في قرن تسارعت فيه الأحداث بشكل تجاوز كل التوقعات، ففي عشرين سنة الأخيرة تغير مصير الكثير من الشعوب والدول بعضها بإرادة شعوبها وبعض آخر رغما عن إرادتها، وبين ذلك وذاك بقيت القضية الفلسطينية عالقة بين براثن العدو يمزق فيها أنّى شاء، بين تهجير واستيطان وحصار، كل هذا وسط دعم عالمي من قوى كانت تروج على أنها سائقة السلام للشعوب، بل ودعم عربي وإسلامي خرق كل التوقعات والتأملات.
في الحلقة التاسعة عشر من برنامج بيان للنّاس يشاركنا دكاترتنا الأفاضل أهم إشكالات القضية المعاصرة وكيفية التعامل معها، ويعرضون لنا تفاصيل القضية وكيف يتم التلاعب بها.
إسرائيل تزداد يومًا بعد يوم في الجبروت بدعم خارجي، وهناك مقاومة من أهل فلسطين، لكن المعادلة مختلفة من ناحية القوة، فهل هناك أمل للمسلمين والفلسطينيين أن يعودوا للأقصى ويحرروه؟
د. علي القره ياغي: ذكر رب العالمين ما يحدث من طغيان للصهاينة ولدولة إسرائيل بالتفصيل قبل 1400 سنة من حيثُ النزول، وبين ذلك تمامًا (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)، فهم يصبحون أكثر الناس تنفير وخبثًا في العالم، ولكن الله وعد وعدّ الحق في الوقت الذي كان الله يتحدث عن هذا الموضوع، لم يكن اليهود في القدس، ولكن هذا يحتاج وعد الله الحق أن يكون النصر للفئة المسلمة، آيات في سورة الإسراء وآيات أخرى تدل على ذلك (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـلِحُونَ).
بعض العلماء يقولون "أن" أي للعهد أي أرض فلسطين، أو أن الأرض جميعًا يرثها عباد الله الصالحون، والأحاديث في بشارة النصر أكثر من أن تحصى، ولكن الله ذكر سننه في الانتصار وكذلك في الهزيمة، فبين عدة شروط وضوابط، منها تحقيق العبودية لله والخضوع له (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا)، جمع (عبادًا) لله، لا يكون ولاءهم لا لأمريكا ولا لروسيا، ولكن الولاء الحقيقي لله.
ويأخذون بكل وسائل القوة (أولي بأسٍ شديد) والبأس يدخل فيه قضايا المعارك القوية، القائمة على التطور النوعي، والقوة الناعمة أشار إليها القرآن الكريم (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ)، هذه إشارة إلى الإعلان القوي للمسلمين وفلسطين، بحيث يتم فضح العدو وجرائمه.
فإذا تحققت العبودية لله والقوة العسكرية والعقائدية والوحدة، ثم المرجعية القرآنية، حينئذٍ يتحقق النصر بإذن الله تعالى، فهذا وعد الحق، أما بقية الوعود كوعد بلفور، تحقق بوسائل مادية ولكنه لن يستمر، وهذه سنن الله في كونه، ونحن واثقون بالنصر، حتى اليهود أنفسهم التقيت ببعض منهم في بريطانيا فقالوا: لا نشجع العودة إلى إسرائيل.
ما وضع فلسطين في القوانين والمواثيق الدولية؟
د. عبدالمجيد النجار: هذه المواثيق في قضية فلسطين ضعيفة الأثر جدًا؛ لأن هناك من قوانين الأمم المتحدة والتي هي في صالح فلسطين وضد القانون الاسرائيلي، ولكنها لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ أبدًا.
حتى قرار التقسيم على ما فيه من الظلم والمرارة فإنه كان في تطبيقه معارضة من قبل القوة التي تمنع هذا التقسيم، إذن قضية فلسطين ليست قضية قوانين دولية، لأن هذه القوانين لم تأتي بشيء، وهي قضية أخرى، منطق القوة التي تسود والاستكبار، الذي يملك القوة ويكون متكبرًا في هذا العالم هو الذي يفرض إرادته بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وحال دون تحرير الفلسطينيين المظلومين،
وكذلك أيضًا في شق آخر، قضية فلسطين قضية خذلان وانهزام لذوي الشأن من العرب وبعض المسلمين الذين فرطوا في هذه القضية، وها نحن نراهم اليوم يتراكمون حول ما يسمونه حل القضية الفلسطينية على معنى أن هذا الحل هو التنازل في متتالياتٍ بعضها يتلو بعضًا، حتى تنازلوا عن القضية أصلًا، هناك من يقول أن العلماء عندما يأتي المحتل إلى بلد ما يتعاملون معه على أساس أنه محتل، أما في فلسطين فيتم الصمت، ولا يتم تطبيق نفس المعيار؟
هذا يطرح سؤال كبير فيما يتعلق بقضية حقوق الإنسان، وهل هذه الشعارات قيم حقيقية ثابتة أم هي قيم نسبية تطبق في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإذا جاء الأمر إلى الجنوب وإلى الشعوب السمراء والضعيفة لا يكون لها تطبيق، نقطة استفهام ينبغي أن نقف عندها وربما يعود الأمر إلى أن هذا ازدواجية في الخطاب وليس له ثبات ومصداقية.
ولهذا فإن العبر التي تأخذ، بأن الفلسطينيين والعرب والمسلمين ينبغي أن يعولوا على أنفسهم في قضية فلسطين ولا يعولون كثيرًا على القوانين الدولية، نعم يأخذون فيها وهي حجة، ولكن على الميدان والواقع ينبغي أن يعولوا أهل الشأن على أنفسهم، في القوة بجميع أنواعها، للتعاطي مع قضية فلسطين.
هناك مزاعم إسرائيلية حول فلسطين وهناك تزوير للحقائق التاريخية فيما يتعلق بالقدس، فما رأيكم؟
العلامة محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: من المعقول جدًا أن الذي اغتصب أرضنا ومالنا أن يبحث له عن حجة للاغتصاب، لأنه ليس من المعقول أن يواجه ناس ويقول فعلًا أنا غاصب وسارق، لا بد أن يبحثوا عن شيء يعتمدوا عليه، والصهاينة اعتمدوا على بعض الشبهات الواهية، والتي أصبح اليوم بعض ممن ينتسبون للإسلام يعتقدون أن تلك الأرض لصالح الصهاينة، ولذلك أنهم يقولون أن الله كتب أرض فلسطين لموسى وقومه، والجواب نعم، الله كتب أرض فلسطين لموسى وقومه، وقال في كتابه ذلك (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، لكن موسى وقومه من الأولى بهم الآن؟
من الذي يرث موسى وقومه؟ محمد صلى الله عليه وسلم وهو الوارث لجميع الأنبياء، ولذلك من أسمائه، العاقب.
آخر حديث في موطأ مالك أخرجه عن ابن شهابٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لي خمسةُ أسماء، أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه وأنا العاقب)
والله يقول (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) إبراهيم هو الذي بنى فلسطين وبنى مدن الشام، حتى دمشق، فمن أولى الناس بإبراهيم؟ الرسول وأتباعه والذين آمنوا
فلذلك الموجودون الآن في فلسطين من الصهاينة، ليسوا أولى بموسى منا، بل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا الذي تصومون؟ فقالوا: يومًا أنجى الله به موسى من فرعون وجنوده، فقال النبي: نحن أولى بموسى منكم.
اليهود الغاصبون الذين جاؤوا من ديارهم، وكثير منهم احتفظوا بجنسياتهم وأموالهم في تلك البلدان، فلماذا نقول أن لليهود حق في وطنين وجنسيتين، وليس للفلسطيني حق في وطنه وجنسيته؟
اليهود الموجودون الآن في فلسطين، ليس أحد منهم من سكان فلسطين الأصليين، ولا يستطيع أحد منهم أن يعد لنا خمس أباء عاشوا على أرض فلسطين، المسلمين لما فتحوا فلسطين كان فيها النصارى، فتعايشوا مع المسلمين طيلة هذا التاريخ كله، وما بينهما فرق، فلذلك ليست القضية قضية تعصب، بل ظلم وافد.
مرة من المرات امرأة فرنسية كانت تجمع التوقيعات على حل الدولتين وكانت تقول: لماذا لا يتنازل الفلسطينيين لليهود عن بعض أرضهم لليهود كي يقيمون عليها دولة، فكان من الجواب: أن الألمان لما احتلوا فرنسا، ما رأيكِ في ذلك الوقت، لو قيل اتركوا لهم باريس وابحثوا عن عاصمة أخرى أو في أي بلد آخر، فقالت: هذا خيانة وجريمة كبرى!
قلت: إذن.. هؤلاء محتلون جاؤوا من الخارج ولهم جنسياتهم ولهم أرضهم خارج فلسطين.
قضية البحث عن الهيكل المزعوم، هم يزعمون أن لهم شيء، ويزعمون أن الملك سليمان ولا يرونه نبيًا، بل يرونه كافرًا، والله رد عليهم وقال (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)، فهم يقولون أن لديهم هيكل ويريدون إخراجه، هل سمعت قط ملكًا من الملوك يقول لأهل جنسيته فيما بعد بإعادة بناء بناه واندثر، لو كان كذلك لكان الرومان أولى بالأرض كلها، الرومان هم الذين بنوا الأرض كلها، القاهرة والقسطنطينية وتونس وغيرها، وهذه ليست حجة.
يقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب تنازل من بعض الأمور مثل قطفان، ألا ينطبق هذا الموضوع مع الفلسطينيين أيضًا؟
د. علي الصلابي: عرض النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي ثمار المدينة لقطفان واستشار الصحابة، ورفضوا ذلك ودخلت في المسائل السياسية الشرعية، لكن موضوع فلسطين في وجهة نظري، أعمق من تلك الطريقة التي يعالجها بعض الفقهاء والعلماء المعاصرين؛ لأن لها أبعاد وجذور تاريخية.
ففي العصور الوسطى كانت هناك ثلاثة مشاريع رئيسية، مشروع غربي وعقائدي وفكري، قادها أحد رجال الدين من النصارى والمسيحية لغزو بلاد الشام واحتلال بيت المقدس، وكان هناك مشروع للدولة الفاطمية وهو عقائدي وسياسي وعسكري في بلاد الشام، وخرج مشروع السلاجقة السنيون، والذي أخرج مجموعة من العلماء والفقهاء من الكبار، فبالتالي تحرير بيت المقدس يخضع لسنن وقوانين لها علاقة بالفكر والسياسة والجغرافيا وعامة الأمة، وشارك في تحرير فلسطين في عهد صلاح الدين الأتراك والفرس والعرب، وفق رؤية ومشروع متكامل.
فلو قلنا الفلسطينيين وحدهم فإنهم لن يستطيعوا التحرير لوحدهم، نور الدين زنكي دخل في السياسية الشرعية فيما يسمى فك الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقائد وتحالف مع الإمبراطور البيزنطي الذي كان متحالفا مع ملك المملكة اللاتينية المحتلة بيت المقدس، وكان في شروط الصلح في ذلك الفترة، الإمبراطور البيزنطي نور الدين دخل ضد دولة السلاجقة المسلمة لكسب الوقت ودق السَفين ما بين المملكة اللاتينية المحتلة والإمبراطور البيزنطي وكان من الشروط دفع الأموال وفك السجناء.
هل الصلح والسلام مصلحة المسلمين تتعارض مع العقيدة؟
د. نور الدين الخادمي: العقيدة ثوابت في التصور الإسلامي العقد للكون والإنسان والحياة، والمصالحة هي مسايرة ومقاربة.
في القضية الفلسطينية ما يعرف من الثوابت، ومن الثوابت الحق الفلسطيني والقدس والأقصى والمهجرين، كل هذه ثوابت، وفي مقابل هذا نجد المصالحة والإصلاح الذي هو شأن فلسطيني.
وهو ما يتحدث عنه الخبراء فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية من قبل جميع الفصائل والمكونات الفلسطينية، ثم هي مصالحة ببعد ديني وعربي وإسلامي وحقوقي، لا بد أن نجمع بين العقيدة باعتبارها أصلًا في التصور والثوابت والمصالحة باعتبارها مسارًا سياسية وسياسية شرعية، موازنات ومعادلات تتحقق في سياقها ومآلها.
ما رأيك في تلك الآراء؟
د. أحمد الريسوني: القضية الفلسطينية من أعظم المظالم التي حصلت في هذا العصر، وكما هو معلوم الطموحات والمطامع الاسرائيلية من وراء ذلك طموحات أوسع مما نرى، ولذلك المستوطنون باستمرار يكتسحون أراضي جديدة، والكيان الغاصب باستمرار يضم مساحات جديدة وتعلنها جزءً من اسرائيل كما فعلت مع الجولان، وكما تريدها مع الضفة الغربية.
إذن هذا سرطان يكتسح، اليهود والغربيون هم الذين فرضوا التقسيم، إسرائيل ليست هي أراضي ال48 وليست هي التي أحدثتها الأمم المتحدة، اسرائيل ظالمة ولا يحدها شيء، وليس لها أرض، ولا بد من مواجهة هذا السرطان.
واخواننا في فلسطين يتعاملون مع الأمر الواقع ويحملون أحيانًا الجواز الاسرائيلي لأنهم مكرهون، ولكن الأمة بصفة عامة لا بد أن تستمر وتجتهد بمقاومة هذا السرطان الاسرائيلي، والأمة الإسلامية لم تستخدم 1% من قوتها، ونحن لسنا أم منهزمة، فالشعوب ممنوعة لمساعدة فلسطين ومن يساعد فلسطين يعد إرهابيًا.
يتم مناقشة هذه الفترة موضوع صفقة القرن الذي يجعل من القضية الفلسطينية أن تتراجع بشكل كبير، ما واجب العلماء نحو هذه القضية وقضية القدس؟
د. علي القره ياغي: في القديم حينما احتلت القدس من قبل الصليبيين في القرن الخامس الهجري، كان للعلماء موقف مشرف بدءً من الامام الغزالي، إلى عبدالقادر الجيلاني، وإلى المدارس النضالية، وإعداد عدد من العلماء المجاهدين، حتى تضخم عن ذلك مشروع نور الدين زنكي وصلاح الدين، وفي خلال فترة وجيزة استردوا القدس، صفقة القرن مشروع أمريكي يهودي مع عملاء من العرب بأموالهم وجهدهم، أمام هذا المشروع الصهيوني الأمريكي.