في ظل الانبهار الحضاري بالغرب الذي بات سمة من سمات بعض النخب العربية، وصراع الحضارات المحتدم، يطل علينا الدكتور عماد الدين خليل أحد أكثر الكتاب العراقيين شهرة وعطاءً ليؤكد أن حلول أزمات العالم تكمن في الحضارة الإسلامية الغائبة عن تصدر المشهد منذ قرون منطلقا من القرآن الكريم ودارسا للتاريخ وحركته وسننه ليقدم مناهج ونظريات للفعل الحضاري المستمد من الإسلام لنصل للحضارة المنشودة. فالدكتور عماد الدين هو مفكر ومؤرخ وأديب ساعده هذا التشعب في أن يقدم محتوى معرفي غزير ومتكامل نستعرض أبرز ملامحه في هذا التقرير. 

من المُتحف.. أصدر رُبع تراثه الفكري! 

ولد الدكتور عماد الدين خليل في الموصل عام 1941، ودرس التاريخ في جامعة بغداد وحصل على البكالوريوس في الآداب عام 1962 من قسم التاريخ ومن ثم أكمل الماجستير في نفس الجامعة، وبعد الماجستير أصبح مشرف المكتبة المركزية في جامعة بغداد مما أعطاه فرصة كبيرة للمطالعة والكتابة، وحصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة عين شمس في مصر، ليبدأ رحلة طويلة في التدريس في العديد من الجامعات العربية. 

يعتبر المفكر الإسلامي مالك بن نبي أحد الذين تأثر بهم الدكتور عماد وأدهشه حيث أعجب بقدرته على هندسة الافكار-وفق تعبيره- وإعادة صياغة المفاهيم الإسلامية صياغة فكرية محكمة وبرؤية مهندسة لهذه الأفكار. 

هذا وقد عمل الدكتور في متحف الموصل لمدة عشر سنوات مما أتاح له الفرصة ليكتشف خبرات جديدة في مجال التراث وجمع دراساته وبحوثه في هذا المجال ضمن كتاب "خطوات في دراسة الموصل" الذي يطرح جملة من المعطيات عن الموصل وشخصيتها المعمارية وتراثها الكبير، حيث كتب في فترة عمله في المتحف ربع تراثه الفكري والأدبي.

أي موقع للمشروع الحضاري في تدريسنا للتاريخ؟ 

يشير الدكتور عماد جرّاء خبرته الواسعة في تدريس التاريخ في عدد من الجامعات العربية أن هناك خطأين شائعين في تدريس التاريخ:

الخطأ الأول متمثل في إعطاء الساعات الأكثر للتاريخ السياسي

حيث يشير الدكتور إلى أن التاريخ السياسي هو أضعف الحلقات في بنيتنا التاريخية - على ما فيه من مواقف ومراحل مشرقة - بينما الحضارة هي أقوى الحلقات في بنيتنا فيتخرج الطلاب وهم مهزوزو الثقة في تاريخنا ولو أعطينا عُشر الوقت للتاريخ السياسي وتسع أعشار الوقت للتاريخ الحضاري لتخرج الطلاب في حالة غير هذه الحالة من اهتزاز الثقة والسلبية تجاه التاريخ على حد تعبيره.

الخطأ الثاني هو أن الحضارة تُعطى كمنهج تفكيك

 وعليه يرى الدكتور أن الحضارة يجب أن تعطى برؤية شمولية تعبر عن شخصية الحضارة الإسلامية وملامحها الأساسية وصفاتها ومواصفاتها التي تتميز بها عن الحضارات الأخرى. 

4 مساقات لابد منها لتدريس الحضارة الإسلامية

في كتابه "مدخل إلى الحضارة الإسلامية"، اقترح أن يتم تدريس أربع مساقات للتاريخ على الترتيب: 

1)أصول الحضارة الإسلامية

 لمعرفة كيف تشكلت الحضارة وما هي القوى الدافعة لها، وكيف تفاعل المجتمع مع نصوص القرآن وكيف حولها إلى فاعلية حضارية، ويتحدث عن ثلاث نقلات حضارية قامت بها الحضارة الإسلامية:

  • عقدية وهي نقلة الناس من عبادة الأصنام الى التوحيد.
  • معرفية وهي كمية المعلومات العقلية الصحيحة الواردة في القرآن والخالية من الخرافات. 
  • وفي النقلة المنهجية يؤكد أن الحضارة الإسلامية فعّلت منهج البحث الحسي المختبري الذي أكد عليه القرآن عكس العلم اليوناني التنظيري، وفعّلت المنهج السببي مستندا إلى النظر وفق نسق معين تترتب فيه النتائج على المقدمات ليعطي عقلية مركبة في متابعة الظواهر، ومنهج القانونية التاريخية وفيه يؤكد على أهمية دراسة السنن التاريخية حتى نفهم حركة التاريخ.
2)نمو الحضارة الإسلامية

 يُقدَّم فيه معطيات الحضارة الإسلامية، ويذكر الدكتور 6 معطيات رئيسية وجوهرية قدمتها الحضارة الإسلامية للعالم وهي:

  • التوحيد وإزالة الشرك وبذلك وحّدت الأرض مع بعضها البعض. 
  • الأمة التي ألغت التفاضل على أساس القبيلة والعشيرة.
  • الإصلاح والتعمير الذي ألغى التخريب والإفساد اليومي.
  • المنهج الذي ألغى الخرافة والشعوذة.
  • المعرفة التي ألغت الأمية.
3)تدهور الحضارة الإسلامية

 من الملفت للنظر أن الدكتور يذكر عشرين عاملا كلها عوامل داخلية في مقابل عامل خارجي واحد فقط وهو الغزو المتواصل على الأمة من الإمبراطوريات الأخرى. 

تشمل العوامل الداخلية: تضاؤل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ غياب مفهوم التوحيد وظهور الصنمية والشركية؛ الاستبداد السياسي؛ الفصام بين القيادة السياسية والدينية؛ طغيان القبلية والعرقية على مفهوم الأمة؛ الظلم الاجتماعي؛ الترف والتكاثر الذي يزيل النعم؛ التحلل الخلقي والسلوكي؛ الفساد الإداري؛ الغلو والتشدد؛ الرؤية الإرجائية التي فصلت الإيمان عن العمل؛ الصوفية المنحرفة وانتشار البدع؛ غياب الاجتهاد وسيادة التقليد؛ غياب العلم وسيادة الجهل؛ الصراع بين الثنائيات؛ فوضى التعامل مع خبرات الآخر؛ تضاؤل القدرة على توظيف المكان؛ تضييع الزمن وعدم توظيفه؛ أخطاء القيادات الإسلامية المتأخرة (المماليك والعثمانيين)

4)واقع الحضارة الإسلامية ومستقبلها

أما عن الواقع وكيف يمكن أن ننهض به يؤكد أن هناك نمطين من الحضارات، نمط يموت ولا يعود مثل الحضارة اليونانية والفرعونية، وحضارات أخرى قد تستعيد صحتها ومنها الحضارة الإسلامية لأن التأسيسات التي وضعها القرآن والسنة والعصور المبكرة للفعل الحضاري الإسلامي لا تزال موجودة وقد حفظت بعناية ربانية وهي جاهزة في أي لحظة تنتظر المعنيين بالهم الإسلامي أن يستنهضوا القدرات ويشدد على أن غير المسلمين أيضا في أمسّ الحاجة لأن يعود المشروع الحضاري الإسلامي لكي يحيوا حياة سعيدة آمنة ومطمئنة حيث وصلت كل الأنظمة الوضعية البشرية إلى طرق مسدودة في ظل ما يعانيه المشروع الرأسمالي والشيوعي من اختناقات وجمع شهادات من شخصيات غربية بارزة أمثال مارسيل بوازار، روجيه جارودي، توماس آرنولد وآخرين تؤكد ما قاله.

العبادة في أضلاعٍ ثلاثة لإمساك فيزياء العالم وكيميائه! 

يتحدث الدكتور أن العبادة في الإسلام هي عبادة حضارية ليست طقوسية مثل الديانات الأخرى، فكل عمل يبتغي وجه الله فهو عبادة. والعبادة تتمركز داخل مثلث (التسخير، الاستخلاف، الاستعمار) فهي محرك ومحفز لجملة من المعطيات الحضارية التي يراد بها بناء الحياة على عين الله لتحقيق هذا الارتباط بين المركز التعبدي وبين التسخير والاستخلاف والاستعمار الذي يقود الأمة للبناء والترقي والتطوير وأن تكون سيدة نفسها غير مغلوبة على أمرها.

 ولا يمكن أن يكون ذلك بدون أن نمسك بفيزياء العالم وكيميائه ونتوغل في أسراره وكنوزه ويستشهد على ذلك بقصة ذي القرنين عندما قال "أعينوني بقوة " فمنطق الإسلام هو اليد القوية والقدرة على توظيف الطاقة، ويؤكد على ذلك في كتابه "حوار في المعمار الكوني" إذ يقول: "والحسّ ليزداد امتلاءً بالتعامل المكثف مع العالم والطبيعة، ذلك الذي يدعو إليه كتاب الله."

"انظروا".."سيروا".."تفقهوا".. الإنسان في قلب الفعل الحضاري! 

من بين المبادئ القرآنية التي استرعت انتباه مفكرنا عماد الدين نذكر: تفجير الطاقات من خلال إعمال العقل و التأكيد المتواصل على هذا الأمر "انظروا" "سيروا" "تفقهوا"، طَرْقٌ متواصل من أجل أن يكون الإنسان في قلب الفعل الحضاري.كما استوقفته الدعوة إلى النزوع إلى الأمام وذلك بأن لا نلتفت أكثر مما يجب للوراء لأن الالتفات إلى الوراء يعطل الطاقات ويجعل الإنسان يميل إلى الكسل ويتكئ على معطيات الآباء والأجداد

"تلك أمة خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" البقرة - الآية 134. 

بالإضافة إلى مبدأ العمل حيث لا ترد كلمة العمل إلا مع الإيمان وهذا يدل على أن العمل يتطلب خلفية إيمانية والإيمان يتطلب فاعلية، ويلفت نظرنا إلى أن كلمة العمل وردت 365 مرة في القرآن وكأن القرآن يريد أن يقول أن عليك أن تعمل 365 يوما كاملة في السنة. ثم مبدأ النزوع التحريري عبر تحرير الإنسان من الكبت وإشباع رغباته فالحلال هو الأوسع والحرام هو الأضيق في النسيج التشريعي حيث أن الرؤية التحريرية تعطي زخم للإنسان مما يمكنه من أداء الفعل الحضاري بشروط أكثر مواتاة، والإسلام يضع الأمور في الوسط بين الإفراط والتفريط.

آخرها "أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا أنْتَ".. تُراثُ المؤرخ عماد الدين

للدكتور عماد كم كبير من المؤلفات والتراث الفكري والأدبي يصعب أن نجمله في هذا التقرير لذلك سنتحدث عن بعض الكتب: 

ملامح الانقلاب الإسلامي في شخصية عمر بن عبد العزيز (1970)

يذكر الدكتور أن هناك دافعين جعلاه يكتب هذا الكتاب الأول هو شخصية عمر بن عبد العزيز المدهشة في قدرته الانقلابية من حال إلى أخرى، حيث كان أمير مدلل عند أبيه والي مصر، ثم عندما وصل الحكم انقلب انقلابا كاملا حيث عاش حياة تقشف وكد وتعب، والدافع الثاني هو الانقلاب الذي أحدثه على المستوى السياسي والتشريعي في وقت قصير وقياسي أعاد بنية الدولة إداريا وسياسيا وتربويا وفق المنظور الشرعي ويلفت انتباهنا الدكتور إلى أن الغزوات في عهده كانت قليلة نسبة إلى البناء الذي شغله أكثر

كتاب التفسير الإسلامي للتاريخ (1975)

وهنا يجيب عن سؤال كبير عن ماهية التفسير الإسلامي للتاريخ وعلى ماذا يقوم، ويرى الدكتور من خلال خبرته الطويلة في التدريس الجامعي أن معظم الجامعات تدرس التفسير التاريخي وفق نظريات توينبي وماركس وأنجلز وهيجل وغيرهم وتغفل التفسير الإسلامي للتاريخ، وتبيّن للدكتور بعد البحث في القرآن أن القرآن يعطي المسألة التاريخية أكثر من ثلثي مساحته وأصيب بالدهشة على حد تعبيره. 

يبني القرآن معطياته التاريخية -وفق قوله -على مستويين، المستوى الأول يشمل قصص الأنبياء والمستوى الثاني هو تفسير الوقائع والسنن التاريخية التي تتشكل بموجبها الوقائع حيث يؤكد أن القرآن قدم منظومة متكاملة عن كيفية نهوض الجماعات وتلاشيها

كتابات معاصرة في السيرة النبوية (2018)

وهو تحليل لكتابات الشيخ النورسي، محمد الغزالي، أبو الحسن الندوي وسيد قطب كدراسة منهجية تحليلية فكل واحد منهم قدم السيرة بزاوية نظر مختلفة لكن باجتماعها تعطي تصورا رائعا ومتكاملا تختلف في بنيتها عن الكتب التقليدية. 

كتاب أشهد أن لا إله إلا أنت "السيرة ذاتية" (2018)

ويكفينا قول المؤرخ الدكتور علي الصلابي عن هذا الكتاب إذ يقول:

ختاما، إن نظرة د.عماد الدين خليل المركبة للتاريخ من حيث هو سنن وقوانين وحركة تاريخية، ودراسته الشاملة التي تغطي الجوانب الحضارية والفكرية -إضافةٌ لسرد الأحداث باعتبار التاريخ وحدة واحدة ومستندا لمرجعية القرآن جعلته يقدم نظرية إسلامية متميزة في دراسة التاريخ تعتبر مرجعا اليوم لمن يريد دراسة التاريخ بعمق وبشكل منهجي بعيدا عن السرد التقليدي.