يأخذنا الفضول لرؤية الشّابة التي تركت مكانها لمسّن في الحافلة، نفرح بشاب فيه من النّخوة والمروءة ما جعله ينتصر لفتاة تمت مضَايقتها، يا لسعادتنا عند رؤية طفل يساعد كفيفا لعبور الطريق، وامتناننا لشخص قدّم المساعدة لعاجز في إنهاء مهمّته، وننتشي بذلك الذي رأى ظلما فلم يسكت عنه، نشيد بذلك الذي آثر المحتاج على نفسه، صور بقيت عالقة في الذهن لأخلاق وجمال أسرة معيّنة، للدّهشة التي تتركها أخلاق فتاة أو شاب ما في قلوبنا، وغيرها الكثير من مواقف الفضيلة في حياتنا اليومية.
أرأيت غربة الأخلاق في أمّة الأخلاق، هذا ما نتّفق عليه جميعا في زمن أصبح فيه الفرد ينبهر من رؤيته لأي خلق حسن، أو قيمة أخلاقية معيّنة قد تصدر من شخص، في حين أن المفروض هذا هو الطبيعي والعادي الذي يجب أن يكون عليه الفرد، فهل أصبحت الأخلاق والفضيلة والقيّم غائبة لهده الدرجة؟.
ذلك أن الأخلاق السيئة هي التي طغت، والتصرّفات المشينة انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم، في ظلّ عدم اكتراث منّا، ليس عدم انتباه فنحن نعيش في قلبها وننهض وننام عليها، وإنّما لا مبالاة قاتلة في خضم حياة مليئة بالتحدّيات والصعوبات التي أصبحت تواجه الفرد، فأدخلته في دوّامة مليئة بالماديّات والغثائيّات والمهاترات جعلته يلهث وراءها دون توقف، فقد الفرد فيها معنى الإنسان الحقيقي، وقيمه الجوهرية وطبيعته الانسانية.
صارت الجريمة أمر عادي في مجْمعاتنا للأسف ونستيقظ عليها صباح مساء دون أن نفعل شيئا
ما معنى أن تستيقظ يوميا على خبر قصة مأساة بشاعة اجتماعية، كل يوم قصة جديدة تنسيك في الأقدم منها وتزداد هذه القصص بشكل مخيف، وكأنّها في سباق مع الزمن، ولكنّه سباق نحو الهاوية والدّمار والتفسّخ الأخلاقي والانسلاخ الاجتماعي.
لا أعلم كيف أصبحنا نصدق ونستهلك قصص الخيّانة والسّرقة والقتل والاجرام والانتحار والاغتصاب واختطاف الأطفال وزنا المحارم والتنمّر والتشهير والابتزاز والمخدرات والشذوذ...هذه الأمور التي هي في الأساس غريبة علينا، فنمرّ على الخبر مرور الكرام، وإذا توقفنا عنده فالتَحليل والنّقاش وتوضيح الضحية من الجلاد، ولكنّنا لم نبحث عن الحل يوما، عن منبع المشكلة، عن كيفية إيقاف أحداث قادمة من هذا النّوع، وردع مرتكبيها بشكل قطعي لأن الوضع أصبح مخيفا، لا أبدا لأن موهبتنا الأولى أصبحت كثرة الكلام والتنظير وتراشق الاتهامات وتحميل المسئولية لطرف على الآخر وبدون أي جدوى، لنرجع وننسى الحدث وكأنّه لم يكن، إلى أن نستيقظ على واقعة بشعة أخرى تكون بمثابة الصفعة التي تذكرنا من جديد بحال مجتمعنا وأسرا وأفرادا.
بناء الأفراد في ظل تردي الوضع الأخلاقي أصبح أكثر من ضرورة
ولكن إلى متى ونحن على هذه الحال، إلى أين نريد أن نصل بهذا الإنحلال الذي لن نصل به أصلا، نحتاج حملة إنقاذ ما تبقّى من مجتمعنا، يتحدّثون عن أزماتنا السيّاسية والاقتصادية والثّقافية، وأزْمتنا الحقيقية هي أزمة اجتماعية أخلاقية. أليس كل شيء يبدأ من الفرد؟ وأن البناء والنهوض يبدأ منه وأنّه هو أولا وأخيرا، إن الفرد اليوم ليس بخير، ليس ذلك الفرد الذي بإمكاننا الاعتماد عليه وتحميله مسؤولية البناء وهو محطّم، علينا إنتاج فرد سوّي صحيح أولا، بصناعته عقليا وجسديا ومعالجته روحيا ونفسيا والعناية به فكريا ودينيا، وتقويته أخلاقيا وتَوعويا.
وإذا ما قلنا بناء الفرد فنَقصد به الحاضنة الأولى له ألا وهي الأسرة، هذه الأخيرة التي فقدت دورها الأساسي في بناء الأجيال، فركّزت في تكوينها على كل ما هو خارجي متناسية الأهمّ، وهو بناء الفرد من الدّاخل نفسيا وروحيا وقيميا، فنتج عن هذا الإهمال فرد مبهم فارغ روحيا، ضعيف إنسانياً متشرد أخلاقياً، مستوحش اجتماعيا.ً
فشل مهمة كل من الأسرة والمدرسة في إعداد الفرد
لتأتي بعدها مؤسسات التعليم التي من المفترض أن يكون دورها مكملا لدور الأسرة، لكنّها صارت ملاذا للقيام بما لم يُسمح به في الأسرة، وفرصة للانفلات، في ظلّ تغيّرات وتحديات تواجهها هي أيضا فَألزمتها بسياقها التعليمي دون التربوي والرّقابي أو بدرجة أقلّ، ومع غيّاب الدوّر الحقيقي المنوط بالمؤسّسات الدّينية يجد الفرد نفسه في قلب معركة المجتمع، تتلقّفه التيّارات والأمواج والعواصف، وهو بدون سلاح الدّين وأداة الأخلاق وقوّة الشّخصية وثبات المبادئ وزاد القيّم ونور العلم، ليواجه بها هذه التحدّيات ويحمي بها نفسه، فتكون نهايته إمّا أن يستسلم للأمر فيأخذه حيث يشاء أو عساه يقاوم فينجو بأقلّ الأضرار.
لسنا بحاجة للنّوع الأول لأنّه سبب التهلكة وأصل الانتكاس، ولا للنّوع الثاني المتخاذل والمفرّط الذي يسير دون بوصلة حقيقية، إنّنا ننشُد ذلك الفرد المسلم بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، المسلم ظاهرا وباطنا الفرد الذي يأخذ بكلّ دينه وليس ما يروقه منه فقط، ولا يخجل من تعاليم شريعته.
الفرد الذي يعطي الصورة الحقيقية للإسلام، فيكون مرَغبا فيه لا منفّرا منه، محبّبا فيه لا نابذا عنه، يبغض في اللّه ويحب فيه، رحيم بإخوانه شديد على أعدائه، فاهم لدينه معتزا به، عارف بهموم أمته واع بدوره فيها، صاحب أخلاق وقيم ومبادئ لا يحيد عنها بأي حال من الأحوال، ولا يتأثر بالظروف والمواقف والمادة ولا أي مؤثر أو ضغط خارجي، يقبل الاختلاف لا يظلم ولا يقبل الظلم، والكثير من صفات الفرد المؤمن التي تحتاج كتبا ومجلدات لإحصائها ولا يسعنا أن نذكرها كلّها.
الفرد هو أساس بناء المجتمعات وقيام الحضارات والأخلاق، والقيّم هي سرّ قوتها واستمرارها وهذا ما أثبتته السنن الكونية على مر العصور، فإذا ما فسد الفرد وتحلّلت الأخلاق واختفت الفضيلة تهدّم المجتمع و اندحرت الحضارة وحلّت الفوضى، وما حال أمّتنا هذا إلا أنّنا أهملنا قيمة الفرد ونسينا دور الأسرة وأهمية التنشئة الدينية والتربية الأخلاقية، فنتجت عنه أزمة أخلاقية عميقة، وسرطانا نخر بالأمّة نخرا، وإن الإسعاف السريع والمستعجل هو الحلّ بتوفير العلاج الضّروري لها بإعطاء روح جديدة ودم جديد ومناعة جديدة وقوة تحدي كبيرة لهذه الأمّة حتى تحيا من جديد، وتعود لطبيعتها الخيرية كونها خير أمّة أُخرجت للناس.