لعله لا يوجد علم في العالم الإسلامي بمفهوم الدولة. رغم أنها السلطة الآمرة الناهية الكبرى، ورغم أنها هي السلطة الرئيسية في العالم الإسلامي، وحتى الذين يملكون قليل علم بهذا المفهوم وهذا الجهاز الضخم لا يعدو هذا العلم معرفة بالخصائص الأقل أهمية، وليست تلك الخصائص الأكثر خطورة ولعمري لَهذاَ شيء شديد الخطورة أشد ما يكون.
يقال على لسان هؤلاء الذين لهم معرفة ما في العالم الإسلامي بالسلطة؛ الدولة الحديثة يعني أن هناك ثلاثة سلطات رئيسية للدولة:
- السلطة التشريعية ومقر هذه السلطة هو البرلمان.
- السلطة القضائية وهي سلطة الفصل في المنازعات بين الأفراد و الجماعات داخل تراب الوطن ومقر هذه السلطة المحاكم ووزارة العدل.
- السلطة التنفيذية وهي المنوط بها تنفيذ وحراسة هذه القوانين ومقر هذه السلطة هي وزارة الداخلية.
ويمكن لمن له إطلاع أكثر بقليل من هؤلاء السادة أن يضيف أن هناك خلاف بين مونتسكيو و جون لوك في من هي السلطة الثالثة؟ حيث ذهب هذا الأخير إلى أنها سلطة الدفاع عن الأمة من الأعداء الخارجيين ومقر هذه السلطة هو وزارة الدفاع. كل هذا شيء جميل ورائع لكن الأجمل والأروع هو معرفة الغرض، ومعرفة الغاية من هذه السلطات، وفي النهاية ماذا يريد هذا الجهاز الذي يقال عنه الدولة ؟.
فلا يعدو القول الأعلى لمفهوم الدولة تعريفا خارجيا شكليا ليس أكثر، ولا يتطرق لجوهر سلطة الدولة وهذا القول مثل قول: " أن الإنسان كائن مفكر منتصب القامة له عينين ويدين" لكن ما الغرض من الفكر وما الغاية من العينين وفيما يحتاج لليدين؟ غير موجود في هذا التعريف رغم أن هذا هو المهم بمراحل وهو الأكثر خطورة بدرجات.
فلهذا نقول بأن الدولة هي أداة لتربية إنسان معين، أداة لخلق مواطن من نوع ما، والمحافظة عليه أداة لنشر قيم معينة داخل المجتمع الذي تمارس فيه هذه السلطة، وهي بهذه الغاية منحازة لطبقة إجتماعية معينة ضد أخرى، وإلى نوع إنساني ضد آخر، وتسعى لتكون هذه الطبقة وليكون هذا النوع الإنساني هو السائد في المجتمع، وهذه الطبقة هي الأقوى رغم أنها تقول غير هذا، وهذا الإدعاء تمويه تمليه شروط المحافظة على الذات، فبدون هذه الدعوة يكون عمر هذه الدولة قصيرا.
أما عن الوسائل التي تكون وسيطا في خلق هذا المواطن وتربيته، والقضاء على أنواع أخرى، منها وسائل صلبة هي: الجيش، والشرطة، والسجون، فإن نرى أنواع من المواطنين في عهد سلطة سياسية ما تملأ بهم السجون، وتصادر أموالهم، ويمنعوا من تأسيس الأحزاب والجمعيات ومن الوظائف الشريفة في الدولة، ويُضيق على الأنصار أشد ما يكون، وتصاغ قوانين تحارب قيم هذا المواطن، مثل منع الحجاب والنقاب في الغرب، والذبح على الطريقة الإسلامية، ومنع من التعليم الجامعي للمحجبات، ومنع اليهود في مصر الفرعونية من الوظائف الشريفة.
لكن نرى من جهة أخرى داخل هذه المجتمعات التي تمنع هذه الممارسات التي تستبطن قِيَماً معينة وتنتمي لأمة ما هي هنا أمة الإسلام، وقد تكون في مكان آخر منظومة قيمية أخرى نجد أنها لا ترى ضررا في قيم تقف ضد من هذه القيم مثل العري، الدعارة، شرب الخمر، الشذوذ الجنسي، إلى آخر هذه القيم، بل إنها لا تنفك تدعم الأشخاص والجماعات الذين يمثلون هذه القيم وتسهر على تكثيرهم قدر المستطاع وتهيئة البيئة الضرورية لنمو هذا النوع الإنساني.
ومن هذه الوسائل التي تكون وسيطا في خلق هذا المواطن، والقضاء على أنواع أخرى هي التعليم، فإن أي دولة لها برنامجا تعليمي من نوع ما، هو ولا ريب يشكل مواطنا من نوع ما.
ومن يقارن التعليم قبل استعمار العالم الإسلامي وبعده يرى في هذا عجبا؛ فقد كانت علوم الوحي لها نصيب الأسد في هذه المنظومة التعليمية. تعليم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والتفسير والفقه وأصول الفقه والعقيدة الاسلامية والتاريخ الإسلامي واللغة والبلاغة.
أما بعد الإستعمار فإن هذه العلوم قد تراجعت بكل ما تحمله من قيم، وتراجعت مكانة طلاب وأساتذة هذه المنظومة التعليمية، لتحل محلها أخرى مصدرها الغرب، وهذا هو جوهر الإستعمار.
أما الأداة الناعمة الثانية وهي الإعلام فإن الدولة هي التي تعطي رخص للجرائد والقنوات والمجلات ودور نشر الكتب، وهي أيضا التي تمنع وتحتفظ لنفسها بوسائل إضعاف وتقوية هذه الأدوات وهذه الوسائل وهي الدعم بالمال منحا ومنعا.
وفي دولة من الدول يحدث الآن أن نشطاء الفيسبوك أخذوا أكثر من عشرون سنة سجنا نافذة؛ فيما صحف تنشر كذبا وتروج فسقا وفجورا أخذت دعما يناهز 200 مليون درهم، لا لأن هذه الدولة لها مشكلة شخصية أو علاقة ود بينها وبين هذه الفئة أو تلك، لكن لها مشكلة وجودية مع القيم التي يمثلها هؤلاء الأشخاص، فهي تسعى لخلق إنسان من نوع ما، وهؤلاء يشكلون عقبة في وجه هذا المشروع فتزيح هذه العقبة بوسائل تتمثل في: القضاء، الشرطة، السجن.
وإذا كانت هذه هي وظيفة الدولة تربية إنسان من نوع ما، وخلق مواطن من طراز معين، فمما لا يشك فيه عاقل أن هذه هي وظيفة شريعة السماء، وخاتمة الرسالات التي هي شريعة الإسلام، ومن يقارن العرب بعد الإسلام وقبله يجد فرقا عظيما، وهذا يعني أن هناك دولة إسلامية، وأن هناك دولة غير إسلامية، والدولة الإسلامية هي التي تنشر قيم الإسلام وتحارب القيم المضادة، والدولة الغير الإسلامية هي التي تفعل العكس.