لا أعتقد أن أي منا يقوى على التعليق على المشاهد المروعة الخارجة من أقبية، ودهاليز، سجون الطغاة. لا نملك تجاهها إلى دعاء الله ﷻ أن ينتقم من الظالمين، ومن عاونهم، وكل من دق مسمارًا، أو وضع حجرًا فوق حجر لبناء تلك المعتقلات اللعينة، وأن ندعو على كل من امتدت يده بسوء إلى بريء مُستضعف. وفي ظل انتظار ملاحقة هؤلاء، وتقديمهم لعدالة الأرض، والسماء، يتحتم على كل منا أن يسارع في الإسهام بكل ما يملك لدعم الناجين من تلك المسالخ البشرية، وتقديم العون لذويهم كي يستطيعوا أن يعتنوا بهم قدر المُستطاع. لا وقت نهدره في التحسر، أو انتظار مؤسسات الدولة أن تنتظم، وتبدأ العمل. وعليه، وبدون مقدمات لا أقوى على كتابتها، جمعت لكم من مصادر رسمية، ودولية متعددة بعض أهم النقاط للتعامل مع الناجين من التعذيب، والاعتقال. بالطبع هذه الورقة لا تكفي، ولا تغطي وسائل العناية ببناتنا الشريفات المُغتصبات، وأطفالهن. لكنها نقطة انطلاق نحو مزيد من الأوراق التي يمكن تحويلها لمقاطع مرئية، وتصاميم بصرية، وبرامج تدريبية تُدمج في برامج التأهيل التي يستخدمها المتطوعون، والمختصون على الأرض لتوعية المجتمع الحاضن لأحبّتنا العائدين من الموت. فكلنا أهلٌ لهم، وكلنا مسؤولون عن محاولة إعادتهم للحياة. ولنبدأ بالأساسيات.
توسيع نطاق تعريف التعذيب
إن التجربة المروعة التي مر بها أبناؤنا، وإخوتنا، وأخواتنا في سجون الطاغية، لا ينبغي أن تُختزل في فكرة العنف الجسدي تجاههم فقط على بشاعته. فالتعريفات الدولية للتعذيب تشمل العنف الجسدي بكل أشكاله، ولكنها تشمل أيضًا جميع صور التعذيب النفسي، والتي من أمثلتها:
- العزل الانفرادي
- الاعتداء اللفظي، والإهانة الجنسية، وإجبار الشخص على التعري لفترات طويلة
- الحرمان من الغذاء، والنوم، الوسائل الآدمية للمعيشة، وقضاء الحاجة
- إجبار الشخص على مشاهدة تعذيب الآخرين، أو المشاركة في إيذائهم
- الإعدامات الوهمية، وإدخال الشخص في خبرات تسبق الموت بلحظات عن طريق الخنق، أو الإغراق بالماء، أو جعله يحفر قبره بنفسه، أو إخباره بموعد وهمي لإعدامه، وتركه يظن انقضاء أجله. يقول بعض من تعرضوا لهذا النوع من التعذيب أنهم كانوا يتوسلون للجلادين لأنهاء حياتهم بالفعل بدلاً من ذلك الترقب للموت. كما قالوا إن أثر تلك الممارسات تركهم يشعرون أنهم ماتوا بالفعل، وأن ذكريات تلك الممارسات تزورهم في كوابيسهم، فيعيشونها من جديد.
- الإذلال الديني، وإجبار الشخص على الإتيان بأفعال تخالف معتقداته الدينية
- الحرمان من المؤثرات الحسية كالضوء، والهواء، وتقييد الحركة، والحرمان من الرعاية الطبية
- التعريض العنيف للمؤثرات الحسية كالضوء الساطع، والضوضاء المستمرة، وسماع الصراخ
- التهديد الشخصي، أو التهديد بإيذاء الأهل
كل هذا وغيره يدخل ضمن نطاق التعذيب، والذي يمكن أن تكون آثاره أقوى أثرًا، وأطول استدامةً من التعذيب الجسدي. يجب عدم الاستهانة في التعامل مع نتائج أي أنواع التعذيب النفسي، كما لا يُستهان بآثار التعذيب الجسدي.
نتائج التعذيب، والأعراض التي ربما تظهر على الناجين
يختلف كل ناجٍ في النتائج، والأعراض التي تظهر عليه، بل وفي طرق التعافي أيضًا. يرجع الأمر لعوامل كثيره منها:
- ما يتعلق بالشخص نفسه كالعمر، والبنية الصحية، والنفسية، والنوع، وقوته النفسية (مستواه الإيماني).
- ما يتعلق بالتعذيب، وأدواته، وأشكاله، ومدته، وتكراره
- ما يتعلق بالسياق الذي يخرج إليه الناجي، ومدى أهلية الحاضنة حوله، والمناخ السياسي الذي يسمح، أو لا يسمح بمعاقبة المجرمين، وتقديمهم للعدالة، مما يساعد الضحايا على محاولة التعافي. وهذه النقطة كانت طوق نجاة لي عندما وجدتها لأنها تفتح بابًا لمساعدة الناجين، من وجهة نظري بإذن الله. ولكني سأتركها لنهاية الورقة.
بناءً على كل ذلك، يمكن تقسيم نتائج التعذيب إلى ما يلي:
- الإعاقات البدنية الناجمة عن التعذيب الجسدي، والتي ستحتاج خدمات، ورعاية مؤقتة، أو دائمة للشخص لمساعدته على الاستقلال الجسدي قدر الإمكان، والانخراط في الحياة في وقتٍ ما بعد التعافي.
- الآلام الجسدية المؤقتة، والمزمنة الناجمة عن التعذيب الجسدي، والألم النفسي الذي يظهر في صورة آلام جسدية.
- المشكلات الصحية الناجمة عن سوء التغذية، والحرمان من العناية الطبية، وتراكم الأمراض.
- شرخ الصورة عن النفس، وعن الهوية، والأمراض النفسية الناتجة عن عمليات التعذيب الجسدي، والنفسي الممنهج.
- يتبع كل ذلك نتائج متداخلة تراكمية على الشخص جراء كل ذلك كأن يخرج من الجحيم فاقدًا لمؤهلات التعلم، والعمل، وبناء أسرة، وما إلى ذلك.
من المهم فهم جميع الآثار التي يمكن أن يتركها التعذيب على الشخص متفرقة، أو مجتمعة لنفهم كيف يمكن أن نقدم الدعم للناجي فيما يتعلق بكلٍ منها. تحديد النتائج، يسمح لحاضنة الناجي بتحديد أنواع الخدمات، والرعاية، والجهود التي يحتاجها، وهذه خطوة أولى مهمة لرسم خطة العناية به.
كما تتفاوت الأعراض التي تظهر على الناجي كما يلي:
- استنفار المشاعر، وسهولة استثارة الفزع حتى في سياقات قد تبدو عادية
- القلق، والخوف، وربما التشكك في الآخرين
- الهلاوس، والانفصال عن الواقع
- نوبات من الغضب، وحدة المشاعر، ونوبات الهلع
- صعوبات النوم، وتكرار الكوابيس، واسترجاع الذكريات المؤلمة flashbacks
- صعوبة التركيز، والنسيان المتكرر
- صعوبة القيام بالأعمال اليومية الروتينية كالعناية بالنفس
- صعوبة تقدير الوقت، والاحساس به (لمن تم احتجازه في أمكان ضيقة لا يدرك فيها مرور الزمن)
- ضعف مهارات التواصل مع الآخرين، والانسحابية، والميل إلى العُزلة
- محاولات إيذاء النفس، والميول الانتحارية
يمكن أن تظهر واحدة، أو أكثر، من تلك الأعراض على الشخص. تكون أول خطوة يتخذها المعتنون به أن يوثقوا الأعراض عند حدوثها، كي يعرضوها على المختص النفسي الذي سيكون موكلاً بتقديم الدعم النفسي له. كما يكون عليهم تعلم مهارات التعامل مع كل عرض يظهر على الناجي.
إجراءات، وممارسات يجب على حاضنة الناجي مراعاتها
1) تأكيد الأمان، والخصوصية
- طمأنة الناجي أنه لن يؤذيه أحد، وأنه في أمان، وأن زمن الإيذاء قد انتهى بلا رجعة إن شاء الله.
- التحرك ببطء في محيطه، وعدم القيام بحركات مفاجئة سريعة.
- التأكيد على الخصوصية وعدم إفشاء ما قاله، أو قصّه للأهل المقربين، والأصدقاء.
- الانتباه لحساسية تفاصيل ما مر به الناجي، وأنه ربما لا يود مشاركته مع أقرب الناس إليه. يجب عدم الإلحاح عليه في أن يقص تفاصيل ما حدث له، أو سؤاله عما إذا كان تعرض لشيء محدد أو لا. كما يجب حماية الناجي من طلبات الأحاديث الصحافية، واللقاءات المصورة، وتسليط الكاميرات، والأضواء على وجههم. بعض الناجين قد يود الإفصاح عن كل شيء، وإبلاغ العالم بما حدث له كنوع من التخلص من ذلك الحجر الجاثم على صدره. لكن البعض الآخر ربما يشعر بالخزي، والعار، ولا يود إعادة سرد أي مما حدث له. يجب محاولة استشفاف رغبة الناجي، واحترامها تحت أية ظروف.
- توفير احتياجاته، وعدم الشكوى أمامه من أيه مخاوف أو من ندرة الموارد. ينبغي أن يشعر الناجي بأمان موارده، وبيئته، والتفاف أحبابه حوله، وأنه لن يفقد أي منها وأنه لا ينبغي أن يقلق من نقص المال، أو الطعام، أو ضياع المأوى، أو أي شيء يحتاجه.
- إزالة أية مؤثرات مقلقة في محيطه قد تشبه أدوات التعذيب، أو الإيذاء كالحبال، أو الأدوات الحادة.
- طمأنة الناجي بأن كل شيء سيكون على ما يُرام بإذن الله وأنه سيكون لديه أوراقه الثبوتية التي يحتاجها للحصول على أي خدمات حكومية، أو صحية، أو مالية، أو قانونية يحتاجها. كذلك طمأنته من ناحية أي شيء يمكن أن يقلق بشأنه كضياع سنوات دراسته مثلا، وفرصته في التعليم.
- خلق مناخ آمن، خالي من إصدار الأحكام، يرحب بالاستماع لكل ما يود الناجي مشاركته طواعية، وطمأنته بأنه مهما كانت تفاصيل ما يشاركه، لن يتخلى عنه أحد، أو يصدر حكمًا عليه، أو يحتقره، أو يهينه، أو يسخر منه.
2) توفير مناخ مناسب للتعافي حول الناجي، ومراعاة المثيرات حوله
- الحرص من عدم تقديم مؤثرات سمعية، وبصرية، وحسية عديدة في محيط الناجي. حتى ولو كانت ضمن مظاهر احتفالية كالزغاريد، والأناشيد.
- الانتباه لأية مؤثرات مفزعة حتى وإن كانت غير متوقعة. على سبيل المثال، بعض جرائم التعذيب تتم بإشراف أطباء. ربما تثير رؤيةُ أية مُعدات طبية أو صور لها ذعرَ الناجي. لذا وجب الانتباه لذلك عند احتياج الناجي للرعاية الطبية. في مثال آخر، إذا كان الناجي قد تعرّض للتعذيب عن طريق الكلاب، أو القوارض، والحشرات، يمكن أن تسبب له رؤية الحيوانات الأليفة، أو كلاب الشوارع ذعرًا.
- الحفاظ على بيئة ثابتة حول الناجي بدون متغيرات كثيرة، حتى لو كانت متغيرات في ترتيب قطع الأثاث.
3) تأكيد سيادة الناجي على حياته، وجسده بعد أن أفقده الاعتقال هذه السيادة
- الحرص على عدم التطفل على المساحة الشخصية للناجي، أو التطفل على جسده باللمس، حتى لو كان للاحتضان أو العناية الشخصية. يجب استئذان الشخص قبل لمسه لتغيير ضمادات جرح على سبيل المثال. يجب شرح الأمر للأهل والأصدقاء أيضًا وعدم الاكتراث بأي لوم أو انتقاد منهم حيث يصبح الناجي هو الأولوية الوحيدة.
- شرح أي إجراءات يحتاج المختصون القيام بها بالتفصيل للناجي. مثلا "سأقوم الآن بقياس درجة حرارتك. " أو "سأضع الآن ضمادة على ذراعك وستشعر ببعض الضغط المؤقت، لكن لا تخف سيزول بعد ثوان".
- سؤال الناجي، واستئذانه قبل عمل أي شيء يتعلق به،
- أخذ رأيه في الأمور المتعلقة به مثل متى يود أن يأكل، وماذا يحب أن يأكل، وهل يود مقابلة فلان الذي جاء لزيارته أو لا، وما إلى ذلك.
- الاستئذان قبل الدخول عليه.
- سؤاله عن طرق الدعم التي يفضلها.
- مساعدته على فهم الموارد المتاحة له، والفرص التي يمكنه الاستفادة منها كحلقات الدعم النفسي، وما إلى ذلك، مما يعطيه خيارات، ويقلل من شعوره بقلة الحيلة.
- عدم الإلحاح عليه لعمل أي شيء لا يريده. يجب تشجيعه بلطف، وتركه وشأنه إذا لم يستجب. يمكن تجربة طرق أخرى لتحفيزه لاحقًا.
4) بعث الأمل، والتركيز على المستقبل
- طمأنة الناجي بأن الأعراض التي يتعرض لها هي ردة فعل لما لاقاه من أهوال، وأنها يمكن التعافي منها بإذن الله.
- بعث الأمل في نفسه بأن كل ما يتعرض له هو أمر مؤقت، وأنه يمكن تجاوز هذه الأزمة.
- تجنّب عبارات التحسر، والحزن، مثل "يا ليت والدك عاش ليراك مرة أخرى"، وأي شيء من شأنه بعث الحزن، والانهزامية في نفسه.
- التركيز على المستقبل، والأمل، والتفاؤل بالتعافي مع مرور الوقت بإذن الله بدون إعطاء وعود زائفة أو غير صادقة.
- تجنب كل ما قد يثير إحباطه كأن يتم وعده برحلة أو بشيء يتمناه، ثم يتم تغيير الخطة لأي سبب.
- تشجيعه على الانخراط التدريجي في أنشطة كان يحبها سابقًا كلعب كرة القدم، أو السباحة. لكن مع الحذر من أن تكون تلك الأنشطة، وسياقاتها خالية من المؤثرات التي تزعجه.
5) مساعدة الناجي على ترتيب حياته، وعمل نظام لها
- مساعدة الناجي على التمارين البسيطة، والحفاظ على نظام غذائي صحي، والحصول على قسط وفير من الراحة كي تتحسن صحته العامة، وتزيد ثقته بالقدرة على التعافي، والقدرة على الاستقلال عن مساعدة الآخرين، وتجنبه الآثار السلبية لتدهور الحالة الصحية.
- مساعدته على الحفاظ على روتين يومي بقدر المستطاع. البيئة الثابتة، والأحداث المتوقعة، تساعد الناجي على الشعور بالأمان، والاستقرار، وبعض الطبيعية. يشمل ذلك تشجيعه على الحفاظ على عدد وافي من ساعات النوم.
6) التعامل الرحيم بشكل عام، وملاحظات عامة
- تجنب البكاء، والانهيار على حاله أمامه.
- على المحيطين بالناجي الإقرار أمامه بمعاناته، وتصديقه عندما يتحدث عن الأهوال التي مر بها، وعدم إبداء أي استنكار، أو الإيحاء له بأنه يبالغ، وعدم التهويل أيضًا مما لاقاه.
- تجنّب الانفعال بحزن شديد، أو جزع شديد بما يحكيه الناجي عما تعرض له.
- عدم إظهار أي اشمئزاز أو إشعاره بالإحراج إذا كانت لديه حركات لا إرادية أو تبول لا إرادي على سبيل المثال.
- لا تدخل في مناقشات حادة أو جدل معه حول أي موضوع.
- تحمّل شكوكه، واتهاماته إذا اعتقد أن من حوله يحاولون إيذاءه. ينبغي أيضًا التعامل بشفافية، وصدق مع الناجي لتجنب إثارة شكوكه، وتجنب الأنشطة المريبة حوله كالهمس أو قطع الحديث عند دخوله للغرفة. وإذا زادت الشكوك، واجه الناجي بالحقائق بلطف حتى لا يتمادى في تخيل السيناريوهات المخيفة له.
- ملاحظة دائرة علاقات الناجي، ومراقبة تصرفاته بحكمة لحمايته من الوقوع في أي فخ للقيام بأعمال انتقامية، أو إيذاء نفسه، أو الوقوع في دائرة الإدمان.
- مراعاة أنه قد تكون قناعته الإيمانية قد تأثرت سلبًا بسبب الظلم الذي تعرض له. يجب عدم لومه على عدم الالتزام بالصلاة مثلا، أو تقريعه إذا عبّر عن أفكار فيها لوم للدين، أو للخالق ﷻ حاشاه.
- مراعاة التدريج، والهدوء في التعامل معه بشكل عام.
كانت هذه ملامح للتعامل بشكل عام. الآن نستعرض بعض المشكلات المحددة، وبعض الإضاءات للتعامل معها. مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التعامل مع المختصين أيضًا.
التعامل مع نوبات الغضب
- ابق هادئًا.
- ساعد الناجي (إن أمكن) على التنفس بهدوء، وعمق.
- حاول تشتيت ذهنه بقدر الإمكان عن الحالة الحالية.
- اقترح عليه شيئًا حركيًا كالصلاة، أو التمارين البسيطة، أو أن تعرض عليه الذهاب في جولة مشي قصيرة في مكان هادئ خالي من المؤثرات المؤلمة أو المزعجة.
- ذكّره بأن النظام الذي قام بتعذيبه قد سقط، وأن هناك إجراءات لمعاقبة من نفذوا الإيذاء.
الانفصال عن الواقع، والتعرض للـ flashbacks
- ساعد الناجي على معرفة الوقت، والتاريخ دوريًا إذا وجدت أنه ينفصل أحيانًا عن الواقع
- ذكّره باستعادة معلومات عن الأسرة عن طريق تصفح صور العائلة، مع الابتعاد عن الصور التي يمكن أن تثير الحزن، كصورة شخص متوفى.
- في الأوقات التي لا يعاني فيها الناجي من النوبات، ساعده على فهم أن تلك النوبات نتيجة متوقعة لما مر به من أهوال، وأكد له أنها شيء مؤقت، وليس خطيرًا، ولا تعني أنه سيُصاب بالجنون لا سمح الله.
- ساعده على فهم أن تلك النوبات تزول بعد دقائق أو ثوان معدودة بإذن الله، وأنه يمكنه أن يحاول تشتيت ذهنه عنها.
- تجنب الصراخ في وجهه أو محاولة هزّه بعنف كي يستفيق من استعادة الذكريات. يمكن أن يزيد هذا من فزعه، ويعتقد أن جلاده يهاجمه من جديد.
- حاول لفت انتباهه بهدوء، أو أن تطلب منه أن ينظر في عينيك، ويركز معك، أو لفت انتباهه لشيء ما في الغرفة أو من النافذة.
- يمكنك الاستئذان لمعانقته، أو الإمساك بيده. يعتمد هذا أيضًا على معرفتك بما يريحه، أو يزعجه، كأن تكون على علم أنه ينزعج عند لمسه بشكل عام.
مشاعر الذنب – عقدة الناجي
- ساعد الناجي أن يفهم أن نجاته، ليس لها علاقة بهلاك الآخرين.
- إذا كان قد أُجبر على مشاهدة أو على الاسهام في إيذاء الآخرين، ساعده على أن يفهم أن هذا كان خارجًا عن إرادته، وأنه لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن تلك الأفعال، أو على السلبية، وعدم مساعدة الآخرين الذين يتعرضون للإيذاء.
- ساعده على فهم أن إجباره على مشاهدة الإيذاء أو المشاركة فيه هو ذنب الجلاد، وليس ذنبه هو، وأن الأمر كان مقصودًا للإمعان في إيذائه، وعليه أن يحاول أن يتخلص من سيطرة هذا الجلاد عليه حتى بعد أن انتهت ظروف الإيذاء.
إيذاء النفس، والميول الانتحارية
- لا يجب ترك الناجي وحده إذا بدرت منه بوادر إيذاء النفس، أو ميول انتحارية.
- يجب إبعاد أية مواد أو أدوات يمكن أن يؤذي بها نفسه.
- حاول تشتيت ذهنه عن اللحظات الخطرة.
- استمع له، ولا تُشعره بأنه يفقد عقله، أو يتصرف بجنون.
- شجّعه على إيجاد معنى في معاناته، وتحويلها لفكرة نجاة، وانتصار، وتعافي
- حاول زيادة الخبرات الإيجابية في حياة الشخص كتعبير الآخرين عن الحُب له، وتأكيدهم له أن التعافي ممكن، وخلق فرص للنجاحات البسيطة.
صعوبات النوم
- اقناع الناجي بقدر الإمكان بالابتعاد عن المنبهات التي قد تزيد درجة الاستثارة لديه.
- التأكد من أن صعوبات النوم لا تعود لأسباب عضوية، أو الآم.
- مساعدته على المحافظة على نظام يومي ثابت، ومنظم بمواعيد نوم، واستيقاظ ثابتة حتى إذا تأخر في النوم.
- تشجيعه على تجنب أخذ قيلولة أثناء اليوم.
- إزالة كل المشتتات، والمؤثرات المزعجة أثناء النوم كإشعارات الجوالات، إيقاف الساعات التي تدق على رأس كل ساعة، وما إلى ذلك.
- الحفاظ على بيئة نوم هادئة المؤثرات السمعية، والبصرية.
- عدم استخدام مكان النوم للأنشطة الأخرى كي يرتبط بالراحة، والاسترخاء.
- تقديم المشروبات العشبية الدافئة قبل النوم للمساعدة على الاسترخاء.
- تجنب العقاقير المنومة التي قد تؤدي إلى اعتمادية الشخص عليها، أو الوقوع في الإدمان.
تلخيص للخطوات العامة لدعم الناجين
- تحديد نوع المشكلات، والأعراض التي يعاني منها الناجي. يشمل هذا توثيق الأعراض، ومرات تكرار حدوثها، واقترانها من عدمه ببعض المؤثرات. تكون هذه الخطوة مهمة لاكتشاف المواقف التي تستثير الأعراض، وبالتالي يمكن تجنب تلك المواقف.
- تحديد نوع المختصين، والخدمات، ونوع التدخل الذي يحتاجه الناجي بناء على تلك المشكلات. على سبيل المثال، ستحتاج الإعاقات الجسدية إلى توفير أدوات معينة كالكرسي المتحرك، أو تجهيز المنزل بطريقة بمعينة تساعد الناجي على الحركة. كما قد يحتاج الأمر إلى أخصائيين في العلاج الطبيعي، وإلى التقديم على التأمينات الاجتماعية الخاصة بالمعاقين. تنظيم قائمة بالمشكلات، والإخصائيين، والخدمات المطلوبة للتعامل معها سينظم حياة الأهل، ويساعدهم على ترتيب الأولويات، وعدم إغفال أية خدمات مهمة، أو تأخير الحصول عليها، مما يضمن توفير الدعم الشامل للناجي بإذن الله.
- عمل خطة تعامل لكل نوع من المشكلات، والأعراض. كما تقدم. فظهور أعراض انتحارية، سيستدعي أن يكون هناك من يرافق الناجي باستمرار، وإزالة أي أدوات يمكن أن يستخدمها الناجي لإيذاء نفسه. تشمل الخطة توثيق لمحاولات التعامل مع كل مشكلة، وردة فعل الناجي تجاه هذا الحل، وتوثيق ما نجح، وما لم ينجح.
يعني هذا أن حول كل ناج، يجب أن تتوافر دائرة دعم متعددة المستويات، بحيث يتوافر حول كل ناج ما يلي:
- أن يكون هناك من يرافقه دومًا للعناية به، وتقديم الحب، والاهتمام، والرعاية له. على الأغلب يكون هذا المستوى خاص بالوالدين، والأخوات، والإخوة ومن يثق بهم الناجي، ويطمئن بوجودهم.
- ثم يكون هناك على مستوى ثاني، من يقوم بالتحرك اللوجستي لحجز المواعيد، والحصول على الخدمات المطلوبة. يمكن أن يكون هؤلاء الإخوة الرجال، أو أبناء العمومة، والخالات، والأصدقاء المقربين، والعائلة الأكبر.
- ثم تكون هناك شبكة دعم مجتمعية تتواصل مع ذوي الناجين لتقديم كل أنواع التدريب، ومستلزمات التأهيل، وغيرها من الخدمات. كما تقدم هذه الشبكة تغذية راجعة للمسؤولين، والمختصين فيما يتعلق بما تحتاجه تلك الأسر من خدمات، وموارد، وربما قوانين أيضًا. وربما من المناسب أن يساعد متطوعو هذه الشبكة عائلات الناجين في تحديد الحاجات، وكتابة خطة العمل. وهذا أمر ضروري لأنه من المتوقع أن تكون الأسر مُستهلكة وجدانيًا، وجسديًا، ولا تملك رفاهية التفكير المنظم، والتخطيط.
كما يجب التأكيد على الأهل، والأصدقاء بضرورة الالتزام بجميع تلك الإجراءات عن التعامل مع الناجي.
إضاءات أخيرة
من المهم ضبط البوصلة قبل التعامل مع الناجين من التعذيب العائدين من الجحيم. أحيانًا يتم تقليص تجربة التعذيب في عين الناجي إلى كونها لحظات بين طرفين أحدهما هو "الوحش" المريض نفسيًا، و"البطل" الضحية الذي يتلقى التعذيب بجسارة، ويتم استهدافه بسبب أهميته، وأهمية المعلومات التي يمتلكها. يحذر بعض المختصين من تبني عقلية "الوحش"، و"البطل" The hero and the psychopath لأنها تجعل من واقعة التعذيب سياق فردي بين شخصين، واستهداف شخصي لأهمية الضحية. بينما يقترح المختصون أن واقعة التعذيب هي فعل مؤسسي مُمنهج يُمارس على أشخاص "عاديين" في الغالب بهدف ترويع عموم الجماهير، وإسكات أصوات الجميع. يساعد هذا التوضيح الضحيةَ على فهم المعركة الكبرى، وأنها ليست مع شخص قام بالتعذيب (على بشاعة إجرامه، وضرورة محاكمته)، بل هي مع نظام مؤسسي ينتهج هذه المُمارسات.
كما أن التعذيب يهدف إلى إسكات الإنسان، وإلغاء إحساسه بنفسه، وهويته وصوته المستقل، وإلغاء آدميته. وفي هاتين النقطتين الأخيرتين، تكمن رسالتي الأخيرة. لقد سردت في بداية الورقة أن تعافي العائد من الجحيم يعتمد على عوامل عِدة، لا نستطيع التحكم في أولها (عمر الناجي، ونوعه، وقوته النفسية)، ولا في ثانيها (نوع التعذيب الذي تعرض له، وحدّته، وكثافة تكراره). لكننا نستطيع أن نصنع شيئًا إيجابيًا من ثالثها (المناخ السياسي للمجتمع الذي خرج إليه العائد من الجحيم).
هنا تترابط كل الخيوط لرسالتي الأخيرة. إن المناخ السياسي لسوريا الجديدة التي خرج إليها العائد من الجحيم، يمكننا استغلاله لتشجيع الناجي على تبني عقلية جديدة، أهم ملامحها:
- أن معاناته الجسيمة التي لا يصدقها عقل، كانت سببًا مباشرًا في تحرير بلد بأكمله، وسيكون لها تداعيات إيجابية أخرى في العالم كله بإذن الله. فنحن لا نخدع الناجي عندما نؤكد له أنه من أجله تحركت الجيوش حرفيًا لتحريره. ومن أجله لم ينم المتطوعون لقلب كل حجر في تلك السجون القبيحة بحثًا عنه! ومن أجله تأرقت عيون الشرفاء العرب في العالم كله (وربما المتابعين من غير العرب أيضًا) ترقبًا للحظات فتح أبواب تلك المسالخ البشرية لخروجه! ومن أجله انهمرت دموعنا بلا حساب، والتزمنا الدعاء لسلامته، وترقبنا لحظات عودته لأحضان محبيه! ومن أجله تحررت سوريا، وأقسم أبناؤها على ألا تعود لسابق عهدها بإذن الله.
- أن معركته لم تكن مع جلاد واحد أو وحش واحد قام بتعذيبه، ولا عدة جلادين، بل مع نظام كامل من الوحوش المفترسة التي تم إسقاطها من أجله! فقد ربح هو المعركة بفضل الله.
- أن عذابه الذي لا توجد كلمات لوصفه أدى إلى تحرير بلده، وبذلك توقف الاعتقال التعسفي، وتوقف التعذيب، ولن يمر أحد بما مر به مرة أخرى على هذه الأرض بإذن الله. فإذا استطاع أن يحوّل هذه المعاناة في عقله، وقلبه إلى معنى، ورسالة، ومعجزة أدت إلى انتهاء منظومة الظلم، والقهر تلك، سيساعده ذلك على التعافي بإذن الله.
- أن معاناته الجسيمة الآن، وفي ظل المناخ السياسي الجديد (أدام الله ﷻ أركان حريته) أظهرت بشاعة جلاديه، وأثارت غضبًا يطلب الثأر منهم بلا رحمة. فعليه أن ينام قرير العين أن من آذاه لن ينجو بفعلته لا في الدنيا، ولا في الآخرة بإذن الله.
- أن من فعل به كل هذا قد تعمّد إلغاء هويته، وكيانه، وإسكاته، وإفقاده آدميته، وفاعليته. فإذا أراد حقًا أن يهزمه، عليه أن يخرج بنفسٍ جديدة يعيد بناءها، ويخرج للعالم بها يصنع سوريا الجديدة مع من حاربوا لأجله. بل ويكون شاهدًا على جرائم الذئاب، داعمًا للناجين الآخرين، مناهضًا لكل أشكال الإيذاء في المجتمع. يمكنه أن يختار أن يُعلي صوته الذي أراد الجزار إسكاته. وأرجو أن يفعل. أرجو أن يقرر التعافي كي نتعافى نحن.
هذه النقاط ليست أوهامًا أو خداع للنفس، بل هي نقاط علمية تأسس على أساسها علم الـ logo therapy أو العلاج عن طريق المعنى الذي أسسه "فيكتور فرانكيل" Viktor Frankel بعد خروجه ناجيًا من محارق النازية. فقد أدرك أن ما أنقذه، وأنقذ غيره من الانهيار، والاستسلام، والانتحار هو تحويل "الألم" إلى "معنى" و"رسالة". فخرج، وتعافى، بل وأسّس علمًا ليساعد غيره على التعافي.
كان هذا ملخصًا لكلام العلم، والمنطق. لكني أختم أن ما حدث لهؤلاء الأبرياء، لا منطق فيه، ولا ينبغي أن يمر بلا مُحاسبة لكل شخص تجرأ على الأبرياء المُستضعفين، وأستقوى عليهم منفردًا بهم في أقبية الجحيم فأنهكهم، وأنهك قلوب ذويهم، وأذاب قلوبنا ألمنا، وغضبًا عندما انفضح جُرمه. لكن لهذا القول مقام آخر في محكمة الدنيا، ومحكمة الآخرة. وعند الله ﷻ تجتمع الخصوم. فحسبنا، وحسبهم الله، ونعم الوكيل.