الهوايات وأخواتها

أسهم ضجيج التدريب، ودوراته المستمرة في الزج بمفردات كثيرة يجري استهلاكها بشكل غير دقيق في ساحات الإعلام وميادين التنمية البشرية، دون مراعاة لما قد يرسبه تداول المصطلحات من مفاهيم مرتبطة بها. يستهلك الإعلاميون مفردات الموهبة والإبداع أكثر من غيرهم، بينما يفرط المدربون في استخدام مفردات التميز والمهارة والنجاح، بنبرات عاطفية من شأنها خلق أجواء جيدة حول المستمع ريثما يعود إلى مناخه الطبيعي خارج قاعات التدريب.

إن الإبداع هو الخلق والابتكار والإضافة، وليس تلك الوسائل والأدوات، كالرسم والكتابة والشعر والإلقاء ونحوها من المعبرات التي توحي بأن هناك روحًا خلاقة كامنة خلفها. إن الكتابة والشعر والرسم والإلقاء أدوات ووسائل للتعبير عن قدرات وملكات، وأرصدة ثقافية ومعرفية، يؤدي الشخص على ضوئها أنشطته الحياتية، وقد يعبر عن ذلك ببعض المعبرات، كالرسم والشعر ونحو ذلك.

وبمثل ما كان من شأن مفردة الإبداع، فإن الإعلاميين عادة ما يطلقون صفة "موهوب" و"مبدع" بمعنى "ماهر" ، وتختلط في لغتهم المواهب بالهوايات، ويجري دمج الملكات في الأنشطة، برغم أهمية التفريق بينها في ميدان التعليم.

يستهلك “نشطاء التنمية البشرية” مفردة التميز تسويقيًّا لكسب أعداد أكبر لدورات ومحاضرات يقدمها (مدرب متميز) على حد وصفهم.

في عالم التسويق، يستحوذ المروّج على عواطف الجمهور، بمستوى يسمح له بالتعبير عن آرائهم في السلعة المنتجة أو الخدمة المقدمة. وهذا بالضبط ما تقوم به مراكز التدريب حين تبهر المستهدف بصورة المدرب وشخصيته وجوانب من سيرته (الخارقة). في مناسبة ذات صلة بموضوعنا سألت أحد أصدقائي اللامعين في المجال عن عدم تحديدهم للفئات العمرية أو المهنية المستهدفة بمعظم الدورات التدريبية المعلن عنها. فقال لي: بكل أسف، هذه رغبة المراكز ورؤيتها التسويقية. وسبق أن علق أحدهم على منشورٍ لي منتقدًا وصفي لمراكز التدريب بخداع زبائنها بشهادات ورقية ملونة.

إن المهارة نفسها ليست نشاطًا، وإنما هي درجة إجادة في أداء الأنشطة، وهي أقرب أخواتها وأكثرها صلة بالواقع إن أحسنا التعامل معها ووضعها في سياقها ودرجتها. 

إن العلاقة بين الأشياء والروابط الواصلة بينها، أكثر قيمة بطبيعة الحال من معرفتها متفرقة غير ذات صلات ببعضها.

إن استخدامنا التعليمي والتدريبي لبعض المفردات، يغلب عليه الاستعراض الإعلامي، والعزف بالمصطلحات، دون مراعاة للطرف الآخر، شريك العملية التعليمية، والمستفيد المفترض منها. ولعل التركيز على هوايات المتدربين، والعمل على تنميتها وتعزيزها، أكثر فاعلية في زيادة مستوى الإجادة في أداء الأنشطة، ومن ثم الإبداع والتميز فيها. ولا قيمة لأنشطة تؤدى بأعلى درجات المهارة، إن لم تكن في دائرة الهوايات.

كن وفيا لهواياتك

إن درجة ارتباطنا بمختلف الأنشطة اقترابًا أو ابتعادًا، حبًا أو كراهية.. تساعدنا كثيرًا في اختيار مفهوم سهل وفعال للهواية دون حاجة للاستغراق في المعاني اللغوية أو اصطلاحات التربويين.

إن ممارستنا لسلة أنشطة حياتية لا تنفك عن وصفين اثنين غالبًا؛ حيث يمكننا وبكل سهولة تقسيم ما نقوم به من نشاطات إلى قسمين:

  1. أنشطة نمارسها بدوافع ذاتية ورغبة حقيقية نابعة منا دون اضطرار أو إجبار من طرف آخر، بغض النظر عن أهمية تلك الأنشطة أو ضرورتها أو درجة حاجتنا إليها.
  2. أنشطة نمارسها دون رغبة منا وبدوافع غير ذاتية، وتمثل حاجتنا أو اضطرارنا أبرز دوافع قيامنا بها، وقد يكون ذلك بإجبار وإكراه وإن كان إكراها اجتماعيًا كحالات العادات والتقاليد.

إن الهوايات هي كل ما نقوم به من أنشطة ذات امتدادات في نفوسنا وتهواها أفئدتنا وقلوبنا.. ولا تقتصر على الأنشطة الترفيهية أو غير الجادة فقط.

عند التأمل في سعة مفهوم الهوايات كأنشطة مفضلة ومرغوبة، يجدر بنا التعرف على أبرز تصنيفات الأنشطة وأكثرها شمولًا. في نموذج ASC لاكتشاف قدرات وميول الطلاب، قدمنا تقسيمًا رباعيًا للهواية:

أولًا: المعرفة، في صدر الأنشطة المفضلة، رأينا أن تكون المعرفة أول أقسام الهوايات.. وينتج الارتباط بين الهواية والمعرفة ما يمكن أن نطلق عليه الهوايات المعرفية، وتشمل حسب النموذج المشار إليه، جميع الأنشطة المعرفية المفضلة من قراءة واستماع ومشاهدة.

ثانيًا: الرياضة، وتأتي تالية للمعرفة، وتشمل جميع الأنشطة الرياضية المفضلة، بما فيها المشي والركض وركوب الخيل والدراجات.

ثالثًا: العمل: وتأتي الهوايات العملية/ المهنية ثالثة في ترتيب نموذج ASC بعد المعرفة والرياضة، وتشمل جميع ما نهواه من أنشطة مهنية وإنتاجية.. ولعل قسم العمل من أهم ما يميز فكرة النموذج، من حيث توسيع مفهوم الهواية من مجرد الترفية والتسلية لتشمل الأعمال الجادة أيضًا. إن العمل امتداد طبيعي للمعرفة ومرحلة من مراحلها.. ويظهر هنا مدى ترابط تقسيمات الهواية في نموذج آسك.. وإذا كان العمل معرفة، فإن الرياضة نفسها عمل، وقد تكون مرهقة ومكلفة بدنيًا ونفسيًا أيضًا.

رابعًا: التطوع، يمثل القسم الرابع في تصنيف الهوايات، أبرز حلقات الوصل ما بين الأنشطة والرغبات؛ إذ إن التطوع لا يمارس إلا برغبة بخلاف الأنشطة الثلاث السابقة، بما فيها الرياضة نفسها وإن كانت ترفيهية في معظم الأحوال، إلا أن اللاعب قد يقاد إليها مجبرًا لا بطلًا.. وأكثر ما يربط التطوع بقسم الهوايات العملية، والتطوع عمل وإن كان ثمة تباينًا ففي الدوافع والمقابل المادي.

إذا كانت الهوايات بكل ما ذكرنا من الشمول والسعة والترابط، فإنها جديرة باهتمامنا ومستحقة للوفاء. إن هواياتك بالمفهوم السابق ليست مجرد أنشطة إضافية تمارس في أوقات الفراغ وفي عطلات نهاية الأسبوع.. لكنها مجمل أنشطتنا المرغوبة والمفضلة.. إنها مشاريعنا المعرفية والصحية.. والمهنية والتجارية.. والخيرية والإنسانية.

إن الوفاء للهوايات وفاء لرسالة الحياة؛ إذ لا رسالة حياتية مفيدة بلا معرفة ولا طاقة ولا إنتاج ولا إنسانية وتفاعل اجتماعي.. وتمثل الهوايات بمفهومها الشامل في نموذج آسك، فرصة لاستعادة التوازن وتصحيح المسارات المعرفية والمهنية والاجتماعية لمن هم بحاجة إلى تصحيح، لا سيما ممن استهلكتهم عجلة الحياة في مبتدر الصبا، ولم تمنحهم مساحات كافية للتأمل والاختيار والمفاضلة، سواء كان ذلك في (مرحلة الاختيارات الدراسية) أو المهنية فيما بعد.. أو الاجتماعية والإنسانية أيضًا.

أن تكون وفيًا لهواياتك، يعني أن تحافظ على مستوى سعادتك ورضاك وتوازنك النفسي تجاه مختلف ما تقوم به من أنشطة طوال يومك وعامك وحياتك.. وفاؤك لهواياتك يعني أن تستمر في اغتراف مزيد من المعرفة المفضلة لديك وذات الصلة بشخصيتك ورسالتك ومشاريعك، لا تلك الشائعة في الأسواق والمكتبات والقنوات.. ارتباطك بهواياتك ووفاؤك لها يعني أن ترتاض بما يناسبك لا ما تفرضه المجموعة والرفقة أو المؤسسة.. وبنفس القدر والارتباط في أنشطتك المهنية والاجتماعية.

وفاؤك لهواياتك، ليس سوى أسلوب سهل وفعال للالتزام تجاه ذاتك وعملك ومجتمعك..التزام تجاه نجاحك.