كثيراً ما نتعامل مع العلم على أنه ثابت من الثوابت؛ ولهذا فإننا نستغرب من الجهل والجهلاء. ولكن الحقيقة هي أن الجهل هو الأصل في الناس إلا إذا تعلموا؛ لأن الخرافة، والشعوذة، والأباطيل، موجودة ومقيمة على نحو دائم كما يقيم الظلام في كهف عظيم أغلق بابة بإحكام، وكما أن النور يبدد الظلام فإن العلم يبدد الجهل. ورحم الله ابن القيم حين يقول: (الجهل شجرة تنبت فيها كل الشرور). ولو تأملنا في حالنا اليوم لوجدنا عددا هائلا من المدارس، ولكن ما زالت نسبة الامية أكثر من 30% كيف الحال إذن عندما لم يكن هنالك تعليم إلزامي, ولا مدارس حكومية, وكان السواد الأعظم من الناس أميين؟ الذي أود أن أؤكد عليه أن البنية العميقة للعقول البشرية بنية خرافية، وأن التخلص منها يحتاج إلى الكثير من العلم الجيد والتربية المنهجية الراشدة و النظر إلى تاريخنا سيجد عددا كبيرا من الآراء والمذاهب المضحكة والضاربة في الخرافة ونظرة سريعة فيما كتبه ابن حزم والشهرستاني في الملل والنحل يجعلك مندهشا ولكن ما إن انتشر العلم وتحسن الوعي، كثير من هذه المذاهب اندثرت إن الخلاصة تقول" انتشار العلم الصحيح يجعل المجال أمام الفكر المنحرف ضيقا".
    ودائما في حالة التقدم الحضاري تكون المعرفة هي مركز السلطة، وهي الأداة لتوجيه التفكير وضبط المجتمع، لكن حيث ينتشر الجهل تصبح القوة المسلحة هي الأداة المسيطرة والمتحكمة ولهذا فإن انحسار المعرفة والعلم في مجتمعاتنا على مدى عصور الانحطاط الماضية أدى إلى انحسار الحلول المتوسطة وانحسار التفاوض السياسي وصار السائد هو الحروب فما تكاد تهدأ حرب أو ثورة حتى تبدأ أخرى، ونحن نلاحظ كيف أن الحروب الطاحنة والمدمرة تجري في البلاد البعيدة عن تيار الحضارة؛ لأن الدول المتقدمة وجدت أرضيات مشتركة للوئام الاجتماعي وتفرغت للتنمية وتلبية حاجات الناس. والخلاصة: العلم يساعد في حل مشكلات الناس والوصول إلى حقوقهم من غير سفك للدماء، أما الجهل فسيدفع الناس إلى الاقتتال الخالي من الرحمة ليجدوا بعد مدة أنهم أراقوا الدماء ولم يحصلوا على الحقوق.
 

  إن سلاح العقل هو العلم وضعف السوية العلمية والثقافية تجعل الإنسان منقادا لعواطفه، والعواطف والمشاعر عمياء وميالة إلى التطرف والعقل المثقف يبقيها ضمن إطارها الإيجابي وذلك لأن العلم يرشد العقل إلى النقطة التي يجب أن يتوقف عندها الانفعال.
 

  ويمكن أن نلخص بعض أسباب ضعف دور العلم والمعرفة في مجتمعاتنا، وقد ذكرها الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه "فصول في التفكير الموضوعي":

-من هذه المشاكل التي تقف أمام دور العلم و تحسين العقل ونستطيع أن نسميها " فقر البيئة الثقافية": لأن البيئة ذات الفقر الثقافي التي يسودها الجهل لا تتمكن من إدراك أبعاد عديدة للأشياء؛ ولذلك فإن عقلية أبنائها تميل الى التصلب في تعاملها مع الأشياء ويكون شعارها كما قال الشاعر" لنا الصدر دون العالمين أو القبر" والخيارات الأخرى تكون منعدمة أو ضعيفة، وهذا طبيعي، لأن الذي يرى لونا واحدا طول عمره لا يتخيل وجود ألوان أخرى. التنوع الثقافي مهم جدا لتحسين العقل والتفكير.

- ومنها انعدام مساحات الحوار: وهذا مرتبط بالنقطة السابقة نوعاً ما، والحوار هو أن تُري محاورك ما لم يره، ويريك ما لم تر. فن الحوار يقوم على إدراك المحاور أن ليس كل ما يراه قطعيا ونهائيا في كماله و إصابته وأنه من خلال الحوار يستطيع أن يضيف إلى ما عنده في صورة إثراء معرفي أو في صورة تغيير وتبديل والحوار لن يجدي نفعا إذا دار بين قوم تهيكلت ثقافهم على التقليد ونقل الأقوال دون تمحيص ونقد والذين تعودوا الاعتماد على غيرهم ليفكروا عنهم غير قادرين على الدخول في حوار جاد لأن الحوار متصل بالاجتهاد والقدرة على التوليد والتجديد لا يناسب أصحاب الكسل الذهني والتقليد المطلق وعلى المثقفين أن يدركوا أن الحوار ليس تنازلا للمخالف ولا يخدش صلابة المعتقدات وثقة الإنسان بما يحمل من أفكار، لأن الأمة والأشخاص والجماعات التي لا تستطيع أن تدخل في حوار مع ذاتها أو مع غيرها تفتقر الى الثقة بالنفس، وإذا كان الحوار صعبا فإن توجيه النقد يعد أصعب لأن الذي يرفض الحوار يكون رفضه للنقد أشد لأن الحوار يعد جلسات للنقد المخفف والبناء والتناصح المخلص وإذا عجزنا عن ذلك سندخل في قوله تعالى" فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون"

- ومن المشاكل الأخرى هي رؤية نصف الحقيقة: الخطر أن يرى المرء نصف الحقيقة يحجب عنه النصف الآخر أن ترى الجانب السلبي فقط أو أن ترى الجانب الإيجابي فقط يعد مشكلة كل الأشياء يمتزج فيها الخير والشر فلا بد من رؤية متكاملة حتى تكون أحكامنا موضوعية وسطية عن الإفراط والتفريط، ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع أن أحد الشعراء مدح رجلاً فأجاد في مدحه، ولما غضب عليه هجاه، وأقذع في الهجاء، فلما قيل له في ذلك التناقض قال: رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت. إن رؤية نصف الحقيقة شر من الجهل بها لأنها توجد انسانا يظن أنه يعرف كل شيء وهو لا يعرف إلا الجزء الذي يجعله مسمار في آلة كبيرة دون أن يعرف شيئا عن تلك الآلة.
- من المشاكل الأخرى هو الانغلاق: ويسهم الانغلاق مساهمة فعالة في تخلف المستوى الحضاري للشعوب وله أشكال كثيرة قد يكون على مستوى تمازج ثقافي بين دولة ودولة أخرى وقد يكون على مستوى التخصص العلمي وقد يكون عن شك المرء في كل ما حوله وقد يكون على أشكال كثيرة، من المسلم به أن الوعي بالذات كثيرا ما يتوقف على الوعي بالآخر وأن الجهل بما عند الآخرين سوف يحرمنا قطعا من جزء من وعينا بذاتنا. إن التقدم شيء نسبي والنجاح كذلك ومثله الإخفاق. ولن ندرك ذلك إلا من خلال الانفتاح على الآخرين انفتاحا يمكننا من رؤية نافذة إلى جوهر ما هم عليه والانغلاق يحرمنا من ذلك.

وليس الانفتاح ضروريا للوعي بالذات فحسب بل ضروري من أجل حل الأزمة الداخلية، لكن لا يجب للانغلاق والانفتاح التجرد من قاعدة الإفراط والتفريط، أحيانا عندما نتعرض للغزو الثقافي أو تتعرض ثقافة الأمة إلى دفق حضاري يخالف مكوناتها الأساسية يجب هضم الوافدات الجديدة وتحديد الموقف منها، ولكن إذا كان موقفنا دائما الانغلاق فهذا سوف يحرمنا من انتخاب أفضل ما عند الآخرين مع ما ينسجم مع معتقداتنا النظرية وأطرنا الثقافية. المشكلة أننا لم نشاهد انغلاقا شديدا في دولة إلا رأينا بعده انفتاح غير متوازن لا يقل ضررا عن الانغلاق والنتيجة فقدان التوازن في الحالتين.