الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
مما شرف الله به رمضان، أن جعل فيه ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القَدْر، كما أن في رمضان ليلة الَقَدَر.
فالنسبة لليلة القَدْرِ: قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر ِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1-5].
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ رواه البخاري (1901)، ومسلم (759)
فهي ليلة مباركة، أي كثيرة الخير والبركة لفضلها، وعظيم الأجر للعامل فيها، ومن بركتها أن الله تعالى أنزل القرآن فيها.
واختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة، حتى وصلت الأقوال فيها إلى أكثر من أربعين قولاً كما في فتح الباري ج3/275 حتى وصل ببعض الحنفية أنه قال "ليلة القدر ممكنة في جميع السنة" كما قال النسفي في منظومته:
وليلة القدر بكل الشهر دائرة وَعَيْنَاهَا فَادْرِ
قال ابن حجر في فتح الباري عن هذا القول "وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تُنْقَلَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَنْ رَمَضَانَ" ج4/376
ومن المُلَحِ: هناك من قال لَيْلَةُ الْقَدْرِ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ وَقَدْ أُعِيدَتْ فِي السُّورَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ
وهناك من قال لفظة "هِيَ": ترتيبها في سورة القدر: السابع والعشرون في السورة نَقله بن عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ إِنَّهُ مِنْ مُلَحِ التَّفَاسِيرِ وَلَيْسَ مِنْ مَتِينِ الْعِلْمِ
وأقرب الأقوال للصواب أنها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان.
ما ورَد في الْتِماسها في العشر الأَواخِر:
عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالتْ: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُجاوِر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ، ويقول: "تَحرُّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ" رواه البخاريُّ (2020)، ومسلم (1169)
عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "تَحرُّوا لَيلةَ القَدْرِ في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ" رواه البخاري (2017)
ما ورَد في الْتِماسها في السَّبع الأَواخِر:
عن عبداللهِ بن عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: "الْتمِسوها في العَشرِ الأواخِرِ - يعْنِي: ليلَةَ القدْرِ - فإنْ ضَعُفَ أحدُكم أوْ عَجَزَ، فلا يُغْلَبَنَّ علَى السَّبْعِ البواقِي" رواه مسلم (1165).
أما تخصيص ليلة من رمضان بأنها ليلة القدر: فهذا يحتاج إلى دليل يُعَيِّنها دون غيرها، ولكن أوتار العشر الأواخر أحرى من غيرها.
وإن قال بعض الصحابة الكرام إن الليلة السابعة والعشرين هي أحرى الليالي بليلة القدر نظرا للعلامات التي شاهدوها في تلك الليلة، لما جاء في ذلك من الأحاديث الدالة على تلك العلامات، والله أعلم.
والحكمة من إخفائها هي تنشيط المسلم لبذل الجهد في العبادة والدعاء، والذكر في العشر الأخير كلها، وهي الحكمة ذاتها في عدم تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة.
كما أن رمضان فيه ليلة القَدْر، فيه ليلة القَدَر (بفتح القاف والدال)، في هذه الليلة العظيمة، تكْتَبُ فِيهَا المَلَائِكَة مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ الَّتِي تَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قال الله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) سورة الدخان، الآيتان (3، 4) أي: يأمر الله تعالى الكَتَبَة من الملائكة بنسخ ما سيقع في تلك السنة من اللوح المحفوظ ، هكذا ورد عن بعض السلف، ونقله المفسرون.
قال الطبري في تفسيره: "قال بعضهم: هي ليلة القدر, يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ, ومن يذل, وسائر أمور السنة".
روى ابن أبي حاتم في تفسيره - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قَالَ: "يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ أَوْ مَطَرٍ، حَتَّى يُكْتَبَ الْحَاجُّ؛ يَحِجُّ فُلانٌ، وَيَحِجُّ فَلانٌ".
وروى الحاكم (3678) وصححه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "إِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى" ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ: يُفْرَقُ أَمْرُ الدُّنْيَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ".
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
"أَيْ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا إِلَى آخِرِهَا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَوْلُهُ: (حَكِيمٌ) أَيْ: مُحْكَمٌ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ".
قال السعدي رحمه الله في تفسيره: "كل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه".
والعبد لا يدري ما كُتِب له في اللوح المحفوظ، وما سيُكتب له في ليلة القدر من أقدار، ولذلك ينبغي للمسلم أن لا يتهاون في الدعاء قبل نزول البلاء أو بعده.
روى الحاكم في مستدركه: "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة." (يعتلجان) أي: يتصارعان.
الدعاء من قضاء الله؛ لأن الله لو لم يشأ لك أن تدعو لن تستطيع أن تدعو، ولذلك القضاء من الله والدعاء أيضاً من الله.
ومن أفضل الأدعية التي تقال في ليلة القدر ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، فروى الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟" قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا لصيام رمضان وقيام لياليه، و ليلة القدر إيمانا واحتسابا.
اللهم إنك تحب العفو فاعف عني.