"الفاعليّة مفتاحٌ من مفاتيح النهضة"1 ، أضاعته أمتنا الإسلاميّة فأوصدت عُنوةً كلّ المداخل الحضاريّة المؤديّة إلى رغدِ العيش وكريمه، تداعت عليها سائرُ الأمم وأضحت تحت طائل التبعية، آنئذٍ صح اتصافُها "بـالغُثائيّة"، إذْ أنّ المتأمل في واقعها لا يكاد يجدّ قلةً في الموارد البشرية ولا نُقصًا في المقدرات.. ((لا بل أنتم كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغُثَاء السيل))2 ، في تعبيرٍ نبويّ دقيقٍ وفريد لحالة العجز التي تمر بها الأمّة اليوم: أكوام بشريّة بغير مهابةٍ، يجري بها تيارٌ جارفٌ حيث اتجه، وَاهنة مسلوبة الإرادة، فاقدةً بذلك فاعليتها الحضارية وموضعها التنافسي، لتصبح مفعولًا بها لفاعل تقديره الأمم الريادية الناهضة.
إذن، "الفاعلية" أزمةٌ نبصر تجلياتها بوضوحٍ، لكننا لم نبني لها أطُرًا ناظمًة سواءً من حيث الوصف المتكامل، رصد العلائق الممتدة، التفكير في مستوياتها، أو التفتيش عن السنن الحاكمةِ التي تُمكنّ أمتنا من تجاوز الأزمة واستردادِ فاعليتها.
لذات الغاية، نسعى في "عُمران الواقع" أن نضع الأسس التعريفية التي تجعل المتابع يستشف بإمعانٍ في التساؤلات الكُبرى: ما مفهوم الفاعلية وسيرورته الدلاليّة في الذاكرتين الغربية والإسلامية؟ كيف نُفكك الأزمة أسبابًا ومظاهرًا؟ وأخيرًا، ما معايير فاعليّة الأمم وما هي المستويات الكُبرى الخادمة؟
الدلالة المعجمية
تُعتبر "الفاعلية" من المفاهيم الوافدِة للذاكرة الإسلاميّة، ذات جذورٍ غربيةٍ بحتة، جدير بنا التعرف أولًا على الجذر اللغوي Effectiveness"" في المعاجم الغربية، الذي يُقصد به "درجة النجاح في أداء أمرٍ ما حسب النتيجة المرغوبة."3
أما في اللغة العربية، فإنّ أصل الفاعلية هو الفعل "فعل" الذي مشتقاته "فاعل" و"فعّال"، و"الفاعلية" مصدر صناعي، اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، للدلالة على وصف الفعل بالنشاط والإتقان.4
الفاعلية.. ميلادٌ وسيرة
نُحدد ميلاد المفهوم ونتّبع سيرته حيث نشأ وتطوّرت دلالاته عند أبرز الفلاسفة والمُفكرين.
تناوله المجتهدون الأوائل في علم الإدارة ونظرية المنظمة: فريدريك تايلور، هربرت سمون، وماكس فيبر حيث شكلت إسهاماتهم منظورًا أوليّا يستند على التعريض انطلاقًا من مفهوم "الكفاءة" لا التصريح المباشر بمفهوم الفاعلية5، هذا في المرحلة الممتدة من (1900-1940م).
ظهر المفهوم بشكلٍ جلي في إسهامات بارنرد كأول من ميّز بين مفهُومي الكفاءة والفاعلية في كتابه "وظائف المدير" سنّة 1938م حيث عرفها بالآتي: "هي درجة التوافق بين المخرجات الفعلية للنظام، والمخرجات المرغوبة".
وصل المفهوم حد التأطير والتبني بعدما قدم الباحث بيتر دراكر تعريفًا بسيطًا للفاعلية بالنسبة لمنظمات الأعمال: "عمل الأشياء الصحيحة".
انتقل المفهوم لميادين واسعة، بدءً من الفلسفة، الإدارة ونظرية المنظمة حيثُ نشأ، إلى الاقتصاد "الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة لتحقيق حجم أو مستوى معين من النواتج بأقل التكاليف"، إلى المباحث التحليلية، حيث جاء في كتاب البحث التحليلي لأوروبا أنّ الروح -ويُقصَد بها الفاعلية- هي "ذلك الشعور القوي في الإنسان الذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته، وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء"، أيضًا، السياسة "النسبة بين المخرجات السياسية الحاصلة وبين المدخلات المبذولة"6 وشمل مناحي عدة لا نأتي على ذكرها قصدًا.
أزمة فاعليّة الأمّة.. نظراتٌ فاحصة.
لم يغب عن مُفكري الأمة الإسلاميّة استخدام هذا المفهوم لتوصيف الواقع والتنظير للخروج من الأزمات الراهنة.
مُنظّر النهضة مالك بن نبي عرف الفعّالية من خلال ارتباطات محددة:
أ. حركة الإنسان في صناعة التاريخ: ""إذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ، وإذا سَكَنَ سكن المجتمع والتاريخ، وهذا يضعني أمام مشكلة تَتَّصِفُ تحت عنوان الفعّالية" 7، يرجع هذا إلى سبب هامٍ أشار إليه في ذات السياق، ألا وهو الخلل الفاضح في مطابقة السلوك الإسلامي للمبادئ القرآنيّة، فالمسلم لا يعيش بها – تعالت عمّا نحن عليه- إنّما يتكلم تبعًا لها فقط!
ب. من عناصر الثقافة "المنطق العملي" أي "استخراج ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة"8 السبب الأصيل في فُقدان الأمّة لفاعليتها هو افتقاد الضابط الرابط بين العمل وهدفه، بين سياسةٍ ما ووسائلها، إجمالًا بين الفكرة وسُبل تحقيقها.
أما المفكر الإسلامي جودت سعيد يُعرف الفعّالية على أنها " قدرة الإنسان على استعمال وسائله الأولية، واستخراج أقصى ما يمكن أن يستخرج منها من النتائج."9
يتفق مع مالك بن نبي على عجز ولا فاعليّة المسلم في عيشه مُتجردًا من مُثُله العُليا، وقدم تفسيرًا لإمكانيّة قيام ما يسمى حضارة تجاوزًا لوجود منطق عملي صحيح في بناء الإنسان، حتى وإن كانت البواعث والمنطلقات الفكرية والفلسفية بعيدة كلّ البعد عن المنظومة القيمية الصالحة، يشرح د. جودت الفكرة في المعادلات التاليّة10:
- مثل أعلى صحيح + طريقة صحيحة لبناء الإنسان = حياة صحيحة راقية.
- مثل أعلى صحيح + طريقة خاطئة للبناء = تخلف وتناقض وعجز.
- مثل خاطئ + طريقة صحيحة للبناء = حضارة مادية.
- مثل أعلى خاطئ + طريقة خاطئة = خسران الدنيا والآخرة.
كيف نَحكُم على قيمة فاعلية أمّةٍ ما؟
معرفة الحكم على قيمة فاعلية أمَّة ما بالنظر إلى جانبين11:
- المُثُل العليا، ومقدار موفقة هذه المثل لما يَليق بالإنسان.
- مقدار التطبيق الذي يمارسه الفرد والمجتمع ليوافق سلوكه مع تلك المُثُل.
كما يضع مالك بن نبي تحقق شروط الثقافة تحققًا للفاعليّة من خلال العناصر الأربعة المكونة لها:12
- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
- منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
- الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع (الصناعة بتعبير ابن خلدون)
مستويات الأزمة..
الركود الحضاري لم يأت اعتباطًا أو كنجاح لمخطط كونّي استهدف إخماد جذوة الفاعليّة في المسلم! إنّما هُو نتيجة منتظرةً لطغيان نفسيّات وذهنيات ذميمة شلّت حركة القوى الاجتماعية، فالأمة الإسلاميّة المصنفة في عِداد الدول الناميّة تتصّف ببُطء نموها وقلة المحصول العام لنشاطها وحركتها: "أداء الأجهزة والأنظمة لدينا غير فعّال، وقوى الإنتاج المختلفة لا تعمل بالكفاءة المطلوبة، كما أنّ الفرص المتاحة لا تستغل على الوجه المطلوب" 13وهذا ما يُجمل عُمق أزمتنا "ضُعف الفاعلية" التي تظهر في أدنى المستويات إلى أعلاها بدءً من الفرد، انتهاءً بالدولة، وقد نظمها المفكر الإسلامي الدكتور طارق السويدان كالآتي: 14
أزمة فاعليّة الفرد: قلّة الإنتاجية في القطاع العام والخاص، ومن صور الأزمة غياب روح المبادرة التي تعتبر "القياس الوحيد لفاعلية الفرد."15
أزمة فاعليّة الأسرة: بينما تعتبر الأسر الحضن الراعي لأبنائها تربث عليهم طمأنينةً وتدفعهم للعطاء، نجد منها من تُصدر للأمة أبناءً مشلولي الإرادة خاملي العزيمة، وحتى مُنعدمي الضمير!
كما نجد في أحسن الأحوال أفرادًا منها فاعلين، لكن الأزمة تبدو جليةً في هشاشة الرابطة الداخليّة التي تدفع بالأسرة كاملةً نحو الفعالية، يستعين بعضهم ببعض، يُخططون معًا ويسيرون! والأمراض الاجتماعية دليلٌ كافٍ يُثبت شدّة التردي.
أزمة فاعلية المنظمات: إذْ تشكل المخرجات نزرًا يسيرًا من المدخلات المخطط لها في أغلب المنظمات،
أزمة فاعلية الحركات: التي تُشكل النسيج المُكوّن للأمة من تيارات، أحزاب سياسية، ومنظمات المجتمع المدني، حيث نجد الميول للمجاراة والتعصب للايديولوجيا والمصالح الشخصيّة على حساب التعاون المُثمر الذي يعذر فيه كل طرف الآخر في سبيل إحقاق فاعليّة عالية ترقى بالدولة وتلمس الإنتاجية المطلوبة خارج نطاق الحسابات الضيقة.
أزمة فاعلية الدول: المتفحص للإحصاءات العالمية يجد غالبية الدول الإسلامية تتذيل المراتب التنافسية في حين تتصدر المراتب الأولى في قمع الحريات وانعدام الشفافية وما جاورهما.
إذا تحدثنا عن التخلّف والوهن الذي أصابنا بناءً على المؤشرات الناطقة، نجد خللًا في الفاعليّة الفردية والجماعية! إذا تحدثنا عن بُطئ حركة الفكر واليد والإنتاجية الحضارية المتواضعة نجد خللًا في الفاعليّة! إذا تأملنا عالمًا يتطوّر بتسارع وتقنيّات لا نكاد نحصيها، نجد أنفسنا مُجددًا أمام ضعف الفاعلية! إذا تعمقنا في الذاكرة التاريخية، نجد أن الفكرة الإسلامية أول ما بزغت أنتجت مسلما فاعلًا تطبع حياته الجديّة والإنتاجية فصنع حضارةً دامت عشرة قرون على محور طنجة-جاكرتا، حينذاك كان المحور الثاني من العالم يتخبط فاترًا متسيبًا في كل مظاهر حياته. ثمّ كيف كان لعامل "التوتر" في التجربة الماركسية، الألمانية، والغربية عُمومًا دفعت شعوبًا بأكملها للخروج من حالة الفتور إلى حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع إلى الإنتاج بقوةٍ، وانقلبت النماذج الحضارية بين المحورين، لمّا تحولت الفعالية من منهج فكري ودستور أخلاقي ناظم للمجتمعات الإسلامية إلى مسألة وسائل مادية تُكدّس في صورة حضارةٍ مشوهة تابعة في تفاصيلها للحضارة الغالبة.
الأمة اليوم بحاجةٍ إلى الارتقاء بالأداء الاجتماعي للفرد والمجموع، في سبيل التحرر من التبعية، من خلال فهم العصر ومتطلباته، وتسخير الطاقات والإمكانات.