ليس على بلد أو دولة أن تبدو ملائمة للديمقراطية بل عليها أن تصبح ملائمة من خلال الديمقراطية.

أمارتيا سن

يتناول نادر هاشمي في كتابه العلمانية من جوانبها المختلفة ويشير إلى نظرة عدد من المستشرقين ورموز التيار الإسلامي لها، ليتمكن من رسم الصورة الكلية للعلمانية وعلاقتها بالمجتمعات المسلمة.

إن أحد أهم إخفاقات المفكرين العرب أنهم قبلوا دون مناقشة أو تفكير جدي مصطلحات مثل الديمقراطية والعلمانية، كما لو أنهم يعرفون ماذا تعني هذه المصطلحات. (إدوارد سعيد).

ماذا تعني العلمانية؟!

إن أي نقاش حول العلمانية ينبغي أن يبدأ بمحاولة تعريف المفهوم سياسيا، ويمكن أن نجد إضاءات عديدة تبدد الطبيعة الغامضة للعلمانية في التجارب التاريخية المختلفة للعلاقة بين الكنيسة والدولة في أوروبا، لقد وُجد بالفعل أكثر من شكل للعلمانية السياسية مثل النسخة الناعمة المتصالحة مع الدين وهي العلمانية الانجلو-أمريكية والنسخة الصلبة المعادية للدين في الجمهورية الفرنسية.  

إننا بحاجة لمعرفة ما تعنيه كلمة علمانية بالضبط وما هي القيمة التي تنشدها وما هي المشاكل التي تحاول حلها، هل تعني موقفا مضادا للإكليروسية أم تعني الإلحاد أم إلغاء الدين أم حيادية الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من جميع الأديان أم إلغاء الرموز والشعارات الدينية من الحيز العام أم الفصل بين الحيز العام والخاص أم الفصل الكامل بين الدين والسياسة أم الفصل بين مؤسسات الدولة وتأثيرات الدين، إن المفهوم نفسه محل نزاع عميق أو كما قال تشارلز تايلور "إنه ليس أمرا واضحا تماما ما الذي تعنيه العلمانية"،  وذكر جورج جليك في كتابه "مبادئ العلمانية" أن العلمانية هي دراسة كيفية تعزيز الرفاهية الإنسانية عبر الوسائل المادية وجعل خدمة الآخرين واجب حياة الإنسان.

العلمانية والعلوم الإجتماعية..

ترتبط العلمانية بثلاثة حقول كبرى في العلوم الاجتماعية هي الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، فلسفيًا فإن العلمانية تجنح إلى رفض التعالي والميتافيزيقيا مع التركيز على ما هو موجود وهذا ما اعتبره هارفي كوكس تحرير للإنسان من وصاية الدين والميتافيزيقيا وتحويل اهتمامه بعيدا عن عالم الآخرة نحو هذا العالم .

 في علم الاجتماع ترتبط العلمانية بالتحديث، فهي عملية  تدريبية تقود إلى ضعف تأثير الدين في المؤسسات الاجتماعية وفي الحياة العامة وفي العلاقات الإنسانية.

 

 سياسيًا تدور العلمانية حول الفصل بين المجال العام والخاص وعلى وجه الخصوص بين الدين والدولة .

 يرى هاشمي أن عملية التحديث في أوروبا كانت عملية عضوية حيث كانت مرتبطة بالتغيرات الحاصلة في المجتمع المدني على عكس التطور في المجتمعات النامية حيث أن التحديث لم يكن نتيجة ديناميكية داخلية بل نتيجة لقوى خارجية المنشأ هي الاستعمار الأوروبي والإمبريالية المتحالفة مع النخبة المحلية وهذا بدوره يفسر جزئيًا الآثار غير المستقرة لعملية التحديث .

يحاجج نادر الهاشمي في الفصل الأول من كتابه بأن المضمون الفكري للحركات الأصولية أقل أهمية من الظروف التي أوجدتها، ويضيف أن عملية التحديث السريع في المجتمعات التقليدية أحدثت ارتباك في النظرة الجامعة للموقف الكلي وتسببت بوجود حالة من عدم اليقين السياسي.

إن الدروس التي نتعلمها من التاريخ الأوروبي هي أن المجتمعات الأوروبية لم تولد مع ميل والنزوع لتجسيد العلمانية في ثقافتها السياسية بل إنها احتاجت وقتا طويلا من النقاش الديمقراطي والبناء الاجتماعي للوصول إلى اجتماع حول ضرورة الفصل بين الكنيسة والدولة .

المستشرقون والعلمانية..

يقول مارك مازوار من الخطأ النظر إلى أوروبا باعتبارها الوطن الطبيعي للديمقراطية والحرية بينما تبدو أوروبا في القرن الأخير مختبر مرعبًا للهندسة الاجتماعية والسياسية التي تنتج وتعيد إنتاج نفسها من خلال الحرب والشعارات والتنافس الأيديولوجي.

يرى برنارد لويس أن أحد أسباب غياب الديمقراطية الليبرالية في العالم الإسلامي هو أن الإسلام لا يشجع على تشكيل جماعات مستقلة يمكن لها أن تتحدى النظام الاستبدادي، وأنه لأمر شرعي أن يرفض الفقهاء مبدأ قرار الأغلبية، ويقول أيضا أن التجربة السياسية في الشرق الأوسط تحت حكم الخلفاء والسلاطين كانت واحدة من الأوتوقراطيات المضطربة حيث كانت طاعة صاحب السيادة أمراً  دينيًا كما هو أمر سياسي و حيث كانت عدم طاعته خطيئة دينية كما هي جريمة سياسية. 

وتشير كارين ارمسترونج إلى أن جميع الحركات الأصولية التي درستها تجد جذورها في الخوف من الإبادة وفي القناعة بأن المؤسسات العلمانية والليبرالية  أُوجدت لمحو الدين من الوجود، وأن عبارة الدفاع عن الإسلام تمثل لازمه شائعة بين الأصوليين الإسلاميين وهي تشير إلى قناعة صريحة بأن دينهم معرض للاعتداء.

 ويرى كارل براون أن الوقت في العالم الإسلامي اليوم وقت مضغوط ومكثف فإن بضعة عقود تقابل ما لا يقل عن قرن ونصف احتاجه الإصلاح في أوروبا وأن هذا قد زاد من وتيرة حالة عدم الاستقرار في المجتمعات المسلمة .

العلمانية والدكتاتورية الشرق أوسطية..

 إن معظم التغيرات السياسية منذ عصر الاستقلال الشكلي قد تم فرضها من القمة إلى قاعدة المجتمع بأسلوب متسارع ففي عام 1935 أمر رضا بهلوي قواته بالنزول إلى شوارع طهران لإجبار النساء على خلع الحجاب بالقوة، لقد حدثت مثل هذه السياسات في تركيا مع العلمانية القاسية التي فرضها مصطفى كمال باشا في سعي منه لتغريب المجتمع التركي، بعد جيلين من هذه الأحداث وبنفس الطريقة السلطوية التي أمر بها بهلوي النساء على خلع الحجاب قام آية الله الخميني ورجال الثورة الإسلامية بفرضه على النساء الإيرانيات بنفس الصرامة والقسوة، في تركيا أيضا يمكن أن يفسر صعود الإسلام السياسي جزئيًا على أنه رد فعل على سياسات العلمنة  التي فُرضت على مجتمع متدين لاستئصال الهوية الإسلامية منه، باختصار قبل أن يوجد الأصوليون الدينيون في العالم الإسلامي سادت نسخة من العلمانية الأصولية.

لقد اقترن الحكم المطلق والدكتاتورية وغياب حقوق الإنسان مع العلمانية في عقول جيل كامل نشأ في حقبة ما بعد الاستعمار حيث رُسخ في عقولهم أن العلمانية هي أيديولوجيا القمع، وفقا لولي نصر فإن العلمانية في العالم الإسلامي لم تتجاوز أصولها الاستعمارية ولم تخسر البتة ارتباطها مع مشروع الدولة ما بعد الاستعمارية .

إن حقيقة الغرب الذي يدعي أنه علماني قد دعم وساند أحياناً كثيرة أنظمة مستبدة قمعية وساهم في نجاح العديد من الانقلابات العسكرية، أحد أكثر الأمثلة دراماتيكية لذلك كان دعم الولايات المتحدة لشاه إيران، وكذلك الدعم الفرنسي للمجلس العسكري الجزائري عقب إجهاض العملية الديمقراطية، بالإضافة للدعم الغربي في2007  لمحمود عباس وحركة فتح العلمانية في مقابل حكومة حماس التي نجحت عبر الانتخابات الديمقراطية، في نقطة متصلة بالموضوع ساهم النقاش العام حول الحجاب في فرنسا في تآكل شعبية وسمعة العلمانية بين المسلمين. 

الإخوان المسلمون والعلمانية..

وتحمل مناقشة سامي زبيدة لحركة الإخوان المسلمين في مصر ملامح تشابه صادمة مع ملامح الحركة البيوريتانية فى انجلترا فالإخوان المسلمون وفقا لزبيدة هم الحركة الإسلامية الأكثر شعبية والذين هم من ناحية الأيديولوجيا والتنظيم يمثلون انقطاعا جذريا عن الصيغ الإسلامية السياسية في الفعل، إنها حركة مدنية بالأساس،أرثوذكسية مختلفة عن الحركات الريفية الهرطقية ومختلفة عن الحركات المدنية في القرن الماضي، إن أهداف هذا التنظيم كانت استبدال النظام القائم بآخر ينبني على القانون الإسلامي و العدالة الاجتماعية،وهذا_إن أمكن القول_ صيغة إسلامية من الدولة القومية تفترض صور وعمليات سياسية حديثة.

ويتفق جون زيغلر مع هذا التفسير ملاحظًا أن ما هو جديد في الظاهرة الإسلاموية ليس استمرار للعقائد والممارسات الإسلامية وإنما هو توجه سياسي قوي لاكتساب السلطة والتحكم في الدولة.

إن الفجوة بين السياسات العلمانية للدولة من الأعلى وبين الثقافة السياسية غير العلمانية في المجتمع تفسر جزئيا لماذا تحظى الأحزاب الدينية بهذه الشعبية .

إن النقطة الأهم هنا هي أن الإسلاميين السياسيين عادة يدينون الترف والإسراف في النخبة الحاكمة وعادة ما يكونون شديدي الانتقاد لإساءة استعمال المال العام من قبل النخبة لمصالحها الشخصية وانتشار التزوير في الانتخابات و انتشار ثقافة المحسوبية التي عمت الحياة السياسية، وذلك لا يعني بالضرورة أنهم لن يلجئوا لهذه الممارسات في حال وصولهم إلى السلطة، وإنما يعني أنهم يستنكرون وهم في خانة المعارضة حيث أن جزء كبير من دعواهم يقوم على الالتزام الأخلاقي الذي ينص على أنهم سيحاربون هذه الممارسات.

 كان الترقي في هرم القيادة داخل الإخوان المسلمين ينبني دائما على الجدارة والاستحقاقية كما أنهم عملوا على تمهيد الطريق لفكرة الحياة الوظيفية للفرد والمشاريع الفردية وهذا كان أحد أهم سمات الطلاب الإسلاميين في الثمانينيات.

جون لوك والعلمانية..

في كتابه "مقالتان في الحكم المدني" كان جون لوك منحازا للنظام السياسي القائم، لقد كانت أفكاره وآرائه بنت عصره متموضعة داخل الحرب الأهلية والفوضى الناجمة عنها فيقول أنه لم تكن ثمة خطة شريرة إلا وتلبست بملابس الدين ولا تمرداً إلا واستخدم محتالا اسم الإصلاح، وأنه لا أحد فيما سبق أوشك على تخريب الدولة كما فعل من يتظاهرون بأنهم يريدون بناء معبد، لكن فيما بعد أشار  في كتابه "رسالة في التسامح" أن وظيفة الدين الحق هي تنظيم حياة البشر استنادًا إلى قواعد الفضيلة والتقوى.

وتعيد رسالة لوك في التسامح ترتيب العلاقة الواسعة بين الدين والنظام السياسي وتؤكد على ضرورة التمييز بين وظيفة الحكومة المدنية ووظيفتها الدينية وأن تضع  حدودا عازلة بينهما. 

المفكرون "الإسلاميون" والعلمانية..

يقول يوسف صانعي والذي لعب دورا مهما في أسلمة النظام السياسي الإيراني بعدما انسحب من السياسة و بدأ دراسة العلوم الشرعية: إن جميع البشر متساوون في حقوقهم ومن منظوره الشخصي للإسلام فإنه يحترم جميع البشر على السواء.  

 وفي سؤاله حول العلاقة المعيارية بين الدين والدولة فإنه أشار إلى تفضيله شكلاً ناعمًا من العلمانية السياسية، لأنها تحافظ على سلامة ونزاهة الدين لأن الوحدة بين السلطة والدين تؤدي إلى أضرار عظيمة، حيث يتطلب الحكم مصارعة الناس و تضليلهم.

يقول الغنوشي:إن قضية حيادية الدولة تتضمن درجة كبيرة من المغامرة، إن كان الفصل بين الدين والدولة يعنى أن الدولة نتاج بشرى وأن الدين وحى إلهى وأن هناك فارق بين العالمين فلا بأس، أما إن كانت العلمانية على الطريقة المركسية أو الفرنسية فهذا مرفوض.

 إن مدار الدين الرئيسي ليس امتلاك أجهزة الدولة بل هو قناعات الأفراد الشخصية، إن واجب الدولة هو خدمة البشر قبل أى شيء وأن توفر فرص العمل وتقدم التعليم والخدمات الصحية وليس أن تتحكم فى قلوب الناس وعقولهم. 

يقول آية الله الخميني في محاضراته حول الحكومة الإسلامية  أن شعار الفصل بين الدين والسياسة قد تمت صياغته من قبل الإمبريالية ولا يردد هذه الشعارات سوي ضعيفي الإيمان، تُروج الإمبريالية هذه الشعارات في سبيل منع الدين من تنظيم حياة الناس ليتمكنوا هم من السيطرة على الشعوب ويتمكنوا من نهب موارد البلاد الإسلامية.

تحدث أيضا الدكتور عبد الوهاب المسيري باستفاضة عن العلمانية وتناولها في مجلدين بعنوان"العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" وعبر عن رفضه التام للعلمانية الشاملة التي تسعى لمحو منظومة القيم الأخلاقية.

أيضا تحدث أبو الأعلى المودودي والقرضاوي ومحمد عمارة عن العلمانية وأكدوا رفضهم لها وأنها ليست أولوية ولا خيار المسلمين للتقدم.

يقول عبدو فيلالي فى مقالته "تحديات العلمنة": في العالم الإسلامي سبقت العلمانية الإصلاح الديني، على عكس التجربة الأوروبية التي كانت العلمانية فيها نتيجة لحقبة إصلاح ديني. 

نماذج للعلمانية الإسلامية..

إن تركيا واندونيسيا مثال على نظرية محلية للعلمانية الإسلامية، لقد قام المفكرون والأحزاب السياسية في اندونيسيا وتركيا بالتفاعل مع المجتمع المدني وبالتوفيق بين لاهوتهم السياسي وبين مفهوم الفصل بين الدين والدولة، لقد تم إصلاح الفكر السياسي، وهو أمر بالغ الأهمية والأثر في مشروع التحول الديمقراطي في المجتمعات المسلمة وهذا التطور مد جذوره عميقاً في الثقافة السياسية لتلك البلدان .

إن واحداً من المكاسب الديمقراطية الليبرالية في تركيا هو أن الحركة قد انطلقت من حزب سياسي تمتد جذوره في الحركة الإسلامية التركية، إن أردوغان الإسلامي يقود تركيا نحو الاتحاد الأوروبي العلماني وتركيا تعرف نفسها على أنها دولة علمانية .

إن واحدة من التطورات المهمة التي ساهمت في عملية تدعيم الديمقراطية في تركيا كان التحول الأيديولوجي الداخلي والمتدرج داخل الأحزاب ذات القاعدة الإسلامية وبين المفكرين المسلمين فقد تمكنت هذه المجموعات من التوفيق بين لاهوتها السياسي وبين العلمانية وإن كانت علمانية من نوع خاص.

الجدير بالذكر أن جميع التغييرات الصادرة عن تيار الإسلام السياسي في تركيا تعبر اليوم لا عن قبولها الفلسفي لمبدأ الفصل بين الدين والدولة وحسب بل رفضها لفكرة فرض الدولة ديانة محددة وسيطرتها على القناعات الفكرية للأفراد.

إن تدعيم الديمقراطية في تركيا اعتمد على نضج المجتمع المدني وتُعد حركة الخدمة ذات التوجه الإسلامي إحدى أكثر الجمعيات تأثيراً، إن واحدة من الأفكار الرئيسية للحركة هى أن الوعي الديني لا يتشكل ولا يستمر إلا عبر الانخراط في الممارسة الاجتماعية ومؤسساتها، يقول هوجا أفندى" إن الإسلام لا يطالب بشكل محدد من أنظمة الحكم، الإسلام يؤسس لمجموعة من المبادئ التي تصوغ الشخصية العامة للحكومة، تاركا للبشر أن يختاروا الشكل الأنسب للحكم بحسب الزمان والظروف المحيطة بهم."

الواقع في تركيا اليوم هو أن نظرية إسلامية حول العلمانية تتمتع بدعم واسع داخل تركيا قد أتاح هذا الشكل من العلمانية الإسلامية.

ويلاحظ نورشوليش مجيد بأن التدعيم والاهتمام بالإسلام قد نما وتعاظم في المجتمع الاندونيسي 

ووفقاً لمجيد فإن واحدة من علامات غفلة الفكر التي تفتك بالمسلمين هو عدم قدرتهم على التمييز بين "القيم المتعالية والقيم المؤقتة" ويضيف" النظارات التي ينظر بها المسلمون إلى سلم القيم جعلتهم غير قادرين على الاستجابة بالشكل المناسب للتطور الفكري في العالم الحديث" ويؤكد مجيد بأن المهم هو جوهر الدولة وليس الشكل.

وتشير الدروس التي يمكن أن نتعلمها من التجربتين الاندونيسية والتركية أن الديمقراطية تتطلب شكلا من العلمانية ولكن على المسلمين الديمقراطيين أن يعملوا داخل إطار التقاليد السياسية المتجذرة في الدين،  حيث أنه لابد من تقديم نظرية ذات أساس ديني للعلمانية لتتماشى مع المجتمع ذي المرجعية الدينية.