للعلم والمعرفة مفاتيح متعدّدة، من أبرزها القراءة والسؤال. بل إنَّ السؤال يُعدّ الأداة الاستراتيجيّة في كسب المعارف والعلوم.
وعندما قيل لابن عبّاس رضي الله عنه: بم نلت هذا العلم؟ قال: بقلبٍ عقول، ولسان سَؤول. بل إنَّ السؤال المنهجيّ هو الذي يحرّض على القراءة، ويولّد ذلك الحافز على البحث والاطلاع والتعلّم.
وفي بيئات التعليم المتقدّمة يعدّ السؤال الذكيّ أحد أهمّ المؤشّرات التي تدلّ على تفوّق الطالب ونباهته. ولو تأمّلنا إبداعات العلماء والمفكّرين والعظماء وابتكاراتهم واجتهاداتهم، لوجدنا هذه الاكتشافات والآراء والمنتجات الإبداعيّة كانت مسبوقة بقلق معرفيّ، والذي ساهم في تشكيل هذا القلق أو ربّما شكّله بالكُلّيّة هو "السؤال العميق". سؤال عن حلّ لمشكلة لم تحلّ بعد، أو حلّ لمشكلة بطريقة أسهل وأجود من الحلّ الموجود المعروف.
لا أبالغ حين أقول إنَّ طرح الأسئلة الذكيّة هو أحد أهمّ طرق الفهم والاستبصار، لأنّه يحفِّز على التأمّل والتفكير المنهجيّ العلميّ.
فعلى صعيد النهضة مثلًا، كان السؤال الذي يؤرّق العلماء والمصلحين هو ذلك السؤال القديم المتجدّد: "لماذا تخلّف المسلمون، وتقدّم غيرهم؟!" وهذا السؤال هو الذي شكّل الأفكار والأطروحات والآراء لديهم.
فالتساؤل كان عن: السبب الذي جعل أمّة الإسلام متخلفة عن ركب الحضارة والعلم والتكنولوجيا الحديثة؟
هل كان ذلك بسبب قصور ذاتيّ لدى أبناء أمّة الإسلام؟ أو أنَّ ذلك بسبب مؤامرة عليهم من الغرب والشرق حتّى لا ينهضوا؟
وهذا السؤال العميق جعل بعض النخب المثقّفة تتساءل، ما هي الحضارة؟ وما هو التقدّم بالأصل؟ وهل فعلًا نحن متخلّفون؟!
لا أريد هنا أن أسوق الآراء والاجتهادات أو شرحها، ما يهمني الآن هو التركيز على المحفّز الأصل والأساس الذي شكّل لديهم هذا القلق المعرفيّ.
أستطيع أن أقول: إنَّ السؤال والتساؤل لا يموت ولا يندثر في بيئات العلم والتطوّر، ولكنّ السؤال يُوأدُ في مهده في بيئات الجمود والركود والتخلّف.
إنَّ الذين يخافون من طرح الأسئلة، ويتصدّون لكلّ من يحاول أن يطرح استفسارات وأسئلة، ما هم في الحقيقة إلّا خائفون متردّدون فيما لديهم من معارف ومعلومات، أو أنّهم يخافون من أيّ محاولة للتغيير أو التجديد أو الإصلاح، لأنّ هذه الأمور لا تحصل إلّا بعد التساؤل العميق الذيّ يهزّ القديم وينخّله، ويبقي الصالح منه والمفيد، ويلقي منه ما سوى ذلك ممّا فقد صلاحيّته عبر تغيّر الزمان وتغيّر المكان.
وقد يشكّل على بعضهم ويخيفهم من طرح الأسئلة وإثارة التساؤل قول رسول الله، في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ..."، وما شابهه من أحاديث كقوله: "إنّما أهلك من كان قبلكم ... كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم". فهذه الأحاديث تفهم في سياق عدم طرح الأسئلة غير المفيدة، أو تلك التي لا تُحرّض على اكتساب معرفة ولا تزيد في المعلومات شيئًا ذا بال، كمن يسأل عن أسماء إخوة يوسف في قصّة نبيّ الله يوسف، أو يسأل عن عمر الكلب الذي ورد في قصّة أصحاب الكهف.
وقيل: إن المراد بهذا النهي هو سؤال الناس عن أمورهم الشخصيّة التي لا يجدر بالمسلم سؤال إخوانه عنها، وقيل: إن المقصود بالنهي هو السؤال بمعنى "الشحادة"، وبذل ماء الوجه لأخذ أموال الناس.
أمّا السؤال الذي يكون دافعه حبّ العلم والمعرفة والحرص على العمل والنهوض فهذا مطلوب، بل فيه حياة العلم كما قال سفيان الثوريّ -رحمه الله- : "حياة العلم بالسؤال عنه، والعمل به، وموته بتركهما".
نحن عندما نتساءل عن أمر ما بأسئلة منهجيّة، في الحقيقة نحن نعرض هذا الأمر على مختبر العلم والعقل والواقع.
فالسؤال بــ : "لماذا" هو سؤال عن غاية الشيء ومقصده، والسؤال بــ : "ماذا" هو سؤال عن السببيّة والأسباب، والسؤال بــ: "كيف" هو سؤال عن الكيفيّة والطريقة، والسؤال: "من أين" هو سؤال عن الأصل والنشأة، والسؤال: "إلى أين" هو عن الصيرورة والمصير، وهذه الأسئلة كلّها تسهّل عمليّة الفهم والمعرفة، وكذلك تنخل المعلومات وتغربلها، لأنّ الأجوبة حينئذ توضع على المختبر الذي يستعمل أدوات الشرع والعقل والواقع والعلم فما كان سائغًا فيبقى وما كان غير ذلك يُنقد ويُعدّل ويُحالُ إلى التفكير والتأمّل للإجابة عنه من جديد.
إنَّ الذي أسعى إليه هو تشجيع على نشر ثقافة السؤال، وتقبّل طرح الأسئلة التي ترد إلينا والتعامل معها على
أنّها أداة من أدوات التعلّم والحوار وإنضاج الأفكار وإبداع الحلول.
وهذه الثقافة من شأنها أن ترتقي بواقعنا اليوم إلى الأفضل إن شاء الله تعالى.