لا شكّ أن الحركة بركة، والعمل واجب وأن الإيمان لا ينفع ما لم يُشفع بالعمل الصالح، وأنّ التنظير يبقى كلاماً ما لم يُترجم إلى واقع ملموس.
ولا ريب أنّ بعض الكُتّاب والمفكرين يجلسون في بروج عاجيّة ويخاطبون الناس من علٍ، دون ملامسة لهمومهم ودون اكتراث بمعاناتهم؛ فلا يتألّمون لآلام الناس، ولا يحلمون بآمالهم.
لكن: هل هذا يسوّغ لنا أنْ نعمّم القول بتفضيل العاملين على العلماء، والحركيّين على المفكرين، والميدانيّين على المنظّرين؟!
وأنْ نهاجم كلّ منظّر أو مفكّر أو كاتب؟! ينقد بعض ممارسات العاملين أو تصوّراتهم وأفكارهم؟ أو حتّى ينقض النظريّة كلَّها التي تأسّس عليها عملهم؟! فهل يُلام من يقدّم النصح والتوجيه ؟! وهل من تثريب على من يفكّر ويبحث ويقرأ ويتأمّل، ثمّ يكتب ما توصّل إليه من نتائج، يراها مهمّة ومفيدة وينشرها؟! هل يجب أن يطبّق الكاتب ما يقوله ويكتبه كلّه؟ حتّى فيما يخصّ الشأن العامّ في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والحضاريّ؟! وهل يتأتّى له ذلك فيما لو أراد ذلك؟!
من المؤكد أنّ الجمع بين التطبيق والتنظير أفضل، لكنّ الحقّ ينبغي أن يقال، وهو أنّ الجمع بين التنظير الدائم والحركة والتنفيذ أمر لا يتيسّر إلا للنوادر من الرجال، بل أزعم أنّ أحدهما ينبغي أن يطغى على الآخر في حال الجمع بينهما، أي: (التنظير والعمل) فإما أن يطغى العمل والميدان على التنظير والكتابة، وإمّا أن يغلب التنظير والفكر على التطبيق.
الحقيقة أنّ مهمّة العالم والكاتب والمثقّف والمنظّر أن يقدّم أفكاراً وحلولاً فينقد ما يراه، منكراً أو خطأً أو قاصراً، حتّى إنّه قد ينقد الحسن لنفعل الأحسن والأَولى والأَجود والأنسب. إذ يفترض أنّنا نطمح للتطوُّر والتميّز في عالَم يتنافس بالجَودة وفق أدقّ المعايير.
العالم يتنافس اليوم في امتلاك المعرفة والمعلومات والتقنيّة، وكلها نتاج المنظّرين والعلماء والمفكّرين والمخترعين، سواء في الجانب التطبيقيّ الماديّ أو في المجال الاجتماعيّ الإنسانيّ. ونحن عندنا شحٌ في المفكّرين والعلماء والباحثين، إلا إذا اعتبرنا كلّ من يتكلّم وينقُد ويهرف بما لا يعرف من عامّة الناس منظّراً!
من مظاهر تخلّفنا نفورنا من التخطيط والتنظير والتفكير والنقد، واندفاعنا للتنفيذ والحركة والعمل، فكم من أعمال ومشاريع انطلقت دون تفكير ودراسة وتخطيط كافٍ، فكانت النتائج كارثيّة، وكم من تفكير عميق وخطط رائعة لم تتحوّل إلى عمل، فبقيت حبيسة الكتب!
ومن مظاهر نفورنا من التنظير وصف (الفكر بالبرود)، وهنا ملاحظة مهمّة ينبغي الانتباه إليها، وهي أنّ المفكّر ينبغي أن يوائم بين معرفة هموم الواقع واحتياجاته، وبين أن ينغمس في العمل والتطبيق، فعليه أن يبتعد عن سخونة التنفيذ والعمل والحركة، فالواقع له تغيّرات ومشكلات وضغوطات، وإلا عاش حال (طوارئ التنفيذ) فيتشوّش ولا يعود قادراً على الإبداع والتفكير الحرّ، وتصبح أفكاره تحت ضغط الواقع، فينقلب إلى ميدانيّ تنفيذيّ تستغرقه التفاصيل وإطفاء الحرائق.
وهنا لا بدّ من أن يوازن بين رفرفة الفكر الاستراتيجيّ، وواقعيّة الفكر التكتيكيّ. ففي المعارك الكبرى يتركون القيادة العليا بعيدة عن ساحة المعركة، في مكان آمن، حتّى يفكّروا للمعركة بعيداً عن ضغطها.
ومن عجائبنا أنّنا نندب حظّنا ونشكو قلّة مراكز البحث والتفكير، ثمّ نلوم من يتفرّغ ويكدّ في البحث والتنقيب والتفكير، وينتج (معرفة باردة) كما يصفها بعضهم.
وننسى أو نتناسى أنّ أصل كلّ حركةٍ ومشروعٍ وعملٍ فكرةٌ، فـ "وراء كلّ مشروع عظيم.. فكرةٌ عظيمة".
وكثيراً ما تبقى كتابات بعض العلماء مهجورة غير منتفَع بها، وبخاصّة إذا كانت سابقة لزمانها، فالوعي بها يكون ضعيفاً في زمان كاتبها، ثمّ يأتي أوانها، وتعرف الأمّة قيمتها، ومدى الحاجة إليها، فتقبل عليها، وتنتفع بها أشدّ الانتفاع، بل إنّ كثيراً من الحركيّين يستفيدون من كتابات المنظّرين، ولا يعلنون ذلك.
قد يقول قائل: لكنّ الكُتّاب والمنظّرين عندنا كثيرون، فما أكثر المنظرين عندنا، وما أقلّ العاملين!! فنقول: هذا الكلام غير دقيق، فكثيراً ما تعترضنا مشكلات وعقبات وتحدّيات تحتاج إلى منظّرين، يقدّمون فيها حلولاً فلا تكاد تجد أحداً، -دعك من الثرثارين ممّن يهرف بما لا يعرف- ممّن لو طبّقتَ كلامهم لازداد الأمر سوءاً.
ثمّ إنّ إحصاءات إنتاج الكتب وطباعتها وقراءتها في عالمنا العربيّ تشير إلى أنّنا في ذيل أمم الأرض. هذا من حيث الكمّ، أمّا من حيث النوع فحدّث ولا حرج، فالتكرار يكاد يكون السمة العامّة للكتب، كأنّنا تواطأنا ألا يخالفَ بعضُناً بعضاً في أطروحاتنا.
ثمّ إنّنا نستطيع تقسيم الكُتّاب والمفكّرين والمنّظرين وصُنّاع الرأي في المجتمعات كلّها إلى ثلاثة أقسام، فلو رسمنا هرماً وقسّمناه أفقياً إلى ثلاثة أقسام، قمّة الهرم الضيّقة، ووسطه، وقاعدته الواسعة، فإنّنا نضع في قمّة الهرم أرباب العقول الكبيرة؛ وهم درجات كذلك، ففي ذروة القمّة الفلاسفةُ العظام أصحاب النظريّات الكبرى، ثمّ العلماء الكبار الذين يؤسّسون علوماً ومدارس فكريّة، والمخترعون والمبدعون، ثمّ المفكّرون الذين ينتجون أفكاراً ونظريّات صغيرة، ثمّ العلماء الذين يشرحون ويكمّلون ما أسّسته الطبقة السابقة، وهكذا ينتهي القسم الأوّل وهو قمّة الهرم، ويمكن أن نطلق عليهم لقب: (منتجو المعرفة).
ثم يأتي القسم الثاني؛ وهو وسط الهرم، ويمكن أن نسميَهم (صنّاع الرأي العامّ)، وهم طبقات ومراتب كذلك، بين مقلّ ومكثر، ومتعمّق وسطحي، فمنهم من يعلو حتّى يقترب من القسم الأوّل في قمّة الهرم، ومنهم من يسفل فيقترب من عامّة الناس، وهي الطبقة السفلى من الهرم، وهذا القسم الثاني يشمل الكتّاب والصُّحُفِيّين والإعلاميّين والعلماء والمدرّسين والخطباء وأساتذة الجامعة، وكلّ من يؤثّر في الرأي العام من المثقفين والعلماء، ممّن يحتكّ بعامّة الناس ويقنعهم بأفكاره وينشر العلم والوعي بينهم، فهذه الطبقة تأخذ أفكارها وعلومها من قمّة الهرم، من (منتجي المعرفة) وينشرونها في المجتمع، فهم وسطاء بين قمّة الهرم وأدناه.
والطبقة الأخيرة: عامّة الناس، ممّن يتلقّى العلم والرأي من القسم الثاني، من (صنّاع الرأي)، وهم كذلك طبقات منهم من علمه ووعيه وثقافته تؤهّله أن يقترب من الطبقة الثانية، ومنهم الأميّ الذي يقع في أسفل الهرم.
وهنا نتكلّم عن العلم والفكر والوعي العقليّ ولا نتكلّم عن التفضيل والمكانة الاجتماعيّة، ولا عن المكانة الأخروية، فميزان التفاضل في الآخرة: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإن كان للعلم مكانة في التفاضل، فقد أخبرنا الله تعالى أنّه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]
من خلال التقسيم السابق يظهر لنا أنّ أكثر الكتابات والأحاديث تكون من القسم الثاني، فالمبدعون (من القسم الأوّل) من أصحاب النظريّات الكبرى أندر من الكبريت الأحمر، فهؤلاء يدور في فلكهم، ويقتات على فكرهم جمعٌ غفير من الناس، فيشرحون ويوضّحون ويفصّلون ويطبّقون ويحلّلون ويرّكبون ويأتون بأمثلة وحجج ودلائل، ويردّون على الاعتراضات والتساؤلات وينشرون ذلك كلّه بين الناس.
أمّا مؤسّسو الحركات والجماعات والأحزاب فغالباً ما يكونون من القسم الثاني، ممّن يحمل الفكرة ويطوّرها وينشرها، ثمّ يجمع الناس عليها، ونادراً ما يكون من القسم الأوّل المنتج للمعرفة، إلا إن كان قائد تيّار فكريّ أو علميّ، وليس له جهد جماهيريّ اجتماعيّ. لأنّ التنفيذيّين غالباً ما يبدعون بالنشر والترويج، وجمع الناس وتنظيمهم والحركة بهم. ولعلّ هذا من حكمة الباري سبحانه وتعالى ليتكامل الناس ويتخادَموا ويتعاونوا.
وهنا تظهر مشكلة عويصة؛ وهي جمود الأتباع عند اجتهادات المؤسّس، فلا يتهيّأ -في كثير من الأحيان- منظّرون للجماعة على مستوى المؤسّس في الفكر أو في الشجاعة، أو في قبول الأتباع لتحديثاته وتطويراته وتغييراته، فتقع الجماعة بالجمود، لتغيّر الواقع الذي نشأت فيه، وحاجتها لمن ينقلها لمواجهة مرحلة جديدة في حال فشل الوسائل القديمة، أو في حال النجاح واستنفاد أغراض وأهداف الوسائل القديمة، والحاجة لتجاوز المرحلة السابقة، والإعداد للمرحلة الجديدة، والاحتياجات الجديدة.
وهنا يظهر داخل الجماعة التنظيميّون الذين غالباً ما يغلبون المفكّرين المجدّدين، وذلك لأنّ التنظيميّين متفرّغون لإدارة الجماعة، فهم المسيطرون عمليّاً، بينما المنظّرون منصرفون للبحث والقراءة والتفكير والتنظير، وهذا غالباً ما يعزلهم عن مواضع القرار. فيهيمن التنظيميّون على القرار، وهؤلاء مثل الضباط والمدراء التنفيذيين يغلب عليهم فرض السمع والطاعة والانضباط، فيضيقون ذرعاً بأصحاب الفكر والتنظير.
فيكون مصير المنظّرين: إمّا تركهم يتكلمون دون تنفيذ لاقتراحاتهم، أو يتمّ منعهم من النقد و(التشويش) على الجماعة، أو تجميدهم وإبعادهم وشغلهم بمهامّ أخرى، أو الفصل من الجماعة، للتخلّص من (تشويشاتهم). أو يخرج المنظّر بنفسه من التنظيم، وبالتالي تصبح بيئات التنظيمات والجماعات بيئات طاردة للمبدعين.
وهذا يؤدّي إلى تجمّد الجماعة، وتركها تعاني من المشكلات والانتكاسات، وحتّى عند وجود المراجعة والتجديد، فإنّ تلك المراجعات والنقد الداخليّ تبقى في مستوى التنفيذ والإدارة وآليّات الحركة، ولا تتجاوزها إلى الاستراتيجيّات والأفكار المؤسِّسة، والأهداف العليا، فتكون النتيجة العمليّة دوراناً بالمكان نفسه!
كما أنّنا نخشى من الوقوع في التكبّر لو أعرضنا عن سماع الناصحين من داخل الجماعة أو من خارجها. ومن أسباب عدم الاهتمام بالنقد: الوثوقيّة العالية بالمنهج والأفكار، والجمود عندها. ويمكن تلخيص الحلول المقترحة في النقاط التالية:
1- معرفة أهميّة المنظّرين لأيّ مشروع وحركة وجماعة.
2- لا أقول بقبول النقد فحسب، بل وجوب البحث عن النقد، بقصد التطوير والتحديث والتصحيح، فيما اقتنعنا به من النقد، فليس كلّ نقد صواباً، وليس كلّ صواب يصلح للتطبيقِ الآن.
3- التعامل مع العمل الجماعيّ على أنّه وسيلة وليس غاية، فقد يحقّق فرد نتائج أفضل من جماعات، فلا يجوز استصغار أيّ مشروع فرديّ أو الاستهانة به.
4- الخروج من عقلية أبيض وأسود؛ وإمّا هذا أو هذا، فكثيراً ما يكون الصواب بهذا وذاك معاً، أي: إمّا أن يؤسّس المفكّر جماعة أو مشروعاً، وإلّا فكلّ عمله لا قيمة له، لماذا لا نقول: اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له.
ختاماً: لا يقلّل من قدر العلماء والمفكّرين والمنظّرين إلّا مخطئ، ها هي الحكومات المستبدّة تتعامل بحزم مع كل صاحب قلم حرّ، لأنّها تعرف قوّة الكلمة.
الذي نحتاجه حقّاً هو: تلاحم العلم مع العمل، والمنظّرين مع الفاعلين، والمختبَر مع المصنَع، والمهندس مع المنفّذ، فينطلق العمل من عقول العلماء والمفكّرين إلى أرض الميدان، ويعود الحركيّون دائماً إلى العلماء والمفكّرين بنتائج أعمالهم ليعدّلوا ويصوّبوا ويصحّحوا ويطوّروا المسار، فيحصل الإبداع والتميّز، فلا بدّ من تحالف أولي الأيدي مع أولي الأبصار، والله الموفّق.