الملحدون والتطوريون حين أنكروا وجود الله تعالى، أنكروا أيضا أن هناك فطرة فطر الله تعالى الناس عليها، كما وقعوا في مأزق أنهم لا يملكون تفسيرا لأي من الظواهر الفطرية، كنزعة التدين، والنزعة الأخلاقية، والشعور بالغائية، والإرادة الحرة والغرائز، فهذه ظواهر غير مادية في الظاهر؛ لذا فقد بحثوا عن تفسيرات مادية لها، وادعوا أن كل هذه الظواهر لها أسباب مادية ضمن إطار التطور الدارويني، بحيث إما أن تكون الظاهرة الفطرية المعينة ناتجة عن جين معين أو مجموعة جينات، وإما أن تكون ناشئة عن صفات أخرى متعلقة بالجينات، انتخبتها الطبيعة، أو أن الظواهر الفطرية أو الظاهرة الفطرية المعينة قد تم انتخابها دارونيا، وذلك دون أن نعرف كيف ظهرت هذه الظاهرة ابتداء، لكنها ظهرت ثم انتخبت، أما الاحتمال الأخير أنه لا نعرف كيف ظهرت، فيتم هنا الإحالة على المجهول.
طبعا التفسير الذي يمكن فحصه واختبار صحته، هو ربط الظواهر الفطرية بالجينات، وحتى تدّعي أن صفة ما في كائن ما لها علاقة بجين معين، فهناك طرق علمية محددة لإثبات وجود هذه العلاقة، منها (إضافة جين - Gene Insertion)، للبويضة المخصبة، أو (حذف جين - (Gene Deleting، ومتابعة ما إذا أدى ذلك إلى ظهور أو اختفاء صفة معينة، وهذا ممكن في الحيوانات، وذلك مثل ما يسمى بالفئران محذوفة الجين، لكن حتى الآن لم يتم إجراؤه في الإنسان، بالإضافة إلى أنه يدخلها عوامل معقدة، وذلك كالأليات التعويضية، والتي قد تعوض عن الجين المحذوف مثلا.
لكن تبقى الطريقة الممكنة في الإنسان، هي أن تجري مسحا جينيا وتثبت أن المتصفين بصفة أو نزعة معينة لديهم جين ليس لدى الآخرين، وهم الذين لا يمتلكون هذه الصفة أو النزعة، أو أن لديهم جينات يحصل لها (تمثيل – (Expression بشكل مختلف عن الأخرين، فيما يعرف مثلا بالوراثة (فوق الجينية – (Epigenetics، وهذه الطريقة ربطت بعض الصفات الجسمية والأمراض بأسباب جينية.
الملحدون والدارونيون التطوريون أجروا ما يسمى (عملية درونة – Darwinization) لكل شيء، وكان مما دارونوه إن صح التعبير، الظواهر الفطرية، وهناك قائمة طويلة من الكتب التي قامت على هذا الأساس، مثل (الجين الإلهي – (the God gene، (الأساس التطوري للنزعة الأخلاقية - Evolutionary Origins of Morality)، (الأساس التطوري للحرية - the Evolutionary Origin of Freedom)، (نظرة دارونية للمحبة من قبل الوالدين - A Darwinian View of Parental Love)، (تطور الرغبة الجنسية التزاوجية – (The Evolution of Desire وغيرها الكثير.
هذا ولنتجاوز هنا دعوة الدارونيين إلى أن هناك صفات ظهرت بطرق لا نعرفها، لكنها انتخبت؛ لأن عبارة (لا نعرفها) ليست علما يختبر، فيبقى أن نختبر الربط بالجينات، وبناء على ما تقدم من الطرق العلمية لإثبات العلاقة الجينية بالصفات، هل أي من ادعاءات هذه المؤلفات عليها دليل علمي؟ هل تم تحديد أي جين مسؤول عن أية نزعة فطرية؟ والجواب الصادم: لا، إنما هي ادعاءات لا أساس علميا لها، أي إيمان أعمى دارويني، فهذه المؤلفات تتجاوز سؤال (هل يوجد سبب مادي بالفعل للظاهرة الفطرية؟)، وتعتبر الإجابة عنه محسومة، ووجوده حقيقة مسلمة، وتنتقل إلى مواضيع مثل مناقشة فائدة وجود الظاهرة الفطرية تطوريا، وذلك في كلام إنشائي عقيم.
هذه الدرونة لكل شيء بلا دليل، انتقدها حتى بعض الدارونيين الملحدين أنفسهم، ومنهم بروفيسور البيئة والتطور الملحد الدارويني، (جيري كوين - Jerry A. Coyne)، حيث في كتابه المعنون (لماذا التطور حقيقة؟ - (WHY EVOLUTION IS TRUE? قال كوين: (هناك ميل آخذ في التزايد بشكل مزعج من قبل علماء نفس وبيولوجيين وفلاسفة، لدرونة كل جانب من الجوانب السلوكية للإنسان، لتتحول تلك الدراسات إلى لعبة علمية جماعية، وإن إعادة تشكيل الطرق التي يحتمل أن الأشياء تطورت من خلالها، اعتمادا على الخيال الواسع، ليست علما، إنها مجرد حكايات).
وكاستثناء نرى (دين هامر – (Dean Hamer، وبخلاف باقي المؤلفين، قد تكلم عن جين معين لتفسير نزعة التدين لدى الإنسان، لكن هامر هذا بطل الادعاءات التي لا دليل عليها، بل حتى والتي يكذبها باقي الباحثين، حيث أقام كتابه (الجين الإلهي) على دراسة واحدة مدّعاة، وحتى لم ينشرها ولم تتكرر نتائجها مع أي باحث بعده حاول تكرارها، كما قال (كارل زيمر - Carl Zimmer): (حتى أن بعض الملحدين أنفسهم سخروا من ادعاءاته قائلين: لا يوجد إله ولا جين إلهي).
والحقيقة أن الذين يدّعون، أنه يمكن العثور على جين معين مرتبط بنزعة فطرية معينة، هؤلاء إما أنهم جاهلون بعلم الجينات جهلا مخزيا، مهما حملوا من ألقاب علمية كبيرة، أو أنهم يخادعون جمهورهم.
وذلك أن المعلومات العلمية من سنوات عن ارتباط الجينات بالصفات أعقد بكثير مما كنا نظن، وذلك كما ورد في ورقة علمية منشورة في مجلة (Nature) المعروفة، عام 2008، والتي تبين أن فك الشفرة الوراثية في مشروع (هيومان جينوم - Human Genome Project)، خيب الآمال، حيث وجد أنه حتى الصفات الجسمية، كطول القامة والأمراض العقلية كانفصام الشخصية، والتي يظهر أن لها ارتباطا بالوراثة، حتى هذه لا يمكن عزوها إلى جين، ولا حتى إلى مجموعة جينات معينة، وأن الأمر أعقد بكثير مما كان يدرس في المدارس والجامعات.
هذا وتنص دراسات أخرى على أن صفة سلوكية واحدة قد تكون مرتبطة بآلاف الجينات، التي يسهم كل منها في هذه الصفة إسهاما طفيفا، كما وتعترف هذه الدراسات بعدم القدرة على تحديد هذه الجينات المفترضة، هذا إن سلمنا لهم بأن هناك ارتباطا أصلا، فالموضوع من الواضح أنه شديد التعقيد والغموض، ومع ذلك يأتي أمثال هامر ليقولوا لك عبارة (الجين الإلهي)، وترى بعدها في الإعلام الغربي عناوين مثل: (هذا الجين المحدد قد يقرر، إذا ما كنت ستصوت لصالح الجمهوريين أو الديمقراطيين)، وذلك في تسطيح للموضوع واستسخاف واستغفال لعقول الناس، هذا وإن كنا لا نستغرب أن تمر هذه الادعاءات المضحكة على عقول بعض الشباب البعيد عن الأجواء العلمية، فمن العجيب حقا أن يتداولها أشخاص لديهم أدنى مبادئ البحث العلمي، أو أطباء أو طلاب في المجال الطبي والحيوي.
طبعا لا مانع من الناحية النظرية من أن يخلق الله تعالى في الإنسان جينات تعين على تكوين النزعات الفطرية، وإن وجد بالفعل، فإنما هو دليل آخر، على وجود الخالق وعظمته، لكن المعيب بالفعل هو أن يقيم الماديون تفسيرهم للظواهر الفطرية على أساس وجود هذه الجينات، أو على طرق تطورية لم تكتشف بعد كبديل عن وجود الخالق، وهم لا يملكون دليلا عليها، فينفون ما قامت الأدلة كلها عليه، بحجة ما لا دليل عليه، والمعيب أيضا هو أن ينكر علينا الملحدون إيماننا الغيبي بوجود الله تعالى وكل ما في الكون يدل عليه، بينما لا يجدون حرجا من الإيمان الغيبي، بوجود هذه الجينات أو التفسيرات التي لم تكتشف بعد ولا دليل لهم عليها.
هذا ويدّعي الملحدون أن إيماننا بوجود الخالق هو من قبيل سد الفجوات المعرفية، أي أننا لا نعرف سبب بعض الظواهر؛ فنفترض وجود الله تعالى لتفسيرها، وهذا ليس صحيحا في المنظومة العقدية الإسلامية، بينما الملحدون يمارسون هذا الإيمان الأعمى الدارويني لتفسير ظواهر فشلت ماديتهم في تفسيرها، حيث نفوا وجود الخالق، فكان لا بد من بديل، البديل المادي، الذي ينفي الروح والفطرة، فبنوا على هذا البديل قصورا ومزاعم وقصصا، وألفوا كتبا وأقاموا محاضرات على لا شيء وعلى وهم كبير، فهل هناك إيمان أعمى أكثر من هذا!! وهل هناك تحيز علمي وأحكام مسبقة أكثر من هذا!! كما ويدّعون خصومة بين الإسلام والواقع، وخصومة بين الإسلام والعلم التجريبي، مع أنهم في قولهم مثلا: (لا إرادة حرة لدى الإنسان، بل تحركه الجينات)، تتجلى قمة المصادمة للواقع، الذي يفرض أن الإنسان لديه إرادة حرة مهما أنكروا، كما ويتجلى عدم احترام العلم التجريبي في دعاوى الجينات بلا دليل، وهذا كله ضريبة معاندة الأدلة الفطرية على وجود الله تعالى.