إن في قصة نوح عليه السلام وقومه آيات عديدات دالات على طائفة من صفات الرب الخالق وحكمته في امتحان خلقه وحكمته في مجازاتهم بالعدل والفضل، فالكافرون الظالمون المجرمون لهم الجزاء بالعدل، والمؤمنون المتقون والأبرار والمحسنون لهم الجزاء العظيم بالفضل، والآية هي العلامة ذات الدلالة على أمر من الأمور سواء كانت مرئية أو محسوسة بأية حاسة أخرى من الحواس الظاهرة أو الباطنة، وقد يتوصل إلى إدراك الأمر الذي دلت عليه الآية عن طريق اللوازم الفكرية أو الاستنباط العقلي، أو دقائق الدلالات اللغوية في الكلمات والجمل، وصور تراكيب مفردات الجمل وتنظيم وتصفيف الجمل في عموم النصِّ. (الميداني، 1990، ص 286)

في قصة نوح عليه السلام ألوان من الابتلاء، له ولقومه ولأبنائه القادمين، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ [المؤمنون:30].

- "إن في ذلك لآيات": المشار إليه بلفظ "ذلك" كل قصة نوح عليه السلام وقومه التي ذكر منها هذا النص من سورة المؤمنون، وقد أكدت الآية الكريمة في قصة نوح ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾[المؤمنون:30].

ونستطيع أن نستنبط من الآيات التي اشتملت عليها فقرات هذه القصة التي عرضتها سورة المؤمنون ما يأتي:

- إرسال الله نوحاً إلى قومه هو إحدى سنن الله في البشر، فما من أمة انحرفت عن شريعة الله ومنهجه، وانمحت من ذاكرتها تعاليم الدين الرباني الصحيحة، ولم يبق لديها إلا تحريفات وتخريفات وضلالات، إلا بعث الله لها نبياً رسولاً بشيراً ونذيراً يبلغها عن دين الله، وشرائعه ومنهاجه ويدعوها إلى الإيمان والعمل الصالح ويبين لها مسؤوليتها في الحياة الدنيا، وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى يبعث الناس إليها بعد الموت والفناء للحساب والجزاء.

- عبادة الله وحده لا شريك له، بعد الإيمان به واحداً في ربوبيته، واحداً في ألوهيته، هي من أعظم المطالب الدينية التي على الإنسان أن يؤديها؛ ليجتاز رحلة امتحانه بنجاح بعده، لأن يكون من أصحاب جنات النعيم(الميداني،1990، ص286).

- عقاب الله وعذابه هو الأمر الذي أعده الله لمن كفر به جاحداً له أو مشركاً به، ولمن عصاه فاستكبر عن عبادته، كل بحسبه.

- من الظواهر البشرية، أن رؤساء الأقوام وقادتهم يتعللون ببشرية الرسل، لرفض دعواتهم، ويتهمونهم أيضاً بأنهم طلاب رئاسة وزعامة على أقوامهم، لذلك فهم يدعون لتغيير ما عليه أقوامهم من عقائد ومفاهيم وعادات، ليكونوا هم أئمتهم فيما يقدمونه لهم من جديد باسم الدين، الذين يدعون أنهم رسل الله فيه، ويتهمونهم أيضاً بالجنون لصدِّ جماهير قومهم عنهم، ويجادلون بغير ذلك.

- من الظواهر البشرية أن يفرض أكثر الناس آراءهم الخاصة على حكمة الله، ومن ذلك مطالبتهم بأن يكون الرسل إلى البشر من البشر أنفسهم.

- من سنة الله في عباده أن ينصر رسله وأن ينزل نقمته بالظالمين من أقوامهم.

- أنَّ المؤمنين مطالبون بأن يذكروا الله عند كل مناسبة، مستعينين به، وحامدين له، وداعين في كل مناسبة بحسبها.

- أنَّ ظروف الحياة الدنيا هي ظروف امتحان لكل مستوفٍ لشروط الامتحان من الناس فيها، فالرسل مبتلون، وأنواع الابتلاء مختلفة، منها ابتلاء بالتكاليف، ومنها ابتلاء بالنعم، ومنها ابتلاء بالمصائب، ومنها ابتلاء الناس بعضهم ببعض.

- من الآيات ما في القصة من عظات، وعلى الذين كفروا أن يتعظوا بها، ويعتبروا بما جرى لمن قبلهم من الكافرين والظالمين من عقاب رباني، وأن يستدلوا من ذلك على أن الربَّ الذي أوعد بالعقاب المعجل ثم نفذه سيحقق يوم القيامة عقابه المؤجل الذي أوعد به.

- من الآيات ما في القصة من تطمين للرسل والمؤمنين أن الله معهم وناصرهم إذا صدقوا وصبروا، وأن الله لا بدَّ أن يحقق وعده لهم في الدنيا والآخرة، كلما حققوا في أنفسهم الشروط المطلوبة منهم.

- من الآيات ما دلَّ على أن من حكمة الله أنه متى أمسى القوم قوم فساد عام غير قابل للإصلاح بمقتضى مؤثرات البيئة وضغوطها التي لا تسمح بأن يندَّ عنها مستقيمون صالحون، كان إهلاكهم إهلاكاً عاماً شاملاً باستثناء المؤمنين، أمراً لا مناص منه(الميداني،1990، ص286).

- "وإن كنا لمبتلين": الابتلاء هو الامتحان والاختبار؛ لإظهار ما في النفوس والضمائر من عمل إرادي، إيمان أو كفر، طاعة أو معصية، فضائل أو رذائل، خير أو شر.

وجاء التعبير بضمير العظمة "كنا"، وبصيغة الجمع " لمبتلين "؛ لأن الموقف الذي يجري التعبير عنه هو موقف عظمة وجلال، يفرضه سلطان الرب الخالق، المبتلي لكل عباده، وفي مقدمتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ويفيد تأكيد الجملة "وإن كنا لمبتلين" أي: وإننا لمبتلون، وفعل الكون هنا للدلالة على السنة الدائمة الثابتة مع الزمن في الماضي هو الحاضر والاستقبال (الميداني،1990، ص287).

والابتلاء ألوان:ابتلاء للصبر، وابتلاء للشكر، وابتلاء للأجر، وابتلاء للتوجيه، وابتلاء للتأديب، وابتلاء للتمحيص، وابتلاء للتقويم... إلخ (قطب،2009، ج4، ص2466)، ومن ابتلاءات نوح - عليه السلام - الآتي:

- ابتلاؤه بقومه الذين لم يهتدوا ولم يؤمنوا به وبرسالته إليهم وتكذيبهم له.

- ابتلاؤه بابنه فهو عمل غير صالح لأسباب لا يعلمها يقيناً إلا هو جلَّ جلاله.

- ابتلاؤه بزوجته وعدم إيمانها به.

- سخرية قومه منه: السخرية استهزاء بمن يستوجب احترامه، ويقصد من ورائها التقليل من شأن المستهزأ به، وهذا المستهزأ به هو من ينال رضا الله عزَّ وجل وينال التقدير والاعتراف من الصادقين المؤمنين الذين أسلموا وجوههم لله ربِّ العالمين (عقيل،2011، ص133).

إنَّ نوحاً عليه السلام تعرض لسنة الابتلاء، وأصبح نموذجا يقتدي به المبتلون على مر العصور والدهور وتوالي الأزمان في تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الحق.

ومن الآيات المحكمات التي تكشف عن هذه السنة قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214].

فهذه الآية الكريمة تستنكر على المخاطبين بها أن يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ، وأن بإمكانهم تحقيق النصر دون أن يصيبهم ما أصاب السابقين قبلهم، إذ يخبر سبحانه وتعالى أنه لا بدَّ أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنة جارية لا تتغير ولا تتبدل، وإن من يحمل لواء دينه وشرعه لا بدَّ له أن يبتلى، فليس الإيمان بالتحلي والتمني ومجرد الدعاوى، بل لا بدَّ أن تصدقه الأفعال أو تكذبه، إنها سنة مضت في الأولين، جارية في الآخرين(امحزون،2011،ج1، ص196).