تواجه أمتنا أزمات بالغة الخطورة منذ أربعة قرون على تخلّفها حتى عصرنا الراهن، وأبرز هذه الأزمات بحسب نظرية الدكتور السويدان خمس أزمات وهي:

-أزمة السلوك. 

-أزمة التخلّف. 

-أزمة الفاعليّة. 

-أزمة الفكر. 

-أزمة القيادة. 

لم يقف مفكرو الأمة موقف المتفرج إزاء هذه الأزمات التي تعصف بأمتنا، بل بذلوا جهودا مشكورة في سبيل معالجتها والتخفيف منها، لكن تلك الجهود كانت في أغلبها جهودا فردية، ومبادرات ذاتية محدودة التأثير في ظل تراكم مهول لتلك الأزمات على أمتنا، بالإضافة إلى وجود بعض المؤسسات الصغيرة التي تهتم بنهضة الأمة كمشروع النهضة التابع للدكتور جاسم السلطان مثلاً، لكن جهودها محدودة وتشخيصاتها للواقع تحتاج المزيد، لأن المساهمة في العمل النهضوي وانتشال الأمة من وضعها الراهن، يحتاج خطط شاملة، وخبراء في كل التخصصات للاستفادة منهم في عملية التشخيص ووضع الحلول المناسبة لكل أزمة، كما يحتاج إلى فرق عمل وتطبيق ما ينظّر له عمليا في مختلف البلدان والمدن، وهذا ما كان منتفيا لديهم، وهو ما جعل هذه المؤسسات الصغيرة محدودة التأثير والعمل. 

1- المأسسة 

نظراً لما تقدّم؛ وفي سبيل تطوير علاجات ناجعة، وحلول فعّالة لمواجهة تلك الأزمات والنهوض بالأمة، أصبح من الضروري مأسسة كل الجهود الفردية المبذولة لتنتظم في عقد واضح المعالم، يسير بخطوات علمية مدروسة، وبخطط عملية استراتيجية، وبأهداف واضحة محددة، منطلقا من دراسة الواقع واحتياجاته، والبحث عن حلول جذرية لمختلف مشاكله، ولكي تتضح الرؤية وتزول الغشاوة سنحاول من خلال هذا السؤال تعريف المأسسة.

ماذا نعني بالعمل المؤسسي أو مأسسة العمل؟

تأتي الإجابة من عبد الحليم محمد بلال بتعريفه للعمل المؤسسي بأنه "كل تجمّع يهدف إلى تحسين الأداء وفاعليته لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبيرة، وفريق عمل، وإدارات متخصصة؛ علمية، ودعوية واجتماعية، بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرارات في دائرة اختصاصها" [1] 

أي أن المأسسة نظام ينحو إلى تحقيق الأهداف المطلوبة، تبعا لعلاقة مترابطة ضمن منظومة إدارية ذات خطوط محددة محددة، وقيم ضامنة للاستمرار، والنمو والفاعلية. 

فالدور الفعَّال للنهوض بالأمة ومواجهة أزماتها الخمس ومعالجتها يمكن أن يتحقق ويكتمل في حال مُؤسِسَت كل الجهود، وانتطمت في مؤسسات متخصصة، لها أهداف محددة وواضحة تنفّذ من خلال خطط استراتيجية مدروسة. 

ولا يكفي إقامة المؤسسات بل يجب أن تكون فعّالة تقوم بالدور المنطوط بها والمسؤولية الملقاة على عاتقها. وليكن شعارها الأول كيف تقدّم مشاريع تسهم في نهضة المجتمع والأمة وتنميتها، فيربح الجميع، لا أن تتخذ التنمية شعار للتكسّب والربح المادي فقط، على حساب المشاريع الحقيقية التي تنهض بالأمة وتقدّم خدمات نوعية وملموسة. 

فالعالم اليوم في منافسة قوية جداً مع بعضه البعض، والبقاء دائماً ليس للأقوى بحسب المنطق الغابي، وإنما للأفضل والأكثر إبداعا وتجديدا ومواكبة للعصر واهتماماته وقضاياه. 

والعمل الجماعي والمؤسسي، تتلاقى فيه كثير من العقول وتتلاقح فيه الأفكار وتنضج، وتُحتَضَن فيه المشاريع وتنمو وتزدهر. 

وهو ما يفرض علينا أن نُمأسس العمل النهضوي، وذلك من خلال بلورة الأفكار في كل مجال من مجالات النهضة، بداية بالجانب النظري، وانتهاءً بالجوانب التطبيقية وهي الأهم. 

كيف نعمل على المأسسة؟ 

ووفقا لذلك يمكن أن نعمل على تأسيس مراكز بحوث ودراسات أو مؤسسات أو فرق عمل أو اتحادات أو تكتلات للمفكرين والمختصين والباحثين والمهتمين بقضايا نهضة الأمة الإسلامية وإعادتها إلى الواجهة. وتكون هذه المأسسة على مستوى العالم، فمثلاً على المستوى(الفكري) نقوم بإنشاء مركز أبحاث ودراسات أو مؤسسة عالمية، أو اتحاد عالمي للمفكرين المسلمين ينضوون تحته، فيقومون بتشخيص ودراسة مستفيضة وجادة لواقع وحال أمتنا اليوم، أين هي؟ وماذا تريد؟ وكيف ستصل؟ يسستخلصون أبرز القضايا والتحديات والأزمات الكبرى التي تعيق نهضتها وتقدّمها، وأبرز القضايا والمعوقات التي ستواجهها مستقبلاً، ومن ثم يقومون ببلورة حلول عملية مزمّنة لكل مشاكلها وأزماتها على كل المستويات، ويشركون معهم خبراء ومختصين في شتّى العلوم؛ كي يساعدوهم في وضع الحلول والخطط العملية المتكاملة لإنجاز مشروع النهضة. 

هذه المؤسسة الفكرية العالمية يمكن أن تتناسل منها مؤسسات أو فرق عمل تابعة لها في كل بلد عربي وإسلامي وفي كل البلدان التي تتواجد فيها الجاليات العربية والإسلامية. 

ويمكن لهذه المؤسسات التابعة لتلك المؤسسة الكبرى في مجال الفكر -كما أسلفنا- يمكن لها القيام بتشخيص واقع مجتمعها ومعرفة أبرز قضاياه ومشاكله والتحديات التي يواجهها، ثم القيام ببلورة حلول جذرية لكل مشاكله وأزماته، والبدء في تنفيذها قدر الإمكان. 

ويمكن لتلك المؤسسة على مستوى كل بلد أن تنشئ لها فرق عمل أو لجان أو مؤسسات تتبعها في كل محافظة أو إقليم أو مدينة، ويقومون بالعمل نفسه من تشخيص لواقهم ومعرفة أبرز أزماته ومشكلاته وتحدياته، وبلورة حلول ناجعة لها. مهم أن تكون كل تلك المؤسسات المتناسلة عن المؤسسة الأم مختصة، وتعمل في مجالها، وتكون مترابطة وفق هدف ورؤية واحدة وهي العمل على نهضة الأمة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل بلد، لكنها في الأخير تصبّ في صالح مشروع النهضة. 

ويمكن أن ينشئوا لكل أزمة من أزمات الأمة (الخمس) مثل المؤسسة الفكرية العالمية السابق ذكرها، وتتناسل منها مؤسسات أخرى على مستوى البلدان ومدنها، وتعمل ليل نهار في تشخيص أزماتها وحلحلتها والخروج بخطوات عملية تسهم في حل تلك الأزمات.

ويمكن أن ننشئ مؤسسة تختص بالتنظير وإيجاد الحلول لأزمة الفاعلية، وتنبثق منها العديد من المؤسسات الفرعية على مستوى البلدان العربية الإسلامية لمعالجة هذه الأزمة، وهكذا يعمل بمختلف الأزمات الأخرى، مؤسسة لمعالجة أزمة التخلف وتتفرع منها مؤسسات أخرى، ومؤسسة لمعالجة أزمة التخلف وتتفرع منها مؤسسات أخرى، ومثلها أزمة القيادة والسلوك، فيتم إنشاء مؤسسات مختصة ومحصورة على كل أزمة من الأزمات الخمس. وهكذا... 

وأعتقد أنه من خلال هذه المأسسة سيكون الإنجاز سريعا، والإسهام في نهضة الأمة مثمرا وفي وقت قياسي.

وخيرا فعل مؤسسو منصة عُمران للمشاريع وهي فكرة إبداعية ورائدة، لكن عليها أن تحاول الاستفادة من جهود ورؤى وأفكار من استطاعت من المختصين والمفكرين والمنظرين والخبراء والمهتمين بأزمات الأمة وقضايا نهضتها، وتسعى جاهدة إلى استيعابهم أو الشراكة معهم؛ لتصب كل الجهود في بوتقة واحدة هي مصلحة الأمة والنهوض بها. 

كما على هذه المؤسسة أن توسّع عملها وذلك بأن تنشئ لها لجان أو فرق عمل أو مؤسسات في كل البلدان والمدن المتاح لها العمل فيها.

صحيح أن هذه الجهود والأعمال تحتاج أموالاً طائلة، لهذا يأتي هنا دور تشكيل اتحاد أو مؤسسة أو هيئة لتجّار المسلمين أو قل لزكاة أموال تجار المسلمين الحريصين على نهضة أمتهم، على مستوى البلدان والمدن التي يتواجد عليها المسلمون، ربما لا تكفِ أموالهم، لكنها بكل تأكيد ستسهم في نجاح تلك المشاريع وبقوة. 

أفهم أن التنظير شيء والواقع شيء آخر، لكن من العجز أن نبقَ مكتوفي الأيدي وعاجزين عن تقديم شيء ينهض بأمتنا، ربما يكون أقل القليل وجهد المقل، أن ننشر ونعمم ثقافة مشروع النهضة وإعادة الأمة إلى الواجهة من خلال منصة عمران الرائدة وغيرها. 

2- إيجاد كتلة صلبة

وهناك طريق آخر للنهضة وهو إيجاد كتلة صلبة من الموهوبين والمبدعين والمتفوقين وذلك عن طريق التنقيب عنهم ورعايتهم وتدريبهم وتأهيلهم كي نصنع منهم قادة ينهضون بمجتماعتهم وأمتهم. 

إن التركيز على نوعيّات الرجال ومعادنها الأصيلة وموهوبيها ومبدعيها وصناعة منهم قادة يقطع شوطا كبيرا نحو النهوض، ويوفّر جهوداً وأوقاتا ربما تدّخر لأشياء أخرى. 

إن القفزات النوعيّة والتطور الملحوظ لأي بلد قديماً أو حديثاً لم يقم به أناس عاديين، بل قامت به نوعيّات نادرة من الرجال الأفذاذ، وقادة موهوبون اختصروا كثير من الجهود والمراحل، فنهصوا ببلدانهم وشعوبهم، وأبسط الأمثلة على ذلك (ليك وان يو) قائد نهضة سنغافورة، و(مهاتير محمد) قائد نهضة ماليزيا، و(أردوغان) قائد نهضة تركيا وغيرهم كثير. 

لا يعني هذا أنهم صنعوا هذه النهضة بمفردهم أبدا، لأن الفرد مهما كانت قدراته لا يمكن أن ينجز كل شيء بمفرده، بل يحتاج إلى جهود الآخرين ويستعين بخبراتهم ويوظف كفاءتهم ويستثمرها. 

لكن الفرد الموهوب والمبدع يكون له الدور الأكبر في رسم السياسات الصحيحة وإدارة الموارد بكفاءة وتوظيف القدرات بشكل أمثل مما يعود بالنفع والفائدة على الجميع. 

لذلك تحتاج الأمة الإسلامية لتعبيد طريق النهوض إلى تلك النوعيّات من الرجال والكفاءات لصنع الفارق ومسابقة الزمن للنهوض من جديد. 

ولن يتمّ ذلك إلا من خلال إنشاء مؤسسات لرعاية الموهوبين والمبدعين وصقل مهاراتهم وتأهيلهم واكتشاف قدراتهم وتوجيههم لدراسة ما يرغبون به ويتوافق مع قدراتهم؛ ليصبحوا قادة المستقبل في كل المجالات والبلدان.

وكذلك العمل على استيعاب الكثير من المبدعين والموهوبين والكفاءات المهاجرة في أصقاع الدنيا والاستفادة منهم وتفعيلهم كل في مجاله فيما يخدم نهضة الأمة وريادتها، هاتان الطريقان -حسب وجهة نظري- مهمتان للغاية للإسهام في تحقيق النهوض لأمتنا.