«إنّ الشّعُوبَ التي لا تُبْصِرُ بِعيُونِها، سَوْفَ تحْتاجُ إلى هذه العيُون، لِتَبْكي طَويلًا» تحذيرٌ رهيب وحكمة بليغة، أَذكُرُ أنها منسوبة إلى المفكر المصري "محمد على الغتّيت" وبكاء الشعوب ليس كبكاء الأفراد، بكاء الشعوب يطول، بكاؤها دموعُه: قهْرٌ وذلّةٌ وسجونٌ وتنكيلٌ وقتلٌ وتجويعٌ وإقصاء وتخلّف واستعمار. وفي المشهد العربي الكئيب، يزدحم الكثير من هذا البكاء المُرّ والحار، الصاخب منه والصامت، بكاء ٌعراقي وبكاء ٌ سوري، وبكاء ٌ مصري، وبكاءٌ ليبي، والبقية تأتي، ذلك أن الشعوب التي تستنكف عن تعلم واكتساب الوعي وتخجل من نقد ساستها وتنسحب مجانا من ممارسة المعارضة. ولا تنشغل إلا "بالعَلَف " والتصفيق للباطل، وتزكية القرارات شرّها وخيره، هي شعوبٌ قَطيعٌ، تُنتِجُ جَلاّدِيها، وتنحَتُ طواغيتها، وتؤسّس لمعاناتها الطويلة! 

من هذه الشعوب من نراها تغافلت وتعمّدت تجَاهُلَ ممارسة الإبصار بعيونها طيلة جيل كامل، 40 عامًا عاشتها في التّيه السياسي والغُبْن الحضاري، حيث كانت تُوهِمُ نفسها أنها بخيْر وعافية لأن "عزيزها" في اعتقادها مُلْهَم ومبدع لا يخطئ، وهي واثقة فيه، مفوّضة إليه أمرها في الصغيرة والكبيرة، ومسلّمة إليه شكيمتها يسوقها حيث شاء، ويفعل بها ما يشاء، ويملي عليها ما يشاء، وكانت تردّ على اللائمين والناقدين لها على خنوعها وصمتها وسكونها، بأنها محسودة على هذا "العزيز"، الذي لم يستَحْيِ أن يصفها ويلحقها "بالجرذان" ويطاردها بكل ما ادّخر لها من أسباب التنكيل والايذاء، عندما اكتشف ذات صباح أنها خرجت عن طاعته وبدأت تفتح عينيها بضغط من عَدْوَى الجيران، لتأخذ حقها في ممارسة الإبصار ورفع صوتها الاحتجاجي والهتاف بلاَءَات الثوّار. لكن كيف؟ ومن أين للشعوب أن تكتسب وتُرْزَق وَعْيَها السياسي؟ 

ما دخل المحراب في التّسييس؟

انخراطنا في صلاة الجماعة يعلّمنا الوعي السياسي، حيث أننا كمَأمُومِين مطلوبٌ منا أن نكون منتبهين لقراءة الإمام وحركاته ومتابعين له بوعي ومحاسبين له على كل نقص وزيادة، فإذا انزلق لسانه قوّمناه وإذا غفلت جوارحه عن حركة سدّدناه ونبهناه وذلك برفع شعار موحّد متفق عليه بين الإمام والمأموم وهو"سبحان الله". 

وهكذا نتعلم الرقابة الواعية لمن يسوق بنا قاطرة الصلاة ومن ثَمَّ عندما نخرج إلى المجتمع، إلى الشارع نكون قد امتلكنا أوليّات وأبجديّات الوعي السياسي والاجتماعي لأيّ خلَلِ نراه مُخالفًا للحق والخير، قد يرتكبه أصحاب السلطة والمتزعّمون للحراك المجتمعي والفعاليات المدنية.

ولهذا كان جيل المُواطنَة من الصحابة والتابعين جيلًا راقيا على مستوى الوعي السياسي والفعالية الاجتماعية نظرًا لانخراطه الدائم والواعي في ممارسة صلاة الجماعة، فعندما انتبه في المسجد، واصل انتباهه في المجتمع فكان مُبصِرًا وبَصيرا مُفتّشا ورَقيبا، وفي الشواهد التالية خير برهان. 

مواطنة تجبر الرئيس على سحب قراره والاعتذار لشعبه

من ذلك أن مواطنة عادية تُدعى "خولة بنت ثعلبة" اعترضت ذات يوم طريق رئيس الدولة وعارضته على المباشر في القرار الذي اتخذه في مؤتمره الصحفي بخصوص تحديد سقف مهور الزواج، وصوّبته وأقنعته وجعلته يتراجع عن أمره الرئاسي ويعتذر للشعب.  

قال القرطبي في تفسيره: خطب عمر وهو أمير المؤمنين فقال: ألاَ لاَ تُغَالُوا في صدقات النساء (المُهور) فإنها لو كانت مكرُمةً في الدنيا أو تقوَى عند الله، لكان أوْلاكُمْ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه ما أعطى َ قطُّ امرأةً من نسائه ولا بناته صَداقًا فوق اثنتي عشرة أوقية. ثم نزل. فاعترضته امرأة/ مواطنة فقالت: يا أمير المؤمنين نهَيْتَ الناس أن يزيدوا في مَهْر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، فقالت: أيُعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أما سمعت ما أنزل الله في القرآن، قال: وأين ذلك؟ قالت أما سمعت الله يقول "وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا"، فقال: اللهُمّ غُفْرًا، كل الناس أفقه من عمر، امرأة أصابت ورجل أخطأ. (مواطنة أصابت ورئيس اخطأ). ثم رجع فصعد المنبر ليعتذر، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. (فإني أسحب وألغي قراري)، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ، وطابت نفسه فليفعل.  

مواطن يشكر الرئيس ويُحَذّره مُهدّدًا! 

وفي استطلاع للرأي توجّه به رئيس الدولة إلى مواطن يسأله هل هو راض عن أداء رئيسه. فلم يخجل المواطن ولم يجامل بل صدع وعبّر عن رأيه مادحًا وشاكرا. ثم مهدّدا ومحذّرا. 

قال ابن عساكر: أتى عمر بن الخطاب "مَشْربَةَ بني حارثة" فوجد مواطنا اسمه "محمد بن مسلمة" فقال: عمر كيف تراني يا محمد؟ (أي كيف ترى أدائي السياسي)

فقال: أراك والله كما أحبّ وكما يحبّ من يحبّ لك الخير؛ أراك قويّا على جمع المال عفيفًا عنه عَدْلًا في قسمته، ولَو مِلْتَ عَدّلْناك وقوّمْناك. 

فقال عمر: هَاهْ 

فأسمعه مرة ثانية: قلتُ لو مِلْتَ (سيدي الرئيس) عدّلْناك.

فقال عمر: الحمد لله الذي جعلني في قومي (شعبي). من إذا مِلْتُ/ ظلمتُ، عدّلوني/ عارضوني، ولم يرسل إليه الفرقة الخاصة لتختطفه من بيته في الثلث الأخير من الليل لتقوم بواجب تأديبه حتى لا يتجرّأ مرة أخرى على فخامته! 

مواطن يستفسر رئيسه على المباشر "من أين لك هذا؟"

وهذه معارضة صريحة وردٌّ واضح على المباشر وأمام الجماهير لمواطن يستمع إلى توجيهات رئيسه على الملأ. فيستفسره بقوله: من أين لك هذا؟

ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام خطيبًا فقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، فقام له (المواطن) سلمان الفارسي/ وردّ عليه: لا سَمْعَ لك اليوم علينا ولا طاعة، 

فلم يغضب عمر رضي الله عنه، ولم يقل لسلمان: كيف تكلمني بهذه اللهجة وأنا الخليفة/ الرئيس، من أنت؟ ومن سمح لك بذلك؟ وما هو انتماؤك السياسي؟ وبأي سفارة اتّصلتَ، وإنما سأله في هدوء: ولِمَ؟ قال سلمان: حتى تبيّن لنا من أين لك هذا البُرْد (القماش) الذي ائتزَرْتَ به، وقد نالك بُرْدٌ واحد (قطعة واحدة) كبقية المسلمين، وأنت رجُل طويل لا يكفيك بُرْدٌ واحد، فلم يغضب عمر مرة أخرى.

وسلمان/ المواطن بكلامه هذا إنما يوجّه إليه ما يسمى عندنا اليوم تهمة استغلال النفوذ والافتئات على أموال الدولة، ولم يقل له عمر: أنا وليّ الأمر أتصرّف في الأمر كما أشاء وليس من حقك أن تسائلني، وخزانة الدولة هي "جَيْبي" وجيوب أبنائي وعشيرتي، وإنما نادي ابنه: يا عبد الله بن عمر: قال لبّيك، يا أمير المؤمنين، قال: نَشَدتُك اللهَ، هذا البُرْد الذي ائتزرتُ به، أهو بُرْدُك؟ قال: نعم، والتفت إلى المسلمين فقال: إن أبي قد ناله بُرْدٌ واحد كما نال بقية المسلمين وهو رجل طويل لا يكفيه بُرْدٌ واحد، فأعطيته بُرْدي ليئتزر به. فقال: سلمان: الآن " مُرْ، نَسْمَعْ ونُطِعْ".

بمثل هذه المُواطَنَة الواعيَة الناقدة البصيرة الجريئة والمُوجِّهة التي مارست الاِبصار بعيونها صادقةً انتشر الخير وساد الأمن وأزْهَر السلم الاجتماعي، وانسحب الفساد من ربوعهم، وانكمش المفسدون، وانحنى لهم العالم اجلالا وتوقيرا واحتراما، وكانوا هم الكبار، ليس بجبروتهم وطغيانهم ولا بترسانتهم النووية ولا بحاملات طائراتهم وإنما كانت قوّتُهم في العلاقة السليمة الواعية بين الحاكم والمواطن، بصدق الزعيم وبصيرة المواطن.  

الوعي تغذيه الصلاة، لأن الصلاة الحقيقية تمثل لدى المسلم أرقى حالات الوعي والتفكير، لهذا لا يُرْفَع له من صلاته إلا ما عقل منها وما وعى، والشعوب إذا أرادت أن تُهاب ويُحسَب لها حساب عند حكامها فما عليها إلا أن تبدأ بممارسة النباهة الدينية واليقظة الإيمانية ويكون حضورها في المسجد حضور القلب والعقل "قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، لا حضورا جسديا باهتا فقط!