الوقوف على أطلال الأمم السابقة من أصحاب الحضارات يلهم النفس بالعبر ويسترجع في مخيلة المرء المواقف والأحداث، بخيال خصب يقبل كل الاحتمالات، ويغفل بالطبع عن كثير من الحقائق إلا بالرجوع إلى مدونات ومخطوطات وإرث وآثار تلك الحضارة.. ولعمري، فإن الموجود المادي هو الذي يبقى.. كآثار الفراعنة وحدائق بابل وسور الصين العظيم..  

مضى الصُّناع وآمروهم وبقيت الآثار لتحكي من جدار الصمت، أنّه مستضعف حمل على عنقه حبل الصبر، يجر خلفه أحمالا مثقلة وهموماً من خوف السلطان وحرّاسه، يئن القلب وتتثاقل الألسن ليصعد سلم النجاة بصخرة توضع على قمة هرم الطغيان تمثل مجد رجل واحد.. آثر أن يصنع أثره في حجر وبطر.. الآن ها قد مات السلطان وتواري خلف الأنظار.

 

الإسلام جاء مناقضا لمبدأ التمجيد المادي فحارب الأصنام وهدم صروح الجبروت وتمجيد الفرد.. وعمل على غرس بذور حضارة تنبت على القيم والسلوك.. لذا تجاوز الإسلام حدود الجغرافيا والتاريخ وتمدد في سلطان السلاطين بمنظومته القيمية متجاوباً مع أصحاب الإحساس بالظلم والقهر والضعف، بنداء الرغبة وعوامل التحفيز وبُعد النظر إلى المآلات، فعمل على إذكاء وتقوية النفوس ببناء جدار الرضا والصبر المحمي بصمام الإيمان.. فانتشر الإسلام بطيب المعشر وحسن المعاملة، وجميل الإحساس بالآخر، وهكذا ساس القائد صلى الله عليه وسلم الناس، فقد بعث متمما لمكارم الأخلاق، يحض الناس بدعوته بالجمع لا التفريق، وخطابه التذكير لا التنفير، يبادرهم بقوله "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى".

 

منظومته القيمية هي محضن التكوين الذي تذوب فيه القبليات والشلليات وتتحد حوله الجماعات وتنتظم تحت مظلتها الأفراد، والشاهد في المرحلة بعد تباعد الزمان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أن قيادة الناس في منظومة القيم لا تأتي إلا بنتاج مجهود وتفكير والتزام جمعي ينتظم على نداء القائد الإمام كما في منظومة الصلاة.. تُستفتح بندائها وتنتظم بصفوفها ويخضع الناس فيها للإمام والالتزام بأوامره، لا رغبة ولا رهبة في الإمام أو منه وإنما إتباع لتكليف لابد منه لتحقيق قيم الجماعة وتسوية الصفوف في حالات الخشوع والإنكسار لله... 

وفي منظومة القيم تشكل صفوف الصلاة منتجًا أصيلاً لأدب السياسة الرشيدة، ومنهل عذب للتفكر في علاقات القائد الإمام بجموع الناس، فلا يقف خلفه إلا أهل الحل والعقد، وأصحاب العقل والنهي بطانته الأقرب تذكره إذا نسي وتخلفه إن تعثر، وتبلغ رسالته إن ضعف صوته أو كثر جمعه، أما شعبه فلا يسبقونه بحديث ولا يخرجون عن طاعته بشذوذ، ولا يفارقون محضره إلا بالسلام.. 

هم هم، باختلاف شخوصهم وأعمارهم وأجناسهم ودرجاتهم ومكاناتهم الاجتماعية والثقافية، يجمعهم ميقات ونداء يصلح في الزمان والمكان المناسبين.. 

 

الشذوذ عن هذه القاعدة يكون بمقصد وأسباب بينها رب العالمين في أعلى مراتب العبادة في أربعة من أركان الإسلام الخمس، فاستثنى من الصلاة ركعات بتخفيف وقصر لأجل السفر والمرض، وأبدل بالصوم فدية لأجل السفر والمرض، وعفى عن الناس الزكاة لأجل المقدرة، وربط الحج بالاستطاعة، لكنه لم يستثني الشهادة لأنها من أعمال القلوب وإشهار الألسن التي يمتلكها كل الناس باختلاف الأجناس واللغات.

السياسي الحذق هو الذي يخطط للنجاح بخطة تحمل الناس على ما في استطاعتهم ويجد العذر لمن لم يستطع مع حفظ الحد الأدنى من إرساء القيم التي تدخل إلى القلوب وتخرج بالألسن ومن ثم تتجسد في الأفعال. 

الناظر إلى واقع حركتنا الإسلامية يجد أن سيرتها العامرة بارساء القيم هي ما حقق لها وسيحقق إن بقيت عليه بإذن الله القبول، فقد كان خطابها القيمي أساس نجاحها وحصان جولتها في تسابق الفكر الذي حاولت التيارات الفكرية المناوئة والمنافسة توظيفه بمادية المساواة، ومفاهيم الحريات المادية، ولم تسلم منها ماديات قشور التدين في تقصير الجلباب وإطلاق اللحية وحمل المسواك.

تقدمت حركة الإسلام حينما اهتمت بمعنوية القيم التي صنعت جيلا متحمسا للانطلاق، مؤمنا واثقا في نفسه يحسن الظن بالله أنه بالغ الفوز بإحدى الحسنيين. 

كان تحدي بناء القيم، من تحدي بناء الذات التي لا تجد نفسها بعيدة عن سيرة ومسيرة الإسلام الصحيح.. ولا تجد نفسها إلا في الإنتماء لفكرة بعيدة عن محور المادية وتمجيد الأشخاص، وهي تنوء بنفسها صادقة حازمة حاسمة لخطأ الفرد حتى لا تُحمّل أخطاء الغير، ولا تترك في ذلك عذرا لأن الالتزام يعني الولاء المطلق للفكرة التي مبعثها مبادرة من تحت مظلة الإسلام الوسطي، بلا إفراط أو تفريط..  

يذهب الناس وتبقى الفكرة قائمة لإحياء القيم المندثرة، ويظل معها التحدي قائما في مجابهة الصراع الممتد بين الخير والشر.. لكن إن غابت عن القيادة في أي زمان معالم الطريق فإن الجميع سيذهبون إلى مجاهل التاريخ وألسنة الشمات، وحينها سيصنعونه حاجزاً من الممانعة بالجدال المفضي إلى التنازع والاختلاف الذي يضعف قوى الخير ويفشلها وينفّر القادمين بل ويحجب شعاعها من الانتشار، لتحل مكانه ظلمة المواقف الفردية ليراها عامة الناس نقطة سوداء يُحذّرون منها بعضهم البعض..

 هذا بالطبع لا يعني أن كل جماعة تحمل فكر التجديد يفترض بها أن تكون ناصعة البياض، فقول الله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم جيل الصفوة (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وجعل النصيب سريعا لمن سأل (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). 

السياسة فن المستحيل.. وربط مصالح الناس بأوامر السياسة وكذلك منظومة قيمهم بمخرجات السياسة بل وحتى مصادر رزقهم بالعمل السياسي ومنتوجاته فيه مبالغة وضرب من المحال لا يتحقق في واقعية الدولة، ولعل الأنموذج المرجعي لدولة المدينة فيه عِبر تُستلهم منها الدروس في فهم فن سياسة توظيف التنوع، فهذا الاختلاف القبلي والطبقي والمعرفي والايماني بجغرافية القبائل وتاريخ أهل الحضارات.. نجحت فيه سياسة القيم فنتجت تجربتها التي بدأت بآلاف معدودة، في استقطاب عدد منتمين لها قيميا. الآن يتجاوزون المليار مسلم، نجحت سياسة منظومة القيم ليس لأنها خاطبت ضعف الشعوب بالانجازات وبناء الصروح، وتوفير الماديات رغم أنها لم تغفل الحقوق لحياة كريمة، بل لأنها أرست القيم في تطبيق المعاملات فكانت المساواة بين الرومي والفارسي والحبشي والعربي وأهل الأمصار وأهل القرى.. وخاطبت كلّا بلسانه.. بل أعطت كل ذي حق حقه، فمنهم من جُعل له سهم في القتال بنية الخروج ومنهم من سأل ألا يصلي إلا المكتوبة فأعطي الإذن..

 ثم إن قائدها ومؤسسها صلى الله عليه وسلم استمع ورأى وعايش وصبر على اختلاف أصحابه، ومدارسهم في شدة عمر ولين أبي بكر، وغضبة علي أبي تراب، وتخلف كعب عن القتال.. بل وعانى صلى الله عليه وسلم من حديث الناس في أهل بيته ولم تسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من لسان الناس، ولم تتوانى في حمل السيف في وجه أصحاب رسول الله حينما ظنت أنها على حق..

اختلاف الجمهور لا يلغي مشروعية إعلاء القيم لكنه بالقطع محظور لتمجيد الأفراد ويبقى الفضل بين الناس.

إنّ مبدأ الايمان الذي يعلو على السياسة، وهو في مصطلح العارفين سياسة إجبار الذات على إدارة مواقفها والتحكم في انفعالاتها لتجويد معاملاتها حتى تسير على منهج حسن الخلق، المستمد قوته من قيم عميقة تجذرت في النفوس وتشعبت بكثرة الطرق وحسن القيادة. لذا لم تأفل قيم دولة المدينة التي لم تبني صرحا ولم تُعلي هرما.. 

واقعنا اليوم، يحتم علينا أن نبحث عن معنى جديد للسياسة، يجبر مفاهيم الممارسة السياسية المادية التي تتخذ من الدستور والأفراد والنظام مرتكزات إلى أن ترقى إلى تعريف يتجاوز جمودها وصنميتها، بل ويجبرها على الانزواء ومن ثم الأفول وما ذلك على الله ببعيد، فكسرى وقيصر ما كانا ليحلما يوما بغياب معالم حضارتهما بما استحدثوه من نظم وسياسة، وكذلك الحال لكسرى الشرق وقيصر الغرب في هذا الزمان.. وما ذلك على الله بعزيز.. 

إنها مبادرة لاطلاق مفهوم جديد للسياسة، يرتكز على فن تتزيل القيم التي تحمل في مضمونها التخطيط والتنفيذ والرقابة والتقييم والتقويم.. مفردات ومعاني ومعالم وآثار القيم الإسلامية والتراث الاسلامي بعد التصفية من شوائب المحدثين وجهالات المتشددين وتفريط الغافلين وكل هذه المحددات عناصر مشروع ناجح باذن الله ..