يقول بيير جانه: "مفهوم السلوك يتخطى حدود مفهوم التصرف"، فما الذي نعنيه بالسلوك؟ وما مدى ارتباطه بالقيم؟
السلوك لُغةً : سيرة الإنسان، مذهبه واتجاهه، أما اصطلاحًا تتعدد تعريفاته فهُناك من يعتبره عاملًا مُلازمًا للحياة فما دام الإنسان موجودًا فثمّة سُلوك من قبله، يُعرف هذا الأخير على أنّه " كل ما يصدر عن الفرد، وهو سلسلة من الاختيارات Choices يقوم من بين استجابات ممكنة Possible Responses عند تنقل الفرد من موقف Situation إلى آخر."
كما يقصد بالسلوك أنه : " أي نشاط يصدر من الإنسان سواء كان أفعالا يمكن ملاحظتها وقياسها، كالنشاطات الفسيولوجية والحركية، أو نشاطات تتم على نحو غير ملحوظ كالتفكير والتذكر والتحليل وغير ذلك. "
يمكن الاستناد على تعريف جامع " السلوك الإنساني يتمثل في سلسلة متعاقبة من الأفعال وردود الأفعال التي تصدر عن الإنسان في محاولاته المستمرة لتحقيق أهدافه وإشباع رغباته المتطورة والمتغيرة".
مع تطوّر وتغيّر الرغبات، مالذي يحكم في نوعيّة ووتيرة تلك الأفعال وردود الأفعال؟ ومتى نعتبر السلوك الإنساني سويّا غير متأزمٍ؟
تُعتبر القيم مُحركًا أساسيًا للسلوك إضافةً إلى عوامل أخرى، تُعرف القيم على أنها "حالة عقلية ووجدانية يؤمن بها الفرد ويعتز بها ويتبناها، ولها امتدادها وأثرها الطبيعي في طريقة (تفكيره) و(سلوكه)".
بناءً على ذلك، نُحدد استواء السلوك بمدى تطابق الأقوال والأفعال مع القيم والمبادئ المُثلى التي يتبناها الفرد، كلّما علت درجة التطابق كانت مكارم السلوك ورقيّه، وكلّما تعارضت اعتبرناه منفصما ناقصًا منحطا.
ويلخص الشاعر حافظ إبراهيم أزمة السلوك في بيتٍ شعري فيقول:
إنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ *** فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
إذن فأهم ركائز الحضارة سلوك قويم هو نتاج منظومة أخلاقية وقيمية ثابتة ومتجذرة في الكينونة الفردية والمجتمعية لكل أمة تسعى للنهوض..
فالسلوك ما هو إلّا ترجمان القيم والمبادئ فيما وقر بوجدان المرء وقناعاته الداخلية، والإسلام خير الأديان وأرحمها وأسمحها، متكامل الأركان، كامل الأخلاق، وما بين الإسلام والمسلمين اليوم قشة لا تربطهم منه غير التصبغ إسما، فبين المعتقَد والممارسة تتجلى الأمراض والعلل وتستفز العقول والقلوب ويطغى الفساد على جميع مستوياته المالية والإدارية وفي المعاملات، والأخلاق شاملة عامة لا انتقاء فيها ولا تحديد، فلا يُزكى العابد الزاهد سيئ المعشر ولا العابدة سليطة اللسان على الجار ولا المعذبة لهرة، فالمعاملة آداب وجزاء، كما يقول مولانا محمّد الغزالي: "الحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسارٍ لا يخطئ، وهو الخلق العالي"، فكم من البلدان فتحت بجميل الكلم وطيب المعشر وحسن التجمل وأمانة المعاملات وعلى سبيل الحصر النموذج الأندنوسي.
فما السلوكيات التي وجب تعديلها؟ وعلى أية مراحل؟
صار لزاما إعادة النظر في الخطاب الأخلاقي ابتداء، من مراجعة العقيدة الإيمانية والتعبدية بالعلاقة بالله عز وجل، إلى جانب تعزيز قيم النظام والسلامة العامة من نظافة واحترام المواقيت والمواعيد وضبط السلوكيات الحاكمة للمجتمع من الأسرة والتربية مرورًا بدعم الذوق الفني والجمالي.
أزمة السلوك السياسي وتغييب الشفافية
إن تعاطي الفهم السياسي مع المنظومة القيمية الأخلاقية يسهم في توصيف ملامح وجدان وضمير المجتمع مما يخلق الاستعداد لتهذيب السلوك السياسي للقادة والحاملين للمشاريع وصناع القرار، بهدف ترشيد التجربة السياسية اجتماعيا وإنسانيا لحراك ممنهج بهوية متماسكة، فكلما طال استفحال الظلم والاستبداد وتغلغلت الانحرافات وفسُدت الأنظمة تصدعت العلاقة بين الفرد وحاكمه من غياب الثقة والمصداقية وكثُر المستأثرون والمرتزقة ونتجت ردود أفعال على طول المدى، عنيفة كانت أو مستكينة، خاضعة لا ناقة لها ولا جمل، فينتج إقرار لقانون الغاب يأكل فيه الكبير الصغير.
وقد شخّص ابن خلدون مآل الحاكم ممن فسدت بطانته وحاشيته بقوله:"حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين، الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، ويوصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدّون عنه الأخبار الصادقة، التي يعاني منها الشعب".
وهنا تقرير الشفافية الدولية يوضح مدى انفصال الشديد لسلوك المسلمين ودينهم بين التنظير والواقع إذ يتبين حجم انتشار الفساد المالي والإداري في بلادنا العربية بالمقارنة مع دول العالم، وبنظرة سريعة على هذه الخارطة يظهر بوضوح حجم الفساد المالي والسرقة من المال العام، وانتشار الرشاوي في بلاد العرب والمسلمين للأسف..
صورة توضح تقرير الشفافية الدولية للدول العربية
المنظومة الأخلاقية كوعي مجتمعي وسبيل نهضوي..
سجال التاريخ لا يعرف استقرار حضارة على جغرافية محددة، ثقافة ثابتة أو شعب مُختار، إذ انطلقت من الفراعنة والبابليين شرقا فاليونان والرومان غربا ثم ما فتئت حتى انبثقت الحضارة الإسلامية ودواليك.. إلى أقصى غرب أوروبا في العصر الحديث، فالقول بحركية الحضارات منطقي ومؤرخ له.
والسؤال المطروح لا يزال لماذا تقدم الآخرون وتراجع العالم الإسلامي؟ أو بالأحرى كيف نجحت الحضارة الإسلامية سلفا؟ جامعةً التفرقات المتشرذمة والقبليات المتفككة والفساد المتفشي على أصعدة متفاوتة لتكون منارة خالدة في العلم والفن والرقي؟
المرحج في الأمر، امتلاك وعي جمعي وتوصيف ذهني مقاوم لمختلف المصاعب ومواجه للتحديات، موحد الهدف والمسار مشترك الهوية والمبادئ والقيم بلا اعتبارات الجغرافيا، كحجر أساس كلّما استقوى قويت به الأمة واستمسك عودها وكلما ضعف ضعفت وخارت قواها، والحال مطابق للرسالة الإسلامية التي جمعت الناس على فضائل الأخلاق ومكارمها على إختلاف الأعراق واللغات والمواقع، وأصبح الهم صناعة الغد المنشود بروحانيته ومنجزاته، وكذا سرى الأمر على شعوب الغرب في تكوين الشخصية والقومية متقاربة الفكر مشتركة المبدأ ولو لها ما لها وعليها ما عليها من التمييز المرضي واستحلال الوسائل اللاأخلاقية لتحقيق الغايات.
فالنهضة بدون وعي جمعي مشترك لا تكفي مهما تواجدت الدساتير والقوانين، إنما الوعي ما يفعّلها ومنظومة القيم ما تكسبها مصداقية القول والفعل..أما السؤال الثاني: فما ترجمان الوعي الجمعي في حضارتنا؟
والجواب؛ الأخلاق، وترجمانها إنعكاس في سلوك الفرد والمنظمات.
يحفظ الإسلام الأخلاق ويُعني أهمية قصوى لها فقول الرسول عليه الصلاة والسلام واضح وجلي "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. الأخلاق في أحسن وأجود صور تطابقها مع الواقع وتحويلها لسلوك واع بلا فصام ولا هوة في التطبيق، والوصايا العشر التي ذكرت في التوراة والإنجيل وفي سورة الإسراء في القرآن الكريم لخير دليل، فالقيم التي توصي بعدم الكذب والقتل والسرقة لو تحولت من سلبية الفعل إلى إجابيته بالحرص التام على الصدق والإحترام والشفافية والأمانة والإتقان في وعي كل فرد من الأمة لتشكل قالب هوية متماسك كجزء لا يتجزأ من فرد لآخر يحصنه من مجرد مقاربة الخلل القيمي ترفعا وتكرما وأناة.
وذا خطاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لملك الحبشة مستهلا وضع الجاهلية ومظاهرها فيقول: "أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف"، ثم يصور الإسلام بقيمه وفضائله فيقول: "فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيا ورسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا.. فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا".
فما السلوك الصحي إلا قوام المجتمع الصلب والبنيان المرصوص الذي يرنو العلو فإذا فُقد تفككت أواصره وانهار بناؤه.
هذه الأخلاق التي تتجاوز كل الحيزات لتكون دعامة الإنسان الكوني في تصرفاته وما ينبع عن أفكاره من نبذ التمييز وحسن المعاملة والمعشر وتقديم العام على الخاص وإيتاء الحق والقيام بالواجب على عكس الإنتهازيين ممن يظهرون ما لا يقر في صدورهم إذ تغلبهم المصالح وتتحكم بهم الظروف. وعلى الأغلب فالتنازل على المبادئ موصوف ضمن المنظومة الوجودية الجماعية بطاعة المأمور للآمر وبتحجج مفرط مدعم بالأحقية والصوابية دون انتكاس أو عتب ضمير..
لكن الأكرم بحمل مشعل الأمة في سبيل حضارتها الرجالُ ذوي الفطرة السليمة والخلق الرفيع والسلوك الحضاري الذي ينطبق فيه الفكر بالواقع والمبدأ بالتطبيق والخلق بفعالية التصرف.
كيف نطابق القيم بالواقع؟ وكيف نبني الوعي الجمعي المجتمع؟ ، بإعادة النظر في مناهج التربية "دار الأرقم أنموذجا؟"؟ أم بربط الرؤية الحضارية بحضارة السلوك -فلا ينضبط الفرد بالقانون مجبرا وإنما يطبقه ويدعو للعمل به عن اقتناع واعتزاز-؟ وهل الحاجة لمشروع أخلاقي تسد الثغرة بشكل شامل وفاعل؟ كيف تسهم المؤسسات التعليمية والإعلامية والحكومية والمنظمات في ضبط السلوك وتعديله عمليا وبواقعية في الحياة اليومية؟
كل هذه الأسئلة وأكثر نتدارسها في مشروع عمران بشيء من التفصيل وبكثير من التطبيق في مشاريع عملية بإذن الله، لتكون الأخلاق عماد الأمة وروحها ومحركها..