الأصعب – كما يبدو – من الاختراق الأمني هو اختراق الوعي، خاصةً عند الطبقة التي تصدّر نفسها بأنها مثقفة مطّلعة، وتشكيل وعي يتناغم تمامًا مع العدو وروايته وخطته في تحقيق أهدافه.
اختراق الوعي الذي تحدث عنه د. عبدالوهاب المسيري رحمه الله، حين ذكر بأن جزءًا كبيرًا من الهالة التي رسمها الكيان حول نفسه هو جزء من الصورة التي يعمل ليل نهار على زرعها في مخيلة العرب: "الجيش الذي لا يُقهَر".
ليس هذا فحسب، بل ما نجح فعليًا في تحقيقه من اختراق للوعي هو حالة الوهن والعجز، واستحالة مجاراة العدو، ليس فقط لقوّته، بل لانعدام الثقة بالنفس.
مناهضو خط المقاومة لا يكتفون فقط بعدم ثقتهم بالمقاومة كفصائل أو كنهج، بل أحاديثهم نابعة من حالة استسلام تامة، وانعدام للثقة بالنفس، وهذا يتجاوز حتى إطار المناكفة السياسية.
على الرغم من أن التجارب السابقة لم تستعرض أبدًا أي تجربة استقلال أو تحرر نجحت بفعل التفوق المادي، على العكس تمامًا، كانت كل التجارب دامية دفعت خلالها الشعوب أثمانًا باهظة فوق التخيل: ليبيا، والجزائر، وفيتنام، وأفغانستان...
فاقد الثقة هو فاقد الإرادة على فعل شيء، إلا الثقة في حتمية عجزه. وأن الاحتلال، وفعله، وخططه، وأفكاره، قدر محتوم.
هذه العقول الحبيسة في قفص رواية العدو – قفص العبودية – تتجرأ على فرض أسلوبها وأفكارها على المستضعفين أمثالها ممن كسروا هذا الحاجز وتجاوزوا حالة عدم الثقة، وانشغلوا لسنوات، بل لعقود، في خطّ طريق التحرر صنعوا خلاله، ولا زالوا، المعجزات.
هذه العقول ليست طفرة على أي تجربة تحرر، وأكاد أجزم بأنهم لو شهدوا تحرر فلسطين كاملة، ستنبري أقلامهم إلى الكتابة عن "مؤامرة تحرير فلسطين"، ويسوقوا لها الأدلة والبراهين المجتزأة من سياق التاريخ، كما فعلوا ويفعلون اليوم بانتزاع السابع من أكتوبر من سياقه!
التغيرات الحالية والقادمة كبيرة، ومن تحصّن خلالها من اختراق الوعي، سيحصّن نفسه من العبودية. وأما من قرّر أن يعيش حبيس رواية العدو، فسيظل يحقر ذاته حتى ولو ملك عصا موسى، ويظل منبهرًا بعدوه، حتى وإن رآه يغرق، ويخسر، ويتفكك، وينهار.
وربما تكون صدمته بانهيار عدوه أكبر من صدمته بكل ما فعله في حرب الإبادة، لأن العدو عمل جيدًا على كيّ الوعي، وتعميق صورته القوي المتغلب في أذهاننا، والقادر دون سقوف، متفوقًا – في نظرهم – حتى على إرادة الله!