من المثير للإعجاب قوانين حقوق الإنسان التي جاءت بها النهضة الأوروبية، كما قد يكون مثيرًا للإعجاب أيضًا وجود مئات آلاف المهاجرين على الأراضي الألمانية، وربما ليس أبلغ من صور ميركل مع المهاجرين، تمسح دمعة لاجئة رهنت أملاكها فرارًا من الحروب الدائرة في أوطانها.
في كتابه «إفريقيا السوداء.. سياسة وحضارة»، يذكر العميد الركن المتقاعد يوسف روكز، الاستيلاء التوثيقي للأوروبيين على القارة السوداء، قائلًا إن «تاريخ إفريقيا لم يُكتب بعد»، في إشارة إلى أن ما كُتب هو بأقلام المستعمرين، الذين كتبوا واستكتبوا فصولًا عن غزواتهم، ومعاركهم، فمجدوا «بطولاتهم»، بل اعتبروا أن مقاومة الأفارقة لهم، «بربرية وهمجية»، في حين لم يكتب الأفارقة بعد تاريخهم بأقلامهم.
وكما يُقال، فإن القوي هو الذي يكتب التاريخ، ويصنع السيناريوهات الممكنة للمستقبل، وهو ما يحدث منذ نحو قرن من الزمن مع القوى الغربية، ورغم ذلك لم تتمكن أوروبا من إخفاء سلسلة جرائمها المروعة في إفريقيا، ولعل ما فعله الألمان من إبادة رهيبة في ناميبيا، هي إحدى المحطات التي يخجل منها التاريخ الأوروبي.
الألمان يشرفون على أول إبادة في القرن العشرين
تصنف صحيفة واشنطن بوست إبادة الألمان لشعوب وقبائل إفريقية في ناميبيا، في الفترة ما بين 1904 و1908، ضمن أسوأ ثمان مجازر مروعة في القرن العشرين، مخلفةً وراءها حوالي 77 ألف قتيل، كما تعتبر أوّل إبادة عرفها القرن العشرون، واستمرت بعدها مجازر وإبادات في سنوات مختلفة من القرن العشرين، قتل على إثرها وشرد الملايين.
ونفذت فرنسا في الجزائر، عام 1945 إحدى أبشع الجرائم في العالم، بإعدامها حوالي 45 ألف جزائري خلال يوم واحد، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.
وفي رواندا وقعت مجازر وإبادات نتيجة اقتتال قبلي استمر ثلاثة أشهر، قدرت الأمم المتحدة خسائره بأكثر من 800 ألف قتيل، فيما تسبب جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفيتي، في مقال أكثر من 10 ملايين إنسان خلال الحرب العالمية الثانية.
وتقدر الأمم المتحدة عدد ضحايا التاريخ في ناميبيا، بأكثر من 100 ألف، معظمهم من سكان قبيلة «هيريرو»، و50% م قبيلة «ناما» كما تذكر مصادر أخرى وجود 10 آلاف وحدهم من القبيلة الثانية، وهو ما يصل إلى 110 ألف قتيل شملتهم إبادة القوات الألمانية في ثلاث سنوات فقط.
ولم تكن المناطق وحدها تعني ناميبيا حاليًا، بل سيطر الألمان في ذلك الوقت على طول ساحل جنوب غرب إفريقيا، وهي التي تمثل دول توغو والكاميرون وأنغولا إلى غاية ناميبيا، وسمي بجنوب غرب إفريقيا الألماني (Deutsch-Südwestafrika).
وقاد العمليات العسكرية التي نفذت تلك الإبادة، الجنرال الألماني «لوثر فون تروثا»، قائد القوات الألمانية في المنطقة، وصاحب السمعة الشرسة في مناطق إفريقية وآسيوية أخرى. ووثق شهود عيان صورًا مروعة عن الوحشية التي تعامل بها الجنود الألمان مع الأفارقة وسكان القبائل، وتقول المصادر التاريخية أن القمع بدأ بعد انتفاضة قادها سكان القبائل ضد الألمان، وقادوا تمردًا بالانضمام إلى الرافضين للتواجد الألماني في البلاد.
وقام الجيش الألماني بإخضاع الأطفال والنساء والشيوخ والرجال للترحيل القسري إلى صحراء «أوماهيكا»، ليموتوا جوعًا عطشًا في أرض قاحلة، وأدت هذه الوحشية ببعض السكان المقدر عددهم بألف نازح، لقطع الصحراء والالتحاق بالمستعمرات البريطانية في الشمال، وتعتبر هذه الوحشية إحدى الممارسات التي تعود عليها الأفارقة من قبل الاستعمار الأوروبي في تلك الفترة.
وتقول الموسوعة الفرنسية، بأن القوات الألمانية قامت بهذه الإبادة الجماعية من أجل الاستيلاء أكثر على الأراضي الإفريقية، ضمن خطة منهجية للتحكم بالأوضاع التي تعرضت للتمرد، الذي قادته قبيلتي هيريرو وناما، وهو ما أدّى إلى قتل وتشريد 90% من سكان المنطقة.
هل نفّذ الألمان مجازر في مناطق إفريقية أُخرى؟
ومنذ القرن 19 إلى مطلع القرن العشرين، كانت تسيطر القوات الألمانية في إفريقيا على مناطق في الشرق الإفريقي «Deutsch-Ostafrika» مثل كينيا ورواندا وبوروندي، وجزء من جزيرة زنجبار، بالتعاون مع البريطانيين، كما احتلت مناطق في الكاميرون وتوغو إلى غاية بوتسوانا وناميبيا مرورًا بأنغولا، وهو ما ذكرناه في الغرب الجنوبي الألماني لإفريقيا.
وباستثناء ما حدث من مجازر في ناميبيا، لم تعرف بقية المناطق وجود عمليات إبادة كالذي عرفته قبائل هيريرو وناما، فالجيش الألماني ما لبث عقودًا، وترك جزءًا من الكاميرون لصالح البريطانيين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، في حين سلمت رواندا لفرنسا، في إطار التقسيم الذي خضعت له مستعمرات الألمان، من قبل هيئة عصبة الأمم في ذلك الوقت (1920).
وفي عام 2004 اعترفت رسميًا الحكومة الألمانية بجرائمها في ناميبيا، ورفض هيئات وأحزاب ناميبية اقتراح الألمان التعويض السنوي المقدر بـ14 مليون دولار، واعتبروا ذلك نوع من الإهانة، في حين تذرع الألمان بالقانون الدولي لعام 1907، الذي لا يلزم الدول المستعمرة بتقديم تعويضات للمجتمعات المتضررة.
كما رفعت قبلية هيريرو المستمرة دعوى قضائية لدى المحاكم الامريكية، ضد الحكومة الألمانية وبنك «دوتشيه» الألماني (تأسس عام 1870)، وهو البنك الذي مول الشركات الألمانية زمن استعمار الدول الإفريقية، وهذا بسبب المجازر التي اقترفتها في ذلك الوقت، وحتى الآن لم يقدم الألمان أي تعويض للقبائل المتضررة، في حين دفعت ألمانيا خلال 12 عامًا فقط ثلاث مليارات مارك ألماني إلى إسرائيل، والتزمت بدفع معاش كل يهودي تعرض لمطاردة الحكم النازي حسب اتفاقية لوكسمبورغ الموقعة عام 1952.
ناميبيا المستقرة سياسيًا في الوقت الحالي
ناميبيا المستقلة حديثًا عن جنوب إفريقيا، في مارس (آذار) 1990، تحولت مساحة كبيرة من جنوب إفريقيا بما فيها ناميبيا حاليًا، إلى مستعمرة ألمانية منذ عام 1884، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1920.
وتعرضت ناميبيا بعد ذلك إلى السياسة العنصرية التي كانت تهيمن على جنوب إفريقيا، ومارست العديد الجماعات المتطرفة عمليات نهب وتقتيل تجاه السود الأفارقة.
وخلال الفترة 1948 وحتى 1973 كانت ناميبيا خاضعة لحكومة جنوب إفريقيا، إلى حين اعترفت الأمم المتحدة بمنطقة جنوب غرب إفريقيا، وأقرت شعب جنوب غرب إفريقيا (سوابو) كممثل رسمي للشعب الناميبي في عام 1973. إلى أن نال الاستقلال رسميًا عن إدارة جنوب إفريقيا في العام 1990، وباستثناء بعض المناطق التي بقيت تحت السيطرة الجنوب إفريقية إلى 1994.
الدولة التي تعتبر أحد الدول الرائدة في حرية التعبير والصحافة بالعالم، يبلغ عدد سكانها قرابة 2.5 مليون نسمة، وتشكل الزراعة والرعي والسياحة وقطاع التعدين من الماس ويورانيوم والذهب والفضة أحد أهم مداخيل الاقتصاد الوطني، وتتمتع الدولة باستقرار سياسي واقتصادي واجتماعي يصنف بالجيد.
وتعتبر ناميبيا إحدى الدول القليلة التي تحترم مبدأ التداول السلمي على السلطة، فمنذ عام 1990 ترأسها ثلاث شخصيات مختلفة بولايات انتخابية، كما يرأس حكومتها لأول مرة امرأة تدعى سارا كوغونجيلوا أمادهيلا، وهي من مواليد 1967، تولت هذا المنصب بداية من مارس (آذار) 2015.