من أهمِّ موادّ الإيمان ومقوياته توطينُ النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان من شُعَبِ الكفر والفسوق والعصيان، فكما أنّه لا بدّ في الإيمان من فعلِ جميعِ الأسباب المقوّيةِ المنمّية له، فلا بدَّ مع ذلك من دفعِ الموانعِ والعوائق، وهي الإقلاعُ عن المعاصي، والتوبةُ ممّا يقع منها، وحفظُ الجوارح كلِّها من المحرّمات، ومقاومةُ فتن الشبهاتِ القادحةِ في علوم الإيمان، والمضعفة له، والشهواتِ المضعفةِ لإرادات الإيمان، فإنّ الإرادات ـ التي أصلُها الرغبةُ في الخير ومحبته، والسعي فيه ـ لا تترك إلا بترك إراداتِ ما ينافيها من رغبةِ النفس في الشرِّ، ومقاومةِ النفس الأمارة بالسوء، فمتى حُفِظَ العبدُ من الوقوع في فتن الشبهات وفتن الشهوات تمَّ إيمانه، وقوي يقينه، وصار بستان إيمانه {كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [البقرة :265]
ومتى كان الأمر بالعكس، بأن استولت عليه النفس الإمارةُ بالسوء، ووقع في فتن الشبهات أو الشهوات أو كليهما، انطبق عليه هذا المثل، وهو قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *} [البقرة :266] .
فالعبدُ المؤمنُ الموفَّقُ لا يزالُ يسعى في أمرين:
أحدهما: تحقيقُ أصولِ الإيمان وفروعه، والتحقّق بها علماً وحالاً.
والثاني: السعيُ في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينِقصُها من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصّر فيه من الأول، وما تجرأ عليه من الثاني، بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *} [الاعراف :201] أي: مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائفِ الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا، تداركوا هذا الخلل بسدّه، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدُّوهم حسيراً ذليلاً، وإخوانُ الشيطان، {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ *} [الاعراف :202] فالشياطينُ لا تُقَصِّرُ عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبين لهم لا يقصّرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحقُّ عليهم الخسار، ولذلك نكثِرُ من الدعاء: اللهمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وزّينُه في قلوبِنَا، وكرِّه إلينا الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا مِنَ الرّاشدينَ بفضلِكَ ومنَّتِكَ إنّكَ أنتَ العليمُ الحكيمُ. (شجرة الإيمان، السعدي، ص 61)
تدبّر القرآن الكريم على وَجْهِ العموم:
إنَّ المتدبّرَ لا يزالُ يستفيدُ من علوم القرآن ومعارفه ما يزدادُ به إيماناً، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [الانفال :2] وهو العلاجُ الناجعُ لأمراضِ القلوبِ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *} [يونس :57] إنّه موعظةٌ من الله، وهل هناك أبلغُ من الموعظةِ الربانية؟! وأيسرُ منها؟! وأكثرُ نفاذاً إلى القلبِ والضميرِ؟!
ففيه الشفاءُ لأمراضِ الشبهاتِ والشهواتِ، وأمراض الهوى والانحراف، وأمراض الشكِّ والشرك، وأمراضِ القلوبِ والنفوسِ، والجوارحِ، والحواسِ، وأمراض السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع والحياة والحضارة، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الاسراء :82] فهو غذاءٌ للروح، وعلاجٌ يشفي النفوسَ من عللِّها، ويكسبُها المناعةَ القويّةَ. (شجرة الإيمان، السعدي ص 39).
ومن ثمراتِ تدبُّرِ القرآن: أنّه وسيلةٌ لمعرفة ما يريدُ الله منا، وكيفيّةُ عبادَته تبارك وتعالى، ومعرفة ما أنزل الله إلينا، لأنّ القرآن الكريم منهجُ حياةِ أنزله الله عز وجل، وهو أساسُ التشريع الذي يجبُ على العبادِ أن يتدبّروه، ويلتزموا بأوامره، ويجتنبوا نواهيه ليحقّقوا عبادةَ اللهَ تعالى. (شجرة الإيمان للسعدي ص 41)
وإذا نُظِرَ إلى انتظامِ القرآن الكريمِ وإحكامِهِ، وأنَّه يصدِّقُ بعضُه بعضاً، ويوافِقُ بعضُه بعضاً، ليس فيه تناقضٌ ولا اختلافٌ: تيقّنَ أنه {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فصلت :42] وأنّه لو كان مِنْ عندِ غيرِ الله لوُجِدَ فيه من التناقضِ والاختلافِ أمورٌ كثيرة، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء :82] وهذا مِنْ أعظمِ مقوّيات الإيمان، ويقوّيه من وجوهٍ كثيرةٍ، فالمؤمنُ بمجرَّد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما اشتمل عليه من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة، يحصل له من أمورِ الإيمانِ خيرٌ كبيرٌ، فكيف إذا أحسنَ تأمُّله، وفهمَ مقاصده وأسراره؟ ولهذا كان المؤمنون الكُمَّلُ يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [ ال عمران: 193] .
ملاحظة هامة: استقى المقال مادته من كتاب: "الإيمان بالله"، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد المقال أكثر مادته من كتاب: " التوضيح والبيان لشجرة الإيمان"، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.