تثبت الحقائق التاريخية أنَّ من أسباب سقوط الإمبراطوريات العظيمة، هو: الظُّلم والتعالي على الآخرين، وأنَّ الإمبراطوريات تدمِّر نفسها بنفسها في الغالب، وأنَّ سرعة التدمير تعتمد على الآلية التي تستخدمها كلُّ إمبراطورية في الهيمنة، وأنَّ الآلية الأمريكية المعاصرة للهيمنة كانت ذكيةً إلا أنها كانت قصيرة، وهي استخدام الدولار الأميركي في الهيمنة الاقتصادية والسِّياسية، وبعدها الهيمنة العسكرية على العالم.
لقد تشكَّلت الحضارة الغربية المعاصرة بقيادة أمريكا، وبسطت هيمنتها على العالم بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، وظلَّ هذا الانتصار بالنسبة للأميركيين مصدر إلهامٍ للذاكرة، ثم كان سقوط جدار برلين وتفكيك الاتحاد السُّوفياتي سنة 1989م لحظة الغرور بالآحادية القطبية في قيادة البشرية عبر التفوُّق العسكري والغطرسة المادية، وهي التي تنشر قواعدها العسكرية في أكثر من 70 دولة كشرطيٍّ للعالم، بالإضافة إلى الذراع الجماعية للهيمنة، وهو حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تشكَّل سنة 1949م، والذي يضمُّ الآن: 31 دولة، وكانت لأطماعه التوسُّعية شرقًا: السَّبب المباشر للصِّدام الرُّوسي - الغربي في أوكرانيا.
لم ينتبه الأمريكيون إلى تحذيرات الرئيس "أيزنهاور" في خطاب الوداع سنة 1961م من "الصُّعود الكارثي للقوَّة في غير محلِّها" في أيدي "المجمع الصِّناعي العسكري"، وهو المجمَّع الذي يلعب دورًا رئيسيًّا في توجيه السِّياسات الخارجية لأمريكا نحو إشعال الحروب وإطالة أمد الصِّراعات، وأنه يوظِّف لذلك شبكة علاقاته المتشعِّبة داخل البيت الأبيض ووزارة الدفاع والكونغرس الأمريكي، الأمر الذي يُدِرُّ على شركاته أرباحًا خيالية.
لقد مثَّلت هجمات 11 سبتمبر 2001م، والحروب العالمية التي ادَّعتها أمريكا على الإرهاب، والنتائج المخزية بعد 20 سنة من غزوها لأفغانستان والعراق الدعوة للاستيقاظ من وَهْم الهيمنة آحادية القطب، وقد بلغت ذروة ملامح ذلك الوَهْم بالانسحاب الآحادي الفوضوي والمهين من أفغانستان عام 2021م، وهو ما أدخل العالم في فترةٍ من التحوُّلات الثورية، التي ستحدِّد الواقع الجيو سياسي في المستقبل، عبر التغيُّرات الهائلة في الجغرافيا السِّياسية، وهياكل النظام العالمي القادم.
لقد حدَّدت أمريكا الصِّين كمنافسٍ استراتيجيٍّ لها في القرن الـ: 21، وانتقل هذا التنافس الاستراتيجي من التنافس الاقتصادي إلى احتمالات الصدام العسكري، والتي تبدو ملامحُه صارخةً في "تايوان"، وهي تعلم يقينًا أنَّ الصِّراع مع الصِّين "سيكون كارثيًّا"، وقد قال "طوني بلير" رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في محاضرةٍ له: "إنَّ أكبر التغيرات الجيو سياسية في هذا القرن ستثيرها الصِّين وليست روسيا"، مضيفًا أنَّ: "العالم سيصبح - على الأقل - ثنائي القطب، أو ربما متعدِّد الأقطاب، ونقترب من نهاية الهيمنة الغربية في السِّياسة والاقتصاد".
* ملامح الهندسة المستقبلية للعالم خارج الهيمنة الغربية:
1/ العلاقات الإستراتيجية الرُّوسية - الصِّينية:في أول زيارةٍ رسميةٍ للرئيس الصِّيني بعد إعادة انتخابه للعهدة الثالثة كانت إلى روسيا في مارس 2023م، وذلك للتوقيع على وثيقتين مهمتين، تشكلان قاعدةً للتعاون بينهما، فموسكو مستعدةٌ لتأمين كلِّ ما يحتاجه الاقتصاد الصِّيني في مجال الطاقة، بما فيها الطاقة النووية والغاز الطبيعي، وزيادة معدلات الاستثمار مع الصين إلى حدود 200 مليار دولار خلال هذا العام، وإنجاز مشروع خط أنابيب الغاز الضخم "قوة سيبيريا 2" إلى الصِّين، وتسهيل عمل الشركات الصِّينية في روسيا بدلاً من الشركات الغربية، وتحديث وتطوير أهداف الشراكة الإستراتيجية الكاملة بينهما حتى عام 2030م.
إلاَّ أنَّ هذا البعد الاقتصادي والتجاري في العلاقة بين البلدين لا يخفي الأبعاد السياسية والإستراتيجية، فهما "يريدان تغيير القواعد" التي تحكم النظام الدولي، وتأكيد إستراتيجية العلاقة بينهما وأهمية تعاونهما من أجل ما وصفاه بإعادة التوازن للنظام العالمي، وحتمية الذهاب إلى عالمٍ متعدِّد الأقطاب.
2/ أزمة الدولار: لا يُستخدم الدولار – أمريكيًّا - كمنفعةٍ عامةٍ للمجتمع الدولي، بل أصبح أداةً إستراتيجية للهيمنة، بعد تسليح هذه العملة الاحتياطية في العالم، ممَّا أدَّى إلى بدايات ثورةٍ عالميةٍ ضدَّ الدولار، وأنَّ التخلُّص من "الدولرة" لابد أن تكون حتميةً مستقبلية، بل وصف "عدي كوتاك" أغنى مصرَفيٍّ في آسيا، وهو المدير التنفيذي لأكبر البنوك الهندية: الدولار بأنه "أكبر إرهابٍ ماليٍّ في العالم"، داعيًا بشدَّة إلى البحث عن عملةٍ احتياطيةٍ بديلة، فقد كشفت مجموعةٌ من الأحداث الأخيرة بداية التفكير في التمرُّد على هيمنة الدولار، وفي مقدمتها تحالف البريكس، وهو الحدث الأكثر سخونةً في الجغرافيا السِّياسية، وأنَّ سياسة العقوبات الغربية آحادية الجانب على بعض الدول، مثل: إيران وروسيا هزَّت المصداقية الدولية لأمريكا وللدولار الأميركي، مما فتح آفاق التعاون الدولي بين: الصِّين والهند وروسيا وتركيا والبرازيل وإيران وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية خارج الهيمنة الغربية، وبدأ الدولار الأمريكي ودكتاتورية النظام المالي الغربي يفقد سيطرته على العالم.
3/ الاتحاد الأوروبي والصِّين: لقد عطَّلت جائحة كورونا عجلة الاقتصاد الأمريكي، مما دفع بالصِّين إلى صدارة الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، فقد بلغت استثماراته في الصين: 150 مليار يورو، وبلغت حجم استثمارات الصِّين فيه: 113 مليار يورو، كما أنَّ "الاتفاق التاريخي" بين الصِّين والاتحاد الأوروبي أواخر عام 2020م - ورغم تعثُّره - إلاَّ أنه مثَّل حدثًا مُلْفِتًا لرسم معالم توازنات العالم الجديد، إذْ يحمل دلالاتٍ على قدرة التأثير المتنامي للصِّين خلف حديقة السِّياسة الأمريكية في أوروبا.
لقد أثارت الحرب في أوكرانيا تطورًا في تفكير مؤسَّسة الأمن القومي الأمريكي، وهو الاستعداد لتقليص التزامها اتجاه أوروبا بشكلٍ جذري، وأنَّ السِّباق الرئيسي يقع في المحيطين الهندي والهادئ ضدَّ الصِّين، وأنَّه يجب على واشنطن تركيز كل مواردها هناك، وأنَّ قلقًا أوروبيًّا بدأ يظهر في جوهر سياسة "اللامبالاة المهذَّبة" لأمريكا اتجاهها، مما أثار النِّقاش حول الحاجة إلى السِّيادة الأوروبية، والاستقلالية الإستراتيجية لها عن أمريكا.
ففي سنة 2021م قال وزير الاقتصاد الفرنسي: "لم تكن لدي أوْهامٌ بشأن التطورات الإستراتيجية للولايات المتحدة، فهم يعتقدون أنَّ حلفاءهم يجب أن يكونوا مطيعين"
وذلك بعد الإنشاء السِّري لتحالف "أوكوس" (Aukus) بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا لمواجهة الصِّين في المحيط الهادي، مما ألغى عقد الغواصات الفرنسية مع إستراليا، وقال: "إنَّ أزمة الغواصات الأخيرة تشير إلى أنه لا يمكن للاتحاد الأوربي الاعتماد في حمايته على الولايات المتحدة"، بل وصلت فرنسا إلى الحديث عن الانسحاب الكامل من "حلف الناتو"، وسعى "ماكرون" في زيارته إلى الصين في أفريل 2023م إلى محاولة قيادة أوروبا بعيدًا عن صراع العملاقين: الأمريكي الصيني، وقدَّم نفسه كمتحدثٍ باسم أوروبا، ودعوتها للاستقلال الاستراتيجي عن سياسة أمريكا، وتحديدًا اتجاه الصِّين.
4/ المواجهة بين روسيا والغرب في أوكرانيا: إنَّ الحرب الرُّوسية - الغربية في أوكرانيا هي معركةٌ وجودية، فهي ثورةٌ روسية على الغرب، ورغم العقوبات الضخمة وحجم التحالف متعدِّد الأبعاد ضدَّها إلا أنها تقاتل حتى النِّهاية، مما أدخلها في مواجهةٍ واسعةٍ النطاق معه، وقد صرَّح "بوتين": أنَّ انهيار الهيمنة الغربية بدأ بالفعل، ولا عودة عنه.
ويرى المفكر الروسي "ألكسندر دوغين" أننا في مفترق الطرق، وأنَّ التاريخ مفتوحٌ الآن، ونحن بين مستقبلين: _ المستقبل الأول: يشهد العام 2050م انتصارًا كاملاً لا رجعة فيه للعولمة الغربية وللآحادية القطبية، وتنصيبًا لحكومةٍ عالمية، وظهورًا لعصر ما بعد الإنسانية، وتدميرًا للأنواع البشرية من جانب الأنواع ما بعد البشرية (الذكاء الاصطناعي، السِّيبرانية، الهندسة البيولوجية، التكوين الجيني الجديد، وجميع أنواع المخلوقات ما بعد البشرية، ومجتمع ما بعد الإنسان الموحد)، وذلك في تقديره عندما تخسر روسيا الحرب أمام الغرب في أوكرانيا.
_ المستقبل الثاني: هو الذي تنتصر فيه روسيا على الغرب، بحيث يتمُّ تأمين عالمٍ متعدِّد الأقطاب، وذلك خارج دائرة الهيمنة الغربية، وسيظهر قطبان آخران، وهما: روسيا والصِّين، كما ستظهر الهند كقطبٍ ثالث، والعالم الإسلامي كقطبٍ رابع، وأميركا اللاتينية كقطبٍ خامس، وأفريقيا كقطبٍ سادس..
وأنَّ العلاقة الطبيعية بين هذه الأقطاب هي علاقة الاحترام والتعاون والتعايش بين الحضارات، وليست تلك العلاقة المبنية على أوهام "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، أو "صدام الحضارات" لصامويل هنتينغتون. إنَّ التحوُّلات الكبرى لا تحدث طفرةً، وإنما هي تراكميةٌ لمساراتٍ طبيعية، تعزِّزها التطوُّرات الاستثنائية، ولا شكَّ بأنَّ العالم يستعدُّ للانتقال إلى واقعٍ جيوسياسيٍّ جديد، ورغم حالات الضُّعف الذي يمرُّ بها العالم العربي والإسلامي إلا أنه يملك من عناصر القوَّة ومقوِّمات التأثير التي تجعله لاعبًا محوريًّا في الهندسة المستقبلية للعالم.