في مقال سابق كنا قد تحدثنا بشكل فيه بعض التفاصيل عن الفروقات الجوهرية في مفهوم العمل بين المنظومة العلمانية والمنظومة الإسلامية، وقد ألمحنا إلى أن الاختلاف في المفاهيم بالضرورة يؤدي إلى الاختلاف في السلوك، وفي مقال اليوم سنشير إلى أحد تجليات تلك الاختلافات في مفهوم العمل، فحدِيثنا اليوم عن التطوع.
التطوع في المنظور الإسلامي أمر ملاصق للشعائر الدينية فهو أمر ليس بعارض ولا خاص بشعيرة دون أخرى، فما من شعيرة إلا وفيها شيء من تطوع ملاصق، فالصلاة فيها الفريضة وفيها التطوع والزكاة فيها الفريضة وفيها التطوع، والصيام فيه الفريضة وفيه التطوع والحج أيضا فيه أركان فريضة وفيه تطوع، والذكر أيضًا فيه تطوع.. الخ
ثم إن الأعمال الأخرى المفتوحة التي هي من المباحات والمندوبات في الإسلام فيها التطوع أيضًا.
بل إن المنظور الإسلامي تجاوز ذلك بمراحل ودخل في ما يسمى بالحسبة والوقف وهو تطوع لكن له فقه خاص به وتنظيم خاص به وتشريعات مستقلة لتنظيمه حتى تستفيد منه الأمة والحضارة بل والانسانية بشكل عام، ولقد شهدت الحضارة الإسلامية في هذا المجال سبقًا غير معهود في مؤسسات الحسبة والوقف لا تزال محط أنظار الكثيرين الى اليوم.
فإذا رجعنا لمفهوم العمل في المنظور الإسلامي نجد أنه الجهد الذي يقوم به الإنسان في تحقيق الخلافة في الأرض سواء كان ذلك بمقابل مادي أو بغيره.
والاستخلاف في الأرض هو عمارتها بما لا يغضب الله تعالى ويحقق الفوز بالجنة في الآخرة، هذا المفهوم يجعل من العمل التطوعي يتقاسم مع العمل العادي المكانة المرموقة نفسها، فهو ليس مجرد ملحق أو هامش، بل هو شريك في جعل الإنسان يحقق العمارة التي كلف بها كهدف أسمى من تواجده على هذه الأرض.
في رمضان بالذات، يدخل المسلم هذا التربص ليتمرن بشكل كبير على مفهوم التطوع الذي تتسع مجالاته بشكل ملحوظ، فينخرط في مجالات عديدة من التطوع التي هي بالنسبة له أعمال كلها تحقق العمارة.
التطوع في الإنفاق يعتبر مجالًا رحبا في رمضان، فينفق المسلم على الفقراء والمساكين والمحتاجين من ماله، وقد ينفق من ماله على مؤسسات وقفية هي الاخرى توظف العديد من الناس الذين ما كانوا ليجدوا وظائف لولا تلك المؤسسات.
وقد ينخرط بنفسه في الجمعيات التي تفطر عابري السبيل على مختلف الطرقات فينفق من جهده وماله ومشاعره. وقد يدخل المسلم في التطوع في الصلاة والقيام فيحث نفسه على المصابرة في الطاعات فيزكي بذلك أخلاقه و سلوكاته عامة، وقد يحفز غيره على المواظبة على الفرائض فهذا أيضًا باب للتطوع.
وقد يدخل في تطوع في تدبر القرآن، فينكشف له غطاء كثير من المعارف ما كان له أن يقع عليها لو لا انه افرغ جزءا من وقته وجهده للبحث فيها وهذا أيضًا نوع من العمارة المعرفية بدل الاسفاف واستهلاك الوقت.
وهناك ما لا يمكن حصره من مجالات التطوع في الفكر والثقافة والإعلام والوعظ والتعليم والمساهمة في النظافة وتجميل المحيط العام والوقوف على الحدائق والفضاءات العامة وغيرها من مجالات التطوع التي لا تنحصر فقط في مجالات الشعائر وحواشيها.
حين يكرس المسلم في رمضان شيئا من وقته و جهده وماله ومعارفه ومشاعره وحتى علاقاته في مجال التطوع فإنه بذلك يرسل رسائل عديدة لنفسه وغيره بأنه مطالب على الأقل في غير رمضان بالمحافظة على الحد الادنى من العمل المفروض والواجب فلا يختلس من الوقت المطلوب منه ولا يختلس من الجهد المطلوب منه ولا يتملص من المسؤوليات الملقاة على عاتقه في غير رمضان، وهكذا.
والتطوع ثقافة قد تأخذ أشكالا فردية و قد تأخذ اشكالا مؤسساتية تسد ثغرات عديدة لا يمكن أن يسدها الواقع في علاقاته الميكانيكية المبنية على الأنانية والفردانية والعقود المكتوبة.
وفلسفة التطوع تقوم على إيمان الإنسان بمقابل آخر متجاوز للمقابل المادي الذي يتم التعامل به بشكل رسمي في العقود والمواثيق، فهو من ناحية جهد يحقق العمارة ويخدم الناس ومن ناحية أخرى يحقق الفوز في الآخرة بمقابل يؤمن به ويراه أفضل من المقابل المادي العاجل، وكما هو ملاحظ هذا مرتبط ابتداء بمفهوم العمل في الفلسفة الإسلامية بشكل عام.