حاوره أ. شمس الدين حميود
نظّمت صفحة عمران يوم الخميس 6 أغسطس 2020م /الموافق لـ 16 ذو الحجة 1441هـ في صفحتها على فيسبوك بثًا مباشرًا مع أ.طلال نقشبندي في ساعة فكر..
من الظواهر الثقافية المميزة إقبال الشباب على قراءة الكتب الفكرية، وتحليل مضمونها وتمحيص أفكارها وهذا ما يثير التساؤل حول آثار هذه القراءة وحول أنواعها، وكذا ضوابطها ونحن نعلم ابتداءً أن الخوض في هذه المسائل شائك، لكن حسبنا بعد توفيق الله عز وجل وعونه أن معنا ربّانا ماهرا ودليلا حِرّيفا وناصِحًا أمينا بإذن الله هو ضيف هذا اللقاء الأستاذ والشيخ والداعية طلال أبو أسامة النقشبندي فأهلا وسهلا ومرحبا بك أستاذنا الحبيب..
حياكم الله أستاذ وحيا الله جمهور عمران وشكرا جزيلا لكم على الاستضافة.
نبدأ في محاور هذا اللقاء:
- المحور الأول خاص بالقراءة بصفة عامة.
- المحور الثاني نتحدث عن ضوابط القراءة.
يمكن أن نقول في المحور الأول أن واقع القراءة في العالم العربي يبعث على التشاؤم، والحقيقة أن خطاب الوعظ والتذكير والتوجيه لم يعد ينفع كما لم ينفع من قبل، لغياب المنظومة الثقافية المتكاملة ولقصور المنظومة التعليمية، ما يستلزم اعتبار القراءة في مأزق حضاري مثلها مثل جميع الاشكالات المهددة للشعوب كالإدمان والبطالة وغيرها.
نسألكَ أستاذنا الفاضل في أنه لا شك أن للقراءة أثر في تشكيل الشخصية وصناعة التوجهات، في رأيك فيما تتمثل هذه الصناعة وهذا التوجيه للأفكار والآراء؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنّا نتبرأ إليك من أوهام حولنا وقوتنا وتفكيرنا ونتجه إلى حولك وقوتك وتسديدك يا ذا القوة المتين، اللهم إنّا نعوذ بك من زلة القدم وزلة القلم وزلة الكَلِم.. اللهم إنا نعوذ بك أن نتكلف مالا نحسن ونعوذ بك أن نعجب فيما نحسن.
أبدأ بالنقطة الاولى في هذا اللقاء وهي أن عملية القراءة ليست عملية ذهنية بحتة بل هي عملية تفاعلية تقوم بتشكيل الوعي وصناعة التوجه، لا يوجد فيها أمرا لغوا ولو كان المحتوى سطحي.
والعقل البشري بكثرة تكرار المعاني عليه يستمرؤها بغض النظر عن صوابها أو خطئها، خصوصا إن لم تقابل هذه المعاني بمصدات واقية وحامية، أي أن كثرة القراءة في الكلام الرصين الجاد، تجعل من القارئ جادًا في طريقة تفكيره، والإكثار من القراءة في السطحيات والتوافه، يجعل القارئ يندرج ضمن هذا الوصف، والاسترسال في القراءة المحكمة المنطقية الرياضية يجعل أفكاره منطقية ومنهجية وهكذا..
لذلك سمعت عبارة لطيفة يقول فيها أحد الإخوة "القراءات الأخيرة فضّاحة"، شئت أم أبيت ستتكشف للملاحظ المدقق ما كنت تقرأ من قريب، ويبدو ذلك من خلال حديثك ومفرداتك وطريقة حكمك على الأشخاص والأفكار.
النقطة الثانية في هذا اللقاء الذي أدعو الله أن يكون تواصيا بالحق في أن نمثل أمر الله "إقرأ" ونحن الآن تجاوزنا سؤال لماذا نقرأ؟ وكلامنا ليس تحفيزيا عن القراءة.. نحن نحاول الإجابة عن ماذا وكيف نقرأ؟!
سأختلف معك، فأنا الذي أراه من منظار التفاؤل والأمل، أن هناك موجة وعي ونضج عند شبابنا العربي الإسلامي اليوم، وهذه احصائيات لا تكون مثبطة ومقلقة، نعم الواقع غير مطمئن ولكن أتكلم عن السنوات العشر الأخيرة، في شبابنا العربي المسلم اليوم هناك موجات من النضج والوعي، والتوجه نحو القراءة والبحث المعرفي، والأسباب كثيرة ليس المجال لذكرها اليوم.
ولكن أبرزها الصدمات الكثيرة التي تلقاها هذا الجيل على مستوى القناعات والمسلمات والرموز، ما أحدث هزة حقيقية عندهم، جعلهم يتجرؤن على أخذ زمام المبادرة والانتقال من ميدان التأثر الى ميدان التأثير وصناعة التصورات من جديد.
أنا لا أتكلم عن صوابها من عدمها، ولكن هناك موجة الخروج عن المألوف وسنتكلم عن ضبطها، هناك خطوة مشكورة من هذا الجيل، ويجب أن نحسن الظن فيهم، لأنني كما قال سيدنا سعد بن معاذ "ما أنا إلا من عشيرتي" فأنا من هؤلاء وأدافع عن هذا الجيل الذي أنتمي إليه.
هناك اقبال جيد لشريحة لا بأس بها على القراءة والاطلاع، وعلى تشكيل تصورات جديدة بدوافع آلام محفزة، نحن جيل يقلع شوكه بيده بعد أنْ خابت ظنونه وتحطمت كثير من آماله في هذه السنوات الأخيرة، هذا الجيل القارئ الجاد يستحق الثناء والإشادة ويستحق أيضا الترشيد لكن دون نبرة الوصاية التي ألفناها سابقا، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كان يحسن الحسن ويقويه يشيد على المحسن ويدعمه، ونرجو أن نكون ممن يحسن الحسن ويقويه ويدعمه نصحًا لا وصايةً.
في الحقيقة أن الاشتغال في موضوع القراءة ينبه إلى التفاوت المعرفي بين القراء.. فمن هم؟ وما هي أنواع القراء حسب هذا التفاوت؟
سأتكلم عن أصناف القراء من زاوية التبعية والاستقلال، منذ فترة قرأت كتابا للدكتور ماجد عفسان الكيلاني رحمه الله وهو من القامات السامقة في الفكر والتربية، ومما ينصح به وهو صاحب الكتاب المشهور "هكذا ظهر جيل صلاح الدين" وله كتاب "التربية والتجديد".
الكاتب ماجد الكيلاني
يتكلم عن الشخصية الناضجة فيقول أنها تمر بمستويات ثلاثة:
- الطفولة.
- المراهقة.
- النضج.
اقتبست منه هذا التصنيف للحديث عن أصناف القراء، هناك ثلاثة مستويات:
- الطفولة المعرفية.
- المراهقة المعرفية.
- النضج المعرفي.
أما المستوى الأول..
فهو الاعتماد على الآخر والتسليم بما نتلقاه من أساتذتنا وما تصدره لنا البيئة التي حولنا، تماما كالطفل ووالديه، هناك شريحة من القراء بهذا الشكل، لا يمكنهم الاستغناء عن خلاصات الآخرين ممن حولهم من شيوخ ومدرسين ومؤسسات وأحزاب ينتمون لها دائما يرون أن ما يقولونه ويفعلونه هو الصواب ولا يمكن تجاوزه حجتهم الدائمة أنك لست أعلم من الشيخ، لست أدرى من الجماعة، هو هكذا صُنِع في هذه البيئة التي تعزز فقدان رؤية الذات والوعي بها يستمد قيمته من قناعات الآخرين عنه وله، وهذه الشريحة تعتبر عاجزة عن رؤية ذاتها، فلا يرى نفسه إنسان مكرم له عقل يتعبد الله بإعماله والتفكر به.
المستوى الثاني: هو المراهقة الفكرية
وهي من المراهق الذي يستغني ويتمرد، كالمراهق الذي يقول لوالديه أنا في غنى عنكم ويرفض وصاية السابقين، هؤلاء أقل خطأ من أصحاب الطفولة الفكرية لأنهم لا يخشون ما يقال عنهم يؤمنون بذواتهم، وأكثر نضجا فكريا وعاطفيا، فنحن لدينا إشكال مع تمرده لا مع جرأته.
المستوى الثالث: القارئ الناضج
أي الواعي بذاته والذي يعمل عقله ويقدر من سبقه ويتعامل بمنهجية دون تجاوز الراسخين في العلم، وأولئك القلة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهم كثير من الناس"، في إشارة إلى أن القِلة من العلماء هم أهل الدراية بهذه الأمور، فالناضج معرفيا يقدرهم ويؤمن بقدرته ويتعبد الله بالتفكر المنهجي المتأصل.
هذه هي المستويات الثلاثة الفكرية للقراء وكلنا قد مررنا بالطفولة الفكرية ثم المراهقة وكنا نتسرع في نقد السابقين ونتجرأ على ذلك ونحن مطالبون بالوصول الى مرحلة النضج الفكري.
الخوف أستاذنا الحبيب في أن تستمر مرحلة المراهقة الفكرية طولا من الزمان، هناك من تجول به هذه الفترة فتجده يتجاوز في حق أهل السبق والعلم ويحسب أنه على شيء..
الصادق مع نفسه والجاد في تطلب الحق سيخرج من قنطرة هذه المرحلة إن تخلى عن نوازع النفس والتعالم فسيخرج منها، أعرف الكثير من الأشخاص أعمارهم تجاوزت الأربعين ولا يزالون يرتعون في هذه المرحلة، وليس لديهم مانع في أن يردّوا متنا أو حديثا صحيحا لأن فيه شبهة تتعارض مع عقله هو، ولا يكلف نفسه الرجوع إلى أهل العلم لينظر كيف تعاملوا مع هذا الحديث المشكل أو الذي ظاهره الإشكال؟ ليس عنده منهجية في الطلب!
الحديث حول هذه المراحل الثلاث بالاستناد الى واقع القراءة في العالم العربي الإسلامي التي ذكرناها آنفا يجعلنا نرحب بكل ما من شأنه أن يسهم في تحسين الوضع العام للقراءة والثقافة والاشتغال بالجانب الفكري، لكن ألسنا بحاجة إلى ما يمكن تسميته بكوابح المنحدرات؟ حتى لا يخاف الإنسان على دينه ومصيره وحتى عقله، ويكون هناك نوع من الحذر مما يواجهه القارئ
قبل ان نبدأ بالمحاذير أشرت إلى أن هذا الجيل القارئ يستحق الثناء، خاصة أننا جميعا نحمل ألما واحدا وحلما واحدا وننشد نهضة جديدة، فالنبرة هنا كما قلت هي نبرة حب ونصح لا نبرة وصاية، فهذه الأخيرة جد منفرة، تجعل الناس يحيدون عن الحق إن كان معك!!
من الترشيد أن نتوازن في هذه القراءة، بين التخصصية والموسوعية وتصنيفات القراءة كثيرة، لكن أنا إرتأيت أن نصنفها إلى قراءة تخصصية، وقراءة الإهتمام وقراءة الأدوار أو الإحتياج، كالذي يكون في تجارة ما يحتاج أن يقرأ في التجارة، والمقبل على الزواج يحتاج القراءة في هذا المجال وهكذا.. هذا دور من أدوار حياتي يجب ان أتثقف فيه، ورابعا قراءة الثقافة العامة.
والذي أنصح نفسي به وإخواني الكرام هو التوازن بين التخصص والموسوعية. التخصص المفرط مذموم يقول في هذا الدكتور إدريس أورلال وهو باحث مغربي ممن يستفاد من علمهم أن "التخصص المفرط مفيد للعلم ومضر للعالم".
لأن هذا القارئ الذي يغرق في جزئيات علمه، يعيش في عالمه الخاص في حالة توحد عن باقي العلوم ويعتبر أُميًّا في باقي المعارف في هذه الحالة سيستفيد العلم منه لأنه سيأتي بجديد، لكنه يضر نفسه على عكس القارئ الذي يسبح في بحر من المعارف المختلفة بتوازن.
الموسوعية هي معارف متراكمة لكنها متنافرة، ينبغي أن نحسن الترابط بينها، وهي ليست مشروعا متكاملا بل معلومات متناثرة، لا تعطي علما نافعا، فهذه هي الثقافة الموسوعية، وكما يعرفونها "هي أن تعرف شيئا عن كل شيء" بينما "التخصص هو أن تعرف كل شيء عن شيء واحد"
والذي ينصح به الأخوة الجادون في موضوع التحصيل المعرفي كما يقول الدكتور اورلال أيضا "التخصص خيار استراتيجي والموسوعية ضرورة" حاليا إذا لم تتخصص سيكون نفعك محدودا في الزمان والمكان فزمننا هو زمن الأخ المتخصص لكن بتوازن، كلٌّ منا على ثغر يحسنه ويميل إليه يرابط على هذا الثغر مهما كان تربية أو سياسة أو اقتصاد أو تكنولوجيا يرابط عليه ويتعبد الله به، فإن كل هذا دين، وأنا مع القول الذي يقول أن هذه العلوم الكونية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء والميكانيك والطب هذه علوم شرعية، نحن بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث وأصول الحديث وشرح الحديث وتفسير القرآن نحاول أن نفهم مراد الله أما بهذه العلوم الحياتية ننفذ مراد الله عز وجل وهذا شرع أيضا وبها سنصل إلى العمران والاستخلاف الذي أراده الله لنا سبحانه وتعالى وكلها عبادات إذا استحضرنا فيها النية.
الحديث حول التخصص والموسوعية ينبه إلى أن بعض من يتوهم أنه موسوعي إنما هو ممن يستند على القراءة الأفقية وليس العميقة فيتشكل لديه وهم بأنه أحاط بالعديد من العلوم والمعارف ولكن في الحقيقة هي سطحيات لا تغني عن التخصص..
صدقت أستاذ شمس الدين الموسوعية حقيقة تشعر بالانتفاخ المعرفي وتوهم بتحصيل العلم، وهي قراءة ممتعة ومخدرة ذات لذة كالعضلات بلا رياضة.
بقيت نقطة قبل أن نتحدث عن المحاذير وهي هل هذه المحاذير لأننا نخاف من قراءة الآخر؟ هل هناك فوبيا من التعايش والتواصل والاطلاع؟ وهذا طرح متداول
هناك من يقول أن المسلمين عندهم تخوف من ثقافة الآخر فيمارسون سياسة المنع لا سياسة المناعة ويحجرون على تلامذتهم وطبقاتهم المثقفة بالتقنين لما يجب أن يقرأ!
فنجيب بأننا نحن أمة الإسلام إطلاعنا على الآخر عبادة مثلها مثل باقي العبادات ذات شروط من بينها أننا أمرنا في هذا الشأن أن نتعارف ونجادل بالتي هي أحسن وهذا الجدال لا يتم إلا بالوصول إلى المشتركات الانسانية بيننا حتى يتسنى لي جدل فكري مع فكر الغير.
والمؤمن شجاع في الإنفتاح على غيره كما جاء في الأثر "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها" فهل يخاف الشاب المسلم المعاصر أن يقرأ في كتابات الماركسية أو الشيوعية؟ طبعا لا على الاطلاق ليس خوفا وليس ضعفا إنما يجب أن نقرأ بمنهجية سنذكرها.
ساداتنا أهل العلم هم الذين اقتحموا ثقافات الآخرين وبادروا بالترجمة، في شتى الميادين منها الفلسفة والطب وعلم الفلك، ونذكر الإمام أبو حامد الغزّالي وابن رشد وابن سينا وغيرهم.
هؤلاء انفتحوا على الآخر بدافع أنهم أناسٌ مثلنا يستحقون هداية الإسلام ورحمته، ونحن أمة الدعوة ومن آياتنا "قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا"، لسنا منكفئين على أنفسنا، وبالمقابل إذا كان للآخر سياقات مضادة نسير على منهج "لتستبين سبيل المجرمين" منوط بي أن أُبَيِّنَ هذا السبيل وهذا لا يُبَيَّن إلا عن طريق الاطلاع والقراءة.
لذلك فإن الإخوة المتخصصون في مقارنة الأديان وهذا العلم المهم هو مما ينبغي أن يتعلم عند شريحة من طلاب المسلمين فهم يقولون في آية"وجادلهم بالتي هي أحسن" أن هذا الجدال يقتضي أن أفهم وأعرف غير المسلمين وأطلع على ما عندهم من أفكار وعقائد وأصل اإلى نقطة مشتركة بيننا ثم أدلهم إلى ما هداني الله له رحمة بهم".
أستاذي قبل ان ننتقل للحديث عن المحاذير أطرح عليكم سؤالا.. من المشكلات التي تواجه الشباب في بناء شخصياتهم ورؤاهم الثقة العمياء بصحة ما هم عليه، الأمر الذي يدفعهم أحيانا للانفتاح غير المدروس على أي فكرة عقدية أو فلسفية مخالفة معتقدين بإستحالة زلزلة بناءهم الفكري، فإذا نجى منهم من كانت ثقته مؤسسة على معطى معرفي علمي صلب، في المقابل قد ينهار أمام أول التباس للشبهات من كانت ثقته مؤسسة على ثقة معينة، هذا الحديث يقودني إلى أن الأمان في الإطلاع عن كتب المخالفين ألا يتعارض مع قوله تعالى "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا" ألا يتعارض مع قوله تعالى "واحذرهم أن يفتنوك على بعض ما أنزل الله" فكيف نوفق بين هذا وذاك؟!
الإجابة على هذه الأسئلة هي ضمن هذه النقاط الخمس، في الحديث عن ما يسمى بالمحاذير هناك خمس إضاءات وقد أحببت تسميتها بالإضاءات حتى نخرج كما قلت من الوصايا المنفرة.
الإضاءة الأولى
أيها الإخوة اقتباسا من كتاب الإمام ابن دقيق العيدي رحمه الله له كتاب اسمه "إحكام الأحكام" يتكلم فيه عن حديث الأحكام الشرعية في كتاب عمدة الأحكام فاقتبست منه هذه الإضاءة ونحتها وهي الإبتداء بأحكام المحكمات والثوابت والأصول، قبل أن أقرأ للآخر سواءً كان ممن أتفق معهم أو أختلف.
ينبغي علي أولا كمسلم أن أحكم الركائز واليقينيات كأركان الإيمان والإسلام والمقاصد الكبرى للدين، قبل الولوج إلى ثقافة الآخر وقبل الولوج إلى ثقافتي أنا في جزئياتها وفرعياتها.
دعونا نصطلح هذا المعنى وأراه لطيفا أن نكون ثقافة ربعي بن عامر وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، كيف أن لكل منهما تصور واضح عن دينهما، يتجلى هذا الوضوح في الموقفين المذكورين تاريخيا، حادثة ربعي بن عامر ورستم الفارسي، وموقف جعفر مع النجاشي ملك الحبشة.
المقصود من هذه الإضاءة هو هذا المعنى الذي نحوم حوله وهو أن نحكم الخطوط العريضة لهذا الدين، نعم قد لا أكون درست شريعة عشر سنوات، قد أكون طبيبا، أو مهندسا، أو محاميا ولكن أنا عندي نهم معرفي قبل أن أقرأ هنا أو هناك تعالى نحكم ثوابتنا أولا ونصنع ثقافة الصحابة الكرام.
وربعي نموذجا حينما دخل على رستم حيث الأبهة والعرش المذهب بالتوازي مع ما نعيشه أننا نريد الولوج إلى ثقافة الآخر المبهرة، سأله من جاء بكم فلم يكلمه في الجزئيات بل أجاب "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام" مشيرا بقوله هذا إلى المقاصد الكبرى للإسلام، ولم يكلمه عن اسبال اليد في الصلاة أو تحريك الإصبع مع أنه من الدين، لكن السياق لا يحتاجه الآن.
كذلك جعفر رضي الله عنه لما سأله النجاشي "ما دينكم؟" فقال "يا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه"
في إشارة إلى أن ما قبل وسوى الإسلام ماهو إلا جاهلية، وفي تكريم وتعظيم لمصدر التلقي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد هذا النص الذي ذكر في سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله تكلم سيدنا جعفر عن محكمات دينه والخطوط العريضة له فقال:"أمرنا فدعانا إلى الله لنوحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم، فصدقناه واتبعناه".
اذن هذه هي ثوابت ديننا والذي لا يحكمها يعتبر قارئا أعزلا سيؤتى من حيث لا يدري ويتأثر حتما بما يقرأ، إذا لم اتحصن بالمحكمات سأضيع، بعد ذلك اقرأ ما شئت.
مما شدني في هذه النقطة أن جيل الصحابة رغم فارق الحضارة كانوا يعتزون بدينهم.
بعد إحكام المحكمات لا مانع من قراءة الآخر، فإذا جاءني شاب جاد ومثقف يريد أن يقرأ الروايات العالمية (الخيميائي، مائة عام من العزلة أو كفاحي لهتلر أو المبادئ لنيوتن) فهل سأمنعه؟
طبعا لا، رغم أنني أراها موضة عالمية، مثل الملابس اذا اشتهرت في السوق بين الناس أصبحت تبدو جميلة.
إذا تحصنت بمحكماتك اقرأ ما شئت لتستفيد وكما أشرنا الحكمة ضالة المؤمن، لكن قبلها أتعلم حكمتي ثم أبحث عن الضالة، فلا أبحث عن المفقود وأتجاوز الموجود من الحكمة الربانية الإلهية اذ يقول عز وجل "ويعلمهم الكتاب والحكمة"
قد يخطر على بال القراء تساؤل حول هذا الترتيب وهذه المنهجية في القراءة هل هذه وجهة نظر أم أنها مستنبكة من دليل شرعي؟!
نجيب بأنه هناك مرحلة منع فيها الصحابة من الإطلاع على الآخر، وهناك نصوص ثابتة فيها منع للإطلاع على الآخر ولكن هذا منع مرحلي كما قال الإمام بن حجر رضي الله عنه في فتح الباري الذي جاء فيه أن عمرا رضي الله عنه لقي ... فضربه بالعصا وقال له "أنت الذي نسخت كتاب دانيال (كتاب في النصرانية)؟!" فرد نعم، قال "امحه فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته لأنهكنك بالعقوبة"، فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له "ما هذا" ؟!
فقال "كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا"
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وذكر قصة قال فيها :"يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا"،
والتهوك هو التهور أو الحيرة، لاحظوا تعقيبات ابن حجر وهذه منهجية ينبغي أن نتعلمها: "إذا جاءك نص يناقب قناعاتك، الأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في ذلك بخلاف الراسخ ولاسيما فيما يتعلق بالرد على المخالف ونقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة والزامهم التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجون من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه"
ومنه نستنتج أن هذا الترتيب ليس وجهة نظر شخصية، وأختم هذه الإضاءة بفقرة الدكتور محمد مختار الشنقيطي من كتاب خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين:
"وضعث ثلاثة معايير لإختيار هذه العقول العظيمة، أنهم يجمعون بين ثقافة الشرق والغرب، وبين الفهم الشرعي والموقف الشرعي وبين عمق الفكرة وإشراق الروح".
فنحن لما نتكلم عن إحكام المحكمات إذا لم يكن الأمر تراتبيا فليكن جمعا، قرأت ذات مرة لأحد الإخوة منشورا لجرده القرائي في عام مضى، فقرأته قراءة نقدية تقييمية وجدت أن ثمانين بالمائة من العناوين غربية، أو روايات عالمية، لا بأس لشاب جاد قد أحكم محكماته أن يقرأ مثل هذه العناوين لكن تمنيت أن أتعثر بكتاب في أصول الفقه أو في المقاصد أو في تدبر القرآن الكريم!
وضعت مقترحات من قرأها سيكتسب ثقافة شرعية، وضعت خطان متوازيان الخط الأول
ويوازيه خط آخر وهو على الأقل أن يقرأ هذا الشاب مداخل العلوم الشرعية مثلا مختصر في علم الحديث الشريف وأتعرف على معنى الموضوع والمرفوع. أما عن القائمة التي اقترحتها فهي متفاوتة سهولة وعمقا وهي كالتالي:
1 الخصائص العامة للإسلام للدكتور يوسف القرضاوي.
2 كتاب الكليات الأساسية في الشريعة الإسلامية لأحمد الريسوني.
3 كتاب المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها للدكتور عبد الله القرني.
4 كتاب خصائص التصور الإسلامي وكتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب رحمه الله.
5 كتاب الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي.
6 كتاب المحكمات للدكتور شريف حاتم العوني.
7 سلسلة البلاغ المبين للدكتور عبد المجيد الجاذلي.
8 مقالات الشيخ محمد أبو زهرة بعنوان شريعة القرآن الكريم دليل على إعجازه.
9 النبأ العظيم للشيخ عبد الله دزار.
10 حجة الله البالغة للشيخ شاه ولي الله الدهلوي.
11 روح الدين الإسلامي للشيخ عفيف عبد الفتاح طباره
12 تعريف عام بدين الإسلام للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله .
13 فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة للشيخ نور الدين عتر.
يوجد من يأخذ المبادرة والمسؤولية في اعادة تناول الشبهات وتصحيحها.. ما هي شروط ذلك والنصائح التي تقدمها له خصوصا إذا كان مؤثرا؟
باب القراءة في الشبهات دخله السابقون من أهل العلم كابن حزم والشهرستاني وغيرهم ممن تكلم في المذاهب والتصورات والأفكار، هذا باب من أبواب الدعوة، وينبغي على من يدخل إليه أن يتحصن بإحكام المحكمات، وكما يقول الإمام الذهبي رحمه الله "القلوب ضعيفة والشبه خطافة".
يعني إذا أنا قويت قلبي بالصلة بالله عز وجل والفكر المتين، أكون بذلك بذلت الأسباب اللازمة بعد ذلك ألِج، هناك أقلام كثيرة زلت في هذا المقام فمنهم من كان دكتورا في العقيدة لكنه والعياذ بالله ارتد لذلك هذا ما سنتكلم عنه في الإضاءة الخامسة وهي الاستخارة بالله عز وجل قبل القراءة، حتى القرآن الكريم ينبغي أن نستعيذ بالله قبل قراءته، التحصن بالله عند التزود المعرفي، والدخول على باب الشبهات الذي هو من الفرض الكفائي يقوم به شريحة من المسلمين.
إليكم الكلمة الأخيرة أستاذنا..
جزاكم الله خيرا، وأسأل الله أن يكون هذا الكلام ذو نفع على السامع والمتكلم وأن يكون من التواصي بالحق والصبر، وأشيد بالشباب القارئ إشادة ملؤها الحب والحِرص من مشكاة النبي صلى الله عليه "حريص عليكم" فينبغي أن نحرص جميعا على بعضنا كما قال عليه الصلاة والسلام "إني آخذ بحجزكم إياكم والحدود إياكم وجهنم".