يرى المسيري أنَّ الإنسان ينشأ في بيئة حضارية وثقافية لها نماذجها المعرفية؛ ويصطدم بنماذج مختلفة مُهيمنة، تفرض -تلك النماذج- حضورها على مُجتمعهِ وعلى وعيهِ؛ وهي نماذج ثَبُتَ نفعها في واقعها الذي صدرت عنهُ وهو "العالم الغربي"، وذلك نتيجة التراكم المعرفي؛ وعلى هذا فهي ليست نافعةً لمجتمعات أُخرى غير غربية!
وبالتالي؛ فإن هذه النماذج -المستوردة- ليست قادرةً على التعايش والتأقلم ومن ثمَّ التفاعل مع واقع المجتمعات غير الغربية، والمساهمة في تفسيرها وتغييرها؛ بل تؤدِّي في الغالب إلى مسخ وتشويه المجتمعات التي تتبنَّاها، كما تؤدِّي إلى تخلُّفها ثم تبعيتها ومن ثمَّ تدميرها؛ لأن المجتمعات حين تتبنَّى نماذج غير صادرة عن واقعها -بعد تفسير الواقع وتحليله- فإنها تتخلّى عن تحيُّزاتها الخاصة الناتجة عن واقعها التاريخي؛ وتبدأ في تبنِّي تحيُّزات مُجتمعات أُخرى وإن كانت ضدَّها، والأكثر من ذلك أنها ستذوب وتتلاشى كونها تنظُر إلى نفسها من خلال تلك النماذج التي فرضها عليها الآخر!
انطلاقًا من «الإفصاح عن التحيزات».. ما هو النموذج المعرفيّ البديل؟
من هنا؛ يرى المسيري ضرورة البحث في نماذج حضارية عربية إسلامية في مقابل النماذج المهيمنة والسائدة التي لا تُعبِّر ولا تنبُع من واقع الشعوب والمجتمعات العربية.
ويرى المسيري أنَّ تلك النماذج الجديدة التي يقدمها الباحثين من الحتمي أن تكون مشتملة على تحيُّزات كامنة فيها؛ ومن هنا فإنه يرى:
- ضرورة أن يُفصح كل باحث عن تحيُّزاته ويُوضِّحُها للقارئ؛ حتّى يَعِيها ويتجاوزها بوعي.
- يجب أن لا تكون تلك النماذج الجديدة بديلًا عن النماذج السائدة؛ بل أقرب إلى المجتمعات التي نبعت فيها، والتي تسعى لفهمها وتفسيرها.
- أن تقوم النماذج المقترحة بنقد النماذج القديمة، والإضافة إليها، وتوسيع حدودها إلى حضارات وشعوب غير أوروبية حتّى تتحوّل إلى نماذج إنسانية.
كما بيَّنَ المسيري فيما يطرحهً كيفيّة التحوُّل والانتقال من النماذج الحضارية الغربية المُتحيّزة إلى نماذج عربية إسلامية حضارية بديلة؛ وذلك من خلال القيام بعمليتين بعد تقديم رؤية للتحيُّز في المجال العِلمي وقبل تحديد النتائج العامة، وهاتان الطريقتان هما:
1- استخدام النموذج المتحيِّز المرفوض؛ لبيان مدى قصوره في إعادة النظر في عناصره وإعادة بنائها من جديد.
2- تحديد النموذج المعرفي المقترح وبيان مُبرِّرات اختيار تطبيقه.
وقد ضرب لنا المسيري مثالًا على ذلك من خلال مفهوم "التقدُّم"، كونه مفهوم محوري في الفكر الغربي -المادي- الذي ظهر انطلاقًا من النزعة الإنسانية والمنفعة واللذّة؛ ثم يقوم باستخدام هذا المفهوم لتقييم ما حدث مثلًا في مدينة عربية ما، وذلك خلال العقدين الماضيين.
فيقول: إذا أردنا معرفة مدى تقدُّم تلك المدينة العربية خلال تلك الفترة، سنجد أن التساؤلات ستدور حول (الانجازات، والاستهلاك في الطاقة والطرق الجديد…) وذلك على مقياس المفهوم الغربي للتقدُّم!
ولكن ستغيب تساؤلات عن (تماسك الأسرة، والقيم الأخلاقية، وتآكل الأشكال الفنيّة الشعبية…)، وذلك لأن تلك التساؤلات - التي غابت - ليس مِمّا يشملها المفهوم الغربي للتقدُّم!
وعلى ذلك يرى المسيري ضرورة أن يقوم النموذج الجديد المقترح بتوسيع مفهوم التقدُّم؛ بل ويرى أنه رُبَّما يكون من الضروري "التخلِّي" عن ذلك المصطلح - التقدُّم - كونه ترجمة لمفهوم غربي نابع من تربة غربية، ومرتبط بمرحلة مُحددة في التاريخ الغربي، كما ليس له شرعية تجعله يتجاوز الزمان والمكان.
وبناءً على ذلك، وعن طريق النموذج الجديد، والمفهوم الجديد سيتم رصد ما يحدُث بطريقة أكثر تركيبًا؛ بل يُمكن القول أنَّ النموذج الجديد سيكون أكثر موضوعيّةً، وذلك لأنه لا يُحاكم الواقع " العربي "من منظور غريب"غربي"، وإنَّما يُحاول رصده ووصفه بكل تركيبه.
ويظهر لنا أنَّ هدف المسيري هو اكتشاف بعض التحيُّزات الغربية الكامنة في مصطلحاتنا - كما في مصطلح التقدّّم الذي سبق ذِكره -، ومناهجنا وأدواتنا البحثية وقيمنا المعرفية؛ واقتراح مصطلحات جديدة، ومناهج وأدوات وقيم معرفية بديلة تتَّسم بأكبر قِسط من الاستقلال والحيادية.
وحينما نقوم بذلك، سنقوم بقياس تقدُّمنا وفق النموذج الجديد، ووفق مفهومنا الجديد للتقدُّم الذي وضعناهُ نحنُ من خلال رصد وتحليل واقعنا ووصفه بكل تركيبه، وسنتجاوز بذلك مفهوم التقدُّم المتمثِّل في "اللحاق بالغرب" الذي يفترض الغرب قيمة مطلقة وغاية؛ يتم من خلاله تحديد التقدُّم والتخلُّف؛ فإذا اقتربنا من الغرب صِرنا أكثر تقدُّمًا، وإذا تخلَّفنا عنهُ صِرنا أكثر تخلُّفًا !
وضرب المسيري مثالًا على الاجتهاد في هذا المجال من خلال المفهوم المختلف للتقدُّم الذي قدمهُ المفكّر الاقتصادي "عادل حسين " الذي رفض النموذج الغربي للتقدًّم، وقدَّمَ تعريفًا جديدًا له: ( باعتباره القدرة على تحديد نمط الاستهلاك المُلائم بمعايير مستقلّة، وبالتالي تحديد مضمون النمو الاقتصادي، وابتكار التوليفات التكنولوجية اللازمة لإنتاج هذا المضمون).
«هل نحتاج إلى التحيّزات الغربية الكامنة؟».. إليك قاعدتين من قواعد فقه التحيّز
وأكّدَ المسيري على ضرورة التركيز على تلك التحيُّزات الغربية الكامنة في المناهج والأدوات التي يستخدمها الباحثون العرب، والتي يعتبرها المسيري أكثر التحيُّزات شيوعًا وخطورةً؛ لأنها تُقدَّم ليس باعتبارها نتاج المحلية الأوروبية، ولكن باعتبارها عالميةً كونيةً؛ ولذلك فإنَّهُ من الأهمية فيما يُقدمه المُفكِّر الإسلامي:
ليس التأكيد على الطبيعة الإبداعية لرفض التحيُّز فقط، بل تعريف القارئ بالعملية التي يتم من خلالها التعريف على التحيٌّز وتجاوزه، ولا يتم ذلك دون أن يُتابع القارئ بنفسهِ عملية الانتقال من النموذج المرفوض (المُتحيِّز) إلى النموذج الجديد (المُستقل).
ويرى المسيرى أنه يجب علينا أن لا نجعل النموذج الذي نريده مُختزلا، كأن يكون نموذجًا اقتصاديًا ماديًا، ومن ثمَّ يستبعد من حساباته العناصر غير المادية.
وقد حدَّد المسيري قواعد فقه التحيُّز وجعلها على قاعدتين:
1- التحيُّز الحتمي:
- كالتحيُّز المرتبط ببنية عقل الإنسان ذاتها؛ حيث لا يقوم بتسجيل الواقع كالآلة الصمّاء بأمانة ودون اختبار أو إبداع، فهو ليس سلبيًا وإنما فعّال، فهو يُدرك الواقع من خلال نموذج، فيستبعد بعض التفاصيل، ويُبقي بعضها الآخر، ويُضخِّم البعض ويمنحه مركزية، ويُهمِّش الباقي.
- التحيُّز اللصيق باللغة الإنسانية نفسها، فلا توجد لغة إنسانية واحدة تحتوي على كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوّناته، أي إنه لا بد من الاختيار بين المفردات؛ كما ثبت أن كل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية، وأكثر كفاءةً في التعبير عنها.
2- التحيُّز الذي قد يكون حتمي ولكن ليس نهائي:
- كالتحيًّز (الواعي)، والتحيُّز (غير الواعي)؛ فالتحيُّز الواعي كمن يختار عقيدةً بعينها -أيديولوجية- ثم ينظر للعالم من خلالها، ويقوم بعملية دعاية وتعبئة في إطارها؛ والتحيُّز غير الواعي كأن يستبطن الإنسان منظومةً معرفيةً بكلِّ أولوياتها وأطروحاتها، وينظر للعالم من خلالها دون أن يكون واعيًا بذلك.
- ومن أهم تلك التحيّّزات - التي ليس لها نظير في الحضارات السابقة - ما نُسمِّه " تحيُّز واقعنا المادي ضدَّنا "؛ فالاستعمار الغربي قد دخل بلادنا، وهدمَ منازلنا التي تُعبِّر عن هويتنا، ثمَّ هدمَ مُدننا القديمة بتخطيطها الذي يُعبِّر عن منظومتُنا القيْميّة، ثمَّ بنى مُدنًا تُعبِّر عن منظومته القيْميّة، مثل: السرعة، والكفاءة، والتنافس؛ فالشوارع واسعة حتّى يُمكن أن للسيارات الكثيرة أن تسير فيها بسرعة.
إننا تركنا تراثنا، وتبنينا الآخر بكفاءة عالية، فلهم تراثهم ولنا تراثنا، ولنا حضارتنا ولهم حضارتهم، فقد تبنَّينا نموذجهم الحضاري والتهمنا منتجاتهم الحضارية، ووضعناها في بيئتُنا التي نتصارع معها!
كما يرى المسيري أنه بسبب جاذبية النموذج المعرفي الغربي ونتيجة لانتصاراته المعرفية والعسكرية، أصبحت محاولة اللحاق بالغرب هي جوهر جميع المشروعات النهضوية، ويتضح هذا أكثر ما يتضح في الفكر "العلماني الليبرالي" حيث قد حدَّدَ " النهضة " ابتداءً بأنها: نقل الفكر الغربي والنظريات العربية بأمانة شديدة، وتقبُّل النموذج الحضاري الغربي بكل مزاياه وعيوبه!
وفطِنَ المسيري -رحمه الله- إلى جُزئية هامة ترفع رايتها الحركات الإسلامية والجماعات الاشتراكية القومية؛ وهي: الحديث عن الهوية العربية والتأكيد على أهمية التراث.
فنجد محاولاتهم ما هي إلّا محاولة أخرى لتبنّي النموذج الغربي، لكن يأخذ شكل إعادة صياغة للهوية من الداخل على أُسس غربية، مع الحفاظ على هيئتها الخارجية عربية! حيث يُعاد اكتشاف التراث العربي والإسلامي من منظور غربي؛ وتُعاد صياغته بأثر رجعي!
حيث يبحثون عن كل ما يُشبه أو يُماثل الأفكار والاطروحات الغربية في التراث العربي والإسلامي، فيُشيعون بين الناس أن المعتزلة كانوا عقلانيين وأنَّ الفن الإسلامي تجريدي، وهكذا؛ فبيحثون في تراثنا عن كل ما يجعلنا نلتقي مع الغرب، أمّا غير ذلك مما يحفل بهِ تراثنا فلا يتفتون نحوه؛ فيُقيمون بذلك تدريجيًا قواعد التغريب بوعي وبدون وعي؛ من خلال صياغتهم للتراث العربي والإسلامي بأثر رجعي!
فيجب علينا أن لا نجعل الحضارة الغربية النقطة المرجعية المطلقة، ولا التشكيل الحضاري الذي يجب علينا اللحاق به! ولا يُمكن أن نتحرَّر من قبضة النموذج المُهيمن -النموذج الحضاري الغربي- إلا بعد توضيح نقاط ضعفه ومواطن قصوره.