هل يترك الوسط الصاخب بالأحداث فرصة للتفكير؟ أم أنه ميدان يتيح فرصة للعمل أكثر؟ والصخب لا أقصد به المعنى السطحي للمفهوم، بقدر ما أعني به التواجد في وسط يُشغل فيه العقل وتستجد عليه الكم الكبير من الأحداث والملاحظات والتفاصيل بشكل يومي، مما يجعل النظرة أكثر تجزيئية وانفعالية مع الواقع، يجعل كل حادثة تبدو من ناحية كما لو أنها ردة فعل لحادثة مماثلة، ومن ناحية أخرى كما ولو أنها مستقلة بذاتها عن سواها، تماما كالبنية الذهنية الاجتماعية التي يعيشها الوسط العربي اليوم، الكثير من الأحداث والقليل من التفكير، الكثير من التفكيك والقليل من التركيب، الهدم يهيمن على البناء.

هل بُنية الذهنية العملية في هذا الذي أسميناه "صخب" يمكنها أن تقوم أيضاً بمهمة الذهنية التفكيرية؟ والعكس، الذهنية التفكيرية يمكنها القيام بالمهمتين التفكير والعمل معاً؟ هل التفرقة تكمن في المفهومين كما ولو أنها تخصصات تكوينية، من كان ذو فكر لا يكون ذو عمل والعكس، أم أن التفرقة تكمن في الوسط الذي تعمل فيه الذهنية وتتشكل فيه بنيتها التركيبية الذهنية، مما يكسبها بنائية حركية أو بنائية تفكيرية، وبالتالي تعمل كل ذهنية وفق البنية التي نشأت فيها.

وأنت تقرأ فيما أنتج من فكر وعلوم، تجد أن ذهنية العمل كانت أكثر بعداً عن التفكير، كانت بارعة في الحركة، كذلك ذهنية الفكر الغالب منها كان أقل ميولاً إلى العمل، كانت بارعة في الفكر، والعمل هنا لا يقابله الكسل، يقابله حركة ذهنية تفكُرية.

هل نحن أمام تقسيم لا يقبل الثنائية؟ إما أو، أم أن الأمر يحدث بالغلبة لأحدهم على الآخر في الفرد، وبالتالي هو محسوب على ما يغلب فيه، إما فكر، وإما عمل، وهما سلفاً مسلمة يحدثان نتيجة اكتساب، ولكن ما نوع ذلك الاكتساب؟ وكيف يحدث؟ 

 كافتراض وهو من جملة عوامل، وجدت أن الأمر يتعلق بشكل أساسي ببنية العائلة، الأب والأم بالتحديد، بعض العائلات يغلب عليها طابع العمل والحركة، وإن وجد الفكر في العائلة فهو تسييري يومي ولحظي ومؤقت، أو ربما تفكير تدبيري لأمور المعيشة فقط، بينما تغلب الديناميكا الحركية في شتى مناحي حياة العائلة، حتى أن بعض الأمهات وإن لم يكن هناك من عمل، تجد أنه لا يمكنها التوقف، يجب أن تعمل بشكل يومي، بل أن بعض الأمهات والآباء يصابون بالمرض والضيق إذا لم يعملوا في يومهم، وهذه الحركية اكتسبوها بدورهم من آبائهم، وهم بدورهم أكسبوها للأبناء، بمعنى أننا أمام منهجية تبدأ بالإنعمال والتكوين في بنية الطفل الذهنية منذ الصغر، ما تلبث مع الوقت والاستمرار بأن تصبح هي المنهجية التي يتعاطى الفرد من خلالها مع الواقع والمحيط من حوله، بل تجدها تصبح سمة غالبة في شخصية ذلك الفرد، فالعمل مهمة سهلة ومحببة بالنسبة له مقابل مهمة التفكير التي يجد في التعاطي معها صعوبة بالغة، حتى أن تميزه وإبداعه تجده في الجانب العملي أكثر من سواه. 

 البنية من هذا النوع أي العملية، يقل فيها الكلام واللغة والحوار والتواصل، وتكثر فيها الحركة والصمت، ذلك أن الطابع العام هو العمل، وتعريف الفرد لمن حوله في هذه البنية الاجتماعية يتم من خلال العمل، فهو نكرة في العائلة العملية إذا كان لا يعمل، كما أن بنية اللغة والانبناء اللساني والذهني يكون مختل لدى العائلات التي تغلب عليها الذهنية العملية، الإعمال الذهني يشوبه خلل، وهذا بدوره يدفع أكثر نحو العمل وترسيخ الذهنية الحركية في الفرد، كلما وجد صعوبة في التفكير ذهب إلى إثبات ذاته بشكل أكبر في العمل، يحصل ذلك على حساب عملية التفكير وتكوينها، هذا الانحسار يؤدي بدوره إلى التركيز على الحاضر وغياب النظرة البعيدة.

 ذلك أن الحركة شيء آني ولحظي ونتائجها سريعة لا تحتمل التأجيل، لكنها في ذات الوقت تتحول إلى أزلية ومتكررة وروتينية، وهكذا تحدد نظرة الفرد للعالم من خلال هذه الذهنية، على عكس الذهنية التفكيرية التي تغلب عليها النظرة البعيدة والانتظار المتأني.

يتشكل الانبناء الذهني الحركي بشكل سريع وسلس في الفرد، بينما نجده العكس في البنية ذات الطابع التفكيري إذ تتسم بالبطء في تشكيلها، والسبب يعود إلى أن نتائج الحركة تكون سريعة وآنية وغير مؤجلة، بينما نجدها العكس لدى الذهنية ذات الطابع الفكري، النتائج مؤجلة، ومن ناحية أخرى الحركة سهلة ومحدودة وعدد التجارب فيها قليل للوصول إلى النتيجة المرجوة، كما أن نتائجها مربحة ماديا، على عكس التفكير الخيارات متعددة والتعقيدات مكثفة والنتائج غير مضمونة والأرباح قد تكون ضئيلة.

الأمر بين المفهومين جدلي وسبق ونُظر فيه كثيراً، ولكن ما هي المشكلة في الموضوع أن يكون (س)عملي و(ص) فكري؟ وهل بالإمكان أن يُجمع بينهما، سواءً في فرد واحد أو في بيئة عمل واحدة؟ ما هي الأثار المترتبة في قيام أحدهما بمهمة الثاني والعكس؟ ما هو أثر البيئة التعليمية في ترسيخ هذه الذهنيات؟ وهل بالإمكان أن يساهم التعليم في دمج الذهنيتين في ذات الفرد؟ نستكمل الإجابة عن هذا في المقال القادم.