة جميعا وهذا هو المطلوب، والقسم الثالث يرى القرآن كتاب هداية للناس فقط ولعل من الأسباب التي أدت لعزل القرآن عن حياة الناس حسب المؤلف، عزل أصول الدين عن بعض الحياة، حيث أصبح الإسلام هوية وانتسابا أفلتت منه غالبية الحياة، والمسلم مسلم بالبطاقة خالي الفكر والشعور والتعامل، والثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول هو غربة اللغة العربية عن عرب المسلمين فضلا عن غيرهم، فلقد أصبحت اللغة العربية غريبة في وطنها فضلا عن غيره ولا يهتم بها إلا النزر اليسير.

ويقترح لذلك حلا عمليا يكمن من وجهة نظره في إحياء اللغة العربية عموما وتأصيلها، وكذلك أخذ القرآن بقوة وبيانه بيانا واضحا، مع توحيد القرآن كلما وآيات وسورا وحشد طاقات العلم بالمحسوس ليتوحد مع علم القرآن المنزل.

القرآن والفكر التوحيدي عند الترابي

لم يكن الترابي يقصد بالتوحيد ذلك المعنى المعروف لدى الجميع فقط، بل كان يقصد به معاني أكبر وأعظم من معناه المعروف المتداول، فالتوحيد عنده توحيد الإنسان والحياة وكل شيء لله الواحد القهار والتحرر من كل سلطان أرضي لله رب العالمين، وتوحيد الأمة نحو الهدف الذي أوجدهم الله لأجله على هذه الأرض وهو الخلافة في الأرض وعمارتها ونشر المحبة والسلام والتعايش في أرجائها، وعلى هذا الأساس كان يرى أن القرآن لا يمكن أن يعانق الحياة إلا بمعناه الكلي.

إن الدين أساسه التوحيد والقرآن مصدر هذا التوحيد والدنيا لا تستقيم إلا باتساق علاقتها بالدين في وحدة واحدة، والقرآن جاء ليوحد بين الدنيا والآخرة بلا رهبانية مبتدعة ولا مادية محدثة، بين المسارعة في عبادة الله والمشي إلى الدنيا، والتفسير التوحيدي جاء ليكشف عن هذا المعنى

بما أن الدين كله يتأسس على الإيمان بوحدانية الله فالقرآن لا انفكاك له عن التوحيد والتفسير ينبغي أن يكون على هذا الأساس، ولهذا فإن القرآن كله دعوة إلى توحيد الله، حيث يقول: "القرآن كله دعوة لتوحيد الله ترى آياته في مشهودات الكون سماوات وأرضا ونجوما وماء ونبتا وحيوانا ورياحا يعرف بها الإنسان ربه خالقا ناظما متصرفا قديرا". 

وهذه الآيات الكونية يجب أن توحَد مع الآيات القرآنية وبالإنسان الذي يهتم القرآن بتربيته وإعداده لكنه في نفس الوقت يربطه بالجماعة ويوحده معها فهو منها وإليها لا ينفك عنها ولا يعتزلها، بل يختلط معها ويشاورها وينصحها ويقف إلى جوارها وتقف إلى جواره وينصرها وتنصره ويتعاون معها وتتعاون معه فلا انفكاك للفرد عن الجماعة ولا انفكاك لها عنه، في سلوك واحد يتسق فيه الظاهر مع الباطن ويتلازمان.

هذا الاتحاد بين القرآن وواقع الحياة، لم ينزل دفعة واحدة بل نزل منجما يسير مع الحياة موجها ومرشدا ومقوما، فعند الصواب يثني وعند الخطأ يزجر وعند السؤال يجيب وعند الحيرة يهدي، فالقرآن بمجمله يوحد هوادي الحياة، والسورة الواحدة توحد في آياتها عددا من الهوادي، من الإيمانيات والأذكار والشعائر والعبادات الخالصة والمرشدات العامة.

القرآن كذلك يوحد وجهة الحياة وقواها، وإذا كانت الحياة الإنسانية تتطور وتتضاعف هموما فلا بد أن يفسر القرآن ليوحد هداها، لتتناصر وتتحد وحتى لا تضطرب وترتبك، فالقرآن إذاً خطاب موحَد لكل الناس وموحِد لهم، فهو خطاب للمسلمين في عهده وللمسلمين اليوم وبعد اليوم، وهو كذلك خطاب للمعرضين عنه في زمن نزوله وللمعرضين عنه اليوم وبعد اليوم.

إن الدين أساسه التوحيد والقرآن مصدر هذا التوحيد والدنيا لا تستقيم إلا باتساق علاقتها بالدين في وحدة واحدة، والقرآن جاء ليوحد بين الدنيا والآخرة بلا رهبانية مبتدعة ولا مادية محدثة، بين المسارعة في عبادة الله والمشي إلى الدنيا، والتفسير التوحيدي جاء ليكشف عن هذا المعنى وليجمع "خير كل المناهج من حيثما اقتربت من بيان القرآن ويباركها بكل مناهج المعرفة بعد تطور العلوم والحياة، تفسيرا لا يجمِّد تفسير القرآن بكلمة بيان حاسمة، بل يتصوب للوفاء بمقتضى تجدد العلم، لتلاوة التجلي القرآني عبر الزمان السائر، وذلك لبعث دورة أخرى من بسط القرآن والإسلام ضوء منتشرا في الأرض لكل بني الإنسان المسلمين هوية وهم جهال بأصول الإسلام والمهتدين الذين يريدون استزادة من هدي القرآن والكافرين الذين ارتدوا وصدوا عن كل الدين أو الذين فيهم بقية من دين أو الذين يحملون على الإسلام يحقرون أهله أو يحذرون منهم" وهذا هو معنى التوحيد الذي عناه الدكتور الترابي وجاءت كتبه مطابقة لهذا الفهم الواحد للإنسان والكون والحياة، الفهم الذي يرى أن للدين علاقة بالدنيا وللدنيا علاقة بالدين بحيث لا يقوم واحد منهما دون الآخر، وانطلق في حياته العملية على هذا الأساس النظري ساعيا لتجميع الأمة العربية والإسلامية تحت مظلة المؤتمر الشعبي الإسلامي، وتوحيد شعب السودان من خلال مؤتمر الحوار.

وأخيرا فإنا نأمل أن يلقى هذا التفسير حقه من الدراسة والتحليل أكثر، بل والشرح والتبسيط خاصة لذوي الفهم المحدود؛ لأن لغة الدكتور الترابي القوية وفلسفته العميقة قد تستعصي أحيانا على القارئين الكبار فضلا عن الصغار، رغم أن الدكتور كان يرى بأن التفسير ينبغي أن يكون بلغة سهلة يفهمها الجميع وهذا مما لم يلتزم به، وهو ما يتطلب منا إعادة قراءة شخصية الترابي العميقة، والتي نأمل أن يتصدى لها طلابه ورفاقه، كما نتمنى العناية بهذا الكتاب وإعادة طبعه وضبطه فنيا وإملائيا وتجاوز الأخطاء التي حصلت في الطبعة السابقة، كما نوصي السادة الباحثين من طلابه والملازمين له أن يواصلوا الطريق في إتمام الجزء الثالث من التفسير، ولعل الأستاذ المحبوب عبد السلام قد شرع في هذا العمل لعلاقته بالدكتور وملازمته الطويلة له واستيعابه لمنهجه وفكره.