يوم الخميس 17 شتنبر 2020، استضاف أ. شمس الدين حميود معدّ ومقدم برنامج ساعة فكر الأستاذ يوسف القرشي لمناقشة فائدة دراسة تاريخ الأفكار لبناء التصورات الفكرية، وفيما يلي نص الحوار. 

شمس الدين حميود: بدايةً وقبل العروج على محاورنا الرئيسية لابد أن تحدث في إضاءات حول ما يُقدمه الأستاذ يوسف على قناته على اليوتيوب في برنامج "على الهامش" وبرنامج "في 3".

يوسف القرشي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، الحقيقة برنامج "في 3" وبرنامج على الهامش هما برنامجان نتج كلاهما عن الآخر، برنامج "في 3" بدأ عام 2015 حيث انطلقت أول حلقة من البرنامج بعد أن بدأت فكرته في عام 2014، وقد كان يدور من حيث الأساس حول صناعة محتوى عربي مُختصر يُحاول أن يخدم القاعدة الفكرية العربية من خلال تعريف المصطلحات بطريقة مختصرة وموضوعية بعيداً عن الآراء ومقتربة من الناحية الأكاديمية أكثر حتى يستطيع كل من يُريد أن يتعرف على مُصطلح أكثر أن يعود إلى "في 3" ويأخذ نبذة عنه ثم ينظر إلى المراجع والمصادر الموجودة في الأسفل حتى يأخذ صورة أكبر، ثم جاء على الهامش حتى يُكمل صورة مختلفة فقد كان على الهامش ليتكلم حول المواضيع التي كانت جافة نوعاً ما وبعيدة عن الرأي والذات في برنامج "في 3" ويتكلم عن بعض الآراء الشخصية التي كنت أحتفظ بها في ذلك الوقت أو أشرح فيها مواضيع أخرى، لكن فكرة على الهامش تطورت لاحقاً وأصبح هناك بودكاست على الهامش الذي أصبح يتكلم ويغوص في الذاتية، إن صح التعبير، ويبتعد عن المجال الأكاديمي لِأننا شئنا أم أبينا في مجال الفكر العربي بحاجة إلى المجال الموضوعي الأكاديمي والجاف وفي نفس الوقت بحاجة إلى إعادة الروح الرومانسية بالمفهوم العلمي والعودة إلى العاطفة النصية العربية المتعلقة بالقيم والمعاني والمفاهيم العربية.

 

لكن حقيقةً، على الهامش سواء في صيغته على بودكاست أو في صيغته الآرائية التي تتحدث عن موضوعات مختلفة هو في أساسه تعبير أكثر ما يكون عما يجول في خاطري من كونه مشروعاً علمياً، لكن "في 3" هو المشروع الذي آمل أن يستمر بإذن الله عز وجل وهو مستمر منذ 5 سنوات حتى الآن ربما يختلف التردد والإيقاع شيئاً فشيئاً من فترة إلى أخرى لكننا والحمد لله حتى الآن مُحافظون على حلقة واحدة شهرياً ونأمل أن ننتقل إلى مرحلة متقدمة عن هذا إن شاء الله إذا تم لنا التفرغ لهذا المشروع وربما يستمر معنا هذا المشروع طيلة حياتنا، وفي الحقيقة الهدف الأساسي من هذا كله هي أن نكون لبنة وخطوة.

فمن الصعب أن يكون شخص واحد له أثر كبير في حركة فكرية لأمة كاملة خاصة في هذا الوقت، ولكن يستطيع كل واحد منا أن يكون لبنة أو خطوة لبناء صرح أكبر منا جميعاً وهذا الصرح يبني للأجيال القادمة مكاناً يستطيعون فيه العمل والتكلم حول المواضيع الفكرية والمواضيع العلمية دون سلطة ثقافة غالبة أو ثقافة مهيمنة تحرمهم من صلاحية صك المصطلحات وصلاحية العمل داخل مجالهم الفكري باستخدام مصطلحاتهم الخاصة.

شمس الدين حميود: أستاذ يوسف كيف استطعتم جمع هذه الأفكار في وقت قصير؟

يوسف القرشي: في الحقيقة يرجع هذا الموضوع إلى عدد من العوامل، فالعامل الأول يعود إلى وضوح الفكرة في ذهن الكاتب أو المُعد، فإذا كانت الفكرة واضحة عند مُعد البرنامج أو مُقدم البرنامج فمن السهولة أن نوصلها للجمهور بصورة واضحة ومُختصرة لكن إذا كانت الفكرة غير واضحة في الأساس عند المُعد وعند المُقدم فسيكون هنالك صعوبة في إيصال الصورة بطريقة مختصرة فهذه نقطة.

النقطة الثانية لها علاقة بموضوع أنا أحبه وربما كررته كثيراً استعرته من الأستاذ المسيري، الأستاذ المسيري دائماً يذكر أن المصادر والمصطلحات والنماذج الفكرية دائماً تتفاعل في عقل القارئ، والذي يفعله القارئ عندما يأخذ الفكرة ويهضمها هضماً حقيقياً يستطيع أن يُخرج منها مفاهيم خاصة به، فعندما نقوم بشرح مثال معين من خلال البودكاست مثلاً أو من خلال "في 3" فالذي يحدث في الحقيقة ليس أنني آتي إلى مجموعات نصية وأنقلها وهذا منتشر جداً فأنا كل مصطلح أقوم به دون استثناء بتفقد المادة العربية عنه، وللذي يُلاحظ أنا أضع مصادر للاستزادة في الأسفل فهذه المصادر أحرص على أن يكون منها مصادر عربية ولكن للأسف المواد العربية في هذا السياق إما خفيفة جداً وإما إن كانت موجودة فإنها ذات نوعية غير مُركزة أو أنها مُعدة بطريقة غير احترافية لِأن الغالب يعتمد على النقل النصي؛ فيأتي مثلاً يُريد أن يُعرّف الديموقراطية فيذهب للمصادر التي تحدثت عن الديموقراطية ويأتي بالتعريفات كما هي، فالذي يحدث أنه يأتي بنسخة من ويكيبيديا وينقلها ترتيلاً فهذه مشكلة كبيرة، والذي يحدث أيضاً في كثير من الأحيان أن الذي يُنتج الإنتاج العربي يكون يُريد أن يُحصل المزيد من الإعجابات أو يُزيد عدد المشاهدات فيذهب إلى المزيد من المؤثرات الصوتية والمزيد من المؤثرات البصرية والمزيد من طُرق التشويق حتى يُحصل المزيد؛ لكن المُشكلة في هذا أنه يُخفف من نوعية المادة الأكاديمية وما نُحب أن نؤمن أننا نفعله في برنامج "في 3" هو أننا نتجاوز الزمان والتريند بإعطاء مادة "في 3" دقائق بحيث أن من يُريد أن يفهم ويستوعب مفهوم ما بعد عشر سنوات أو ما بعد خمسة عشر سنة باللغة العربية يستطيع أن يرجع لها.

بالرجوع إلى سؤالكم كيف نختصر مادة بما نعتقد أنها جودة جيدة في وقت قليل، بعد توفيق الله عز وجل الموضوع له علاقة بهضم المفهوم كاملاً وهضم المُصطلح، لِأنني عندما أُريد أن أُعد حلقة عن البيروقراطية مثلاً فأنا مُضطر ذاتياً أن أقرأ في الموضوع كمية ضخمة جداً ربما خلال الشهر كاملاً أقرأ واستمع للموضوع ثم عندما يفيض الإناء بالموضوع أبدأ بكتابته بكلماتي أنا وليس من خلال النقولات النصية.

وهذا يجعل من أمامي (أتمنى ذلك) يفهم بشكل جيد لِأنني أنا حاولت أن أفهمه بشكل جيد هذه هي الفكرة؛ فأنا أُعامل المُتلقي كما أُعامل نفسي، فأنا قد عملت أستاذاً بالمدارس الثانوية لفترة مما أعطاني خبرة كبيرة نوعاً ما في أن أرى كيف بإمكاني أن أوصل الأفكار الكبيرة لجمهور غير متخصص وهذا يحتاج لوقت لكن عند إتقانه يوفر الكثير من الوقت علي وعلى المستمع. 

 

دراسة تاريخ الأفكار.. "عندما تفهم أفكار الإنسان فأنت تفهم الإنسان"

شمس الدين حميود: بارك الله فيك أستاذ يوسف على هذه الإفادة، الآن لو أتينا إلى محور حديثنا لقلنا أن التاريخ كان معنيا بدراسة وتسجيل الحوادث الاجتماعية والطبيعية ونحوها، فما الذي يمكن أن يكون القصد من هذه العناية والأفكار ذاتها، المقصود بالأفكار هنا الأفكار السياسية ومجمل الآراء والنظريات والمفاهيم والتصورات العامة التي يكون الفكر البشري في مجالات شتى أقصى التعبير عن ظاهرة أو معنى، بهذا يُمكن القول أن تاريخ الأفكار يُعنى بدراسة النشأة للأفكار وظروفها ومضامينها وحتى صراعات المدارس فيما بينها، وحتى نترك التفصيل لأهل الاختصاص أتسائل فقط لماذا كل هذا؟ وما الهدف منه؟ وما هي المنهجية أولاً وهل هناك حافزٌ يدفع للعناية أكثر بعلم تأريخ الأفكار؟

يوسف القرشي: دعني أرجع خطوتين للوراء وأقول في الحقيقة عندما نتحدث عن تاريخ الأفكار فنحن بالضرورة نتحدث عن الإنسان، بل ربما نتحدث عن الإنسان عندما نتحدث عن الأفكار أكثر مما لو كنا نتحدث عن ذاته المحسوسة أو الملموسة والتي هي الجسد، جسد الإنسان ليس نتاجاً إنسانياً، هو مثل الطبيعة والكون وجميع الكائنات فكلها ليست نتاجاً إنسانياً لكن الإنسان يعيش فيها متأثراً بها ومؤثراً فيها نوعاً ما من خلال السننية ومن خلال القوانين الموجودة فيها ولكنه في النهاية جزء من معادلة لم يصنعها هو، فهذا الكون وهذه الطبيعة وهذا الإنسان هو خلق من خلق الله عز وجل وبالتالي فنحن عندما نُريد أن نتعرف إلى الله عز وجل فنتعرف عليه من خلال آلائه ومن خلال الوحي وبالتالي فنحن عندما ندرس الطبيعة والإنسان فسيولوجياً أو بيولوجياً أو غير ذلك أو عندما نذهب إلى دراسة الكائنات المختلفة فنحن نتعرف على خالق هذه الكائنات وهو الله سبحانه وتعالى.

فبالتالي عندما نُريد أن نتعرف على الإنسان فنحن لابد لنا أن نتعرف على المُنتجات الإنسانية إن صح التعبير، وبالتالي دراسة العمران والمدنية والحضارة والمجتمع والسياسة والاقتصاد وغيرها في النهاية هي طُرق لفهم الإنسان من خلال ما أنتجه، وكل هذه المنتجات وغيرها متجسدة بقوة في الفكرة الإنسانية لذلك عندما تفهم أفكار الإنسان فأنت تفهم الإنسان.

وفكرة تطور الأفكار هي تطور مُذهل للغاية لأن قدرة البشر على أخذ حدث ما وتحويله لفكرة مجردة أو العكس هي عملية معقدة للغاية، الآن نقوم بها بغاية البساطة ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة بصورة مستمرة.

فالجوع مثلاً له جانب حدثي وهو جانب الشعور البيولوجي بألم مُعين في المعدة يُفيد بإرادة الطعام، لكن الإنسان استطاع أن يأخذ هذه الفكرة ويجردها ليصفها بالشعور المفرط لحاجة ما؛ هذا وإن رآه البعض أمراً طبيعياً جداً إلا أن هذا ليس أمراً سهلاً على الإطلاق حتى أن بعض علماء التطور البيولوجي اضطروا لاعتبار أن هذه الميزة والتي يُسمونها بالدمج المُتقدم على مُفارقة في السجل التطور الإنساني اعتماداً على نظريتهم التطورية حتى أن أولئك الذين لم يستطيعوا أن يجلبوا لأنفسهم الإيمان بخالق معين استخدموا السجل التطوري ليُحاولوا إثبات أن فكرة الدمج هذه ليست فكرة سهلة إطلاقاً وبالتالي هذه الفكرة التي هي القدرة على تجريد شيئين من ذاتهما ودمجهما في شيء جديد حسب النموذج التطوري يحتاج إلى جهد مُعقد للغاية ووقت طويل لم يكن الإنسان الأول القدرة على فعله.

وبالمناسبة، جزء من التعب الكبير الذي يحدث اليوم في عالم الإنترنت وإنترنت الأشياء وأبحاث الروبوتات المُتعلقة بإيجاد الكموميات لكل شيء وتجريدها وفصلها عن الشيء نفسه أو الشيء الذي سبب هذه الحالة حتى يُمكننا تعميمها، أبسط مثال على هذا المجاز؛ فالمجاز وصعوبة فهمه من قبل الآلة مثال مهم جداً في هذا السياق لِأن هذا يُظهر قدرة الإنسان على استجلاب فكرة ما وتجريدها عن أصلها، فعندما نتكلم مثلاً عن إنسان ما وأقول أنه نهر وأقصد به أنه إنسان كريم أو أنه عنده من العلم الكثير حتى أنه يسيل مثل النهر؛ فهذه الفكرة التي نستخدمها نحن مجازاً وتصل مجازاً إلى الشخص المقابل بكل سهولة فهذه العملية ليست سهلة وهذا بالمناسبة على هامش الموضوع يجعلنا نرى الخلل الفظيع الذي حدث عندما غزت المدرسة السلوكية للعلوم الإنسانية.

فالمدرسة السلوكية أرادت أن تُخضع العلوم الإنسانية للمناهج التي تستخدمها العلوم الطبيعية حتى تنقل العلوم الإنسانية من كونها فلسفات لا معنى لها ولا أساس لها إلى كونها مدارس علمية مُعتبرة تستخدم المناهج الوضعية التي تؤمن بالمحسوس وكل ما تستطيع أن تلمسه وتحسه وأصحبت النظريات الإحصائية وأدخلت الرياضيات واللعب في الدراسات السوسيولوجية والسيكولوجية وغير ذلك، فهذا يُظهر لنا الخطأ الفظيع في إدخال المدرسة السلوكية للعلوم الإنسانية لِأن الذي حدث أنها تُريد دراسة الخلق الإنتاجي إن صح التعبير بنفس الطريقة التي تدرس بها الخلق الرباني، والذي يحدث دائماً أن السنن الكونية في الخلق الرباني متسقة ومستمرة ومن السهل جداً أن يتم التنبؤ بها وبناء نماذج معينة تستطيع قياس الماضي والحاضر والمستقبل لكن غالباً هذه النظريات تفشل في دراسة النتاج الإنساني لأن الإنسان بحد ذاته ليس كائناً مُنظماً وليس من السهولة التنبؤ بتصرفات الإنسان الواحد فما بالك بالمجتمع والأعقد منها الذي هو الحالة السياسية للمجتمعات الحضارية.

 

ثلاثية النموذج البذري: كيف يساعد هذا الإطار النظري على فهم الفكرة؟ 

المهم هو أن الأفكار هي الإنسان وأنا أقصد هنا أن الأفكار بصيغتها العامة وليست ضمن الطابع الأكاديمي أو الإطار المعرفي وما يجعل الأفكار مجالاً عجيباً هو فكرة أُحب أنا أن أُسميها بالفكرة الكائن حتى نستطيع فهم هذا المجاز نحن بحاجة إلى إطار نظري صغير يسمح للمتابعين الكرام بالمرور سريعاً على هذا الإطار الأكاديمي، وهذا الإطار الأكاديمي بالمناسبة أُحب أن أسميه النموذج البذري للفكرة وهو يتكون من ثلاثية تُساعدنا على فهم الفكرة في سياق أعم وأشمل من الحوارات الداخلة ضمن الإطار للفكرة نفسها، الثلاثية تتكون أولاً من جذر الفكرة وهو السياق الذي أدى للوصول إلى الفكرة فيمكن أن يكون أحداث سياسية أو أفكار سابقة وما إلى ذلك بغض النظر ولكن هذا هو الجو العام الذي أدى لإنتاج الفكرة، ثانياً تربة الفكرة هي البيئة التي تم زراعة البذرة الفكرية فيها وأدت بالتالي إلى نمو أو موت الفكرة، ثالثاً هي مرحلة ثمار الفكرة وأعني بهذا الأفكار المتفرعة عنها والتي انبنت عليها الفكرة الأولى، هذه الثلاثية تساعدنا على فهم أي فكرة بالنسبة لي على الأقل فهذا هو النموذج الذي أستخدمه لِأسباب:

لا تُخرج الفكرة المُجردة التي نُريد دراستها عن سياق التاريخ الاجتماعي لكن في نفس الوقت تُركز على الفكرة بذاتها وتركز على حواراتها الداخلية وحُججها وأثرها وتُركز على آثارها اللاحقة، التركيز على آثارها اللاحقة مهم للغاية لأن بعض الأفكار أحياناً تطور بدرجة تختلف وتُصبح نتاجاً مختلفاً حتى عن الفكرة الأولية التي منها، ومثال مشهور للمتخصصين مثلاً ماركسية ماركس وماركسية غرامشي.

هذا الإطار البذري إن صح التعبير أو الإطار الشجري هو إطار دائر أو مستمر بمعنى أن كل فكرة لها جذر معين أو هي ثمرة لفكرة ما وزرعت في تربة ما وهذه التربة أدت إلى نبت هذه البذرة وإعطائها ثمار معينة أو موت هذه الفكرة وزوالها من التاريخ، وهذا أيضاً يسوقنا إلى فكرة الدور طبعاً فهذه الفكرة نشأت من فكرة أخرى ومن قبلها فكرة وهكذا؛ وهذا الموضوع عليه نقاش كبير أي الأفكار أتت أولاً ولكن من وجهة نظري أنا ربما أن تكون الفكرة الأولى مُتعلقة بالوعي بالذات سواء كانت هذه بإدراك الخلق مع إحداث آدم عليه السلام أو إدراك إحداث الوجود، بالمناسبة هذا أيضاً على الهامش فحتى الذين يؤمنون بالنظرية التطورية يؤمنون بوجود مبدأ آدم عليه السلام بمعنى أنه حتى من يؤمن بالتطور في لحظة من اللحظات التاريخية التطورية للجنس البشرية أن هناك شخص معين انبثق عنده الوعي بالذات من كونه إنساناً أو كونه شيء مختلف وهذا الوعي بذات، هذه اللحظة جعلته الإنسان الأول والذي جعله الإنسان الأول هذا جعله مميز على البقية وبالتالي هذه اللحظة الآدمية إن صح التعبير موجودة سواء في النظرية الخلقية أو النظرية التطورية، الذي يُهمنا هنا أن هذا الوعي بالذات ربما غالباً يكون هو الفكرة الأولى.

لمعرفة فائدة هذا الإطار الثلاثي يجب أن نعرف أنه من خصائص أي فكرة إذا خرجت من القال إلى المجال العام فقد زالت الملكية من الفرد وانتقلت إلى ملكية النظام العام وبالطبع هناك مرجعية لأن فلان قال الفكرة وهذا علق عليها ولكن في النهاية أنت فقدت ملكية الفكرة وأصبحت ملكاً للعامة فكل شخص يسمع بها يفهمها بطريقته المختلفة ويأخذ جزءاً منها وينقلها فهذا النقل يشمل تعديلها وفق سياق المجتمعي الذي يقوله فيها فهناك نسخ متعددة من نفس الفكرة، وكأن الفكرة أصبحت كائناً مستقلاً عن صاحبها ولم يعد له سيطرة عليها، حتى بالنسبة لكارل ماركس في آخر حياته أصبحت الماركسية ظاهرة ثقافية أوروبية ولكنه هو أعلن وقال أنا لست ماركسياً لِأن الفكرة لم تعد هي الفكرة التي لديه فقد تطورت وأُخذت إلى أبعاد طويلة جداً ووصلت في مرحلة من مراحلها لدرجة يقول فيها الشخص نفسه الذي أنشأ الفكرة أنا لست من أتباع هذه الفكرة، وهذا أيضاً ما حدث للمذهب النيتشي أو النيتشاوي أصبح في ظل الحرب العالمية الأولى مثل الدين وهذا الدين لو عرف عنه نيتشه نفسه قال هذه هرطقة وتبرأ منهم نهائياً، فهذه أمثلة على انفصال الفكرة عن صاحبها.

والمهم عندنا ربما يأتي سؤال لماذا نُناقش الأفكار، أحد أهم المعايير في نقاش الأفكار أو المجردات بالعمومي هو أن هذا النقاش ونوعية الأفكار المُناقشة ومستوى الأفكار المُناقشة هو معيار كبير جداً لموقع الأمة في السجل الحضاري، أي أمة لِأن الأمم المتأخرة لا تستطيع من حيث الأصل أن يكون لديها ترف لنقاش التجريبيات لأن الواقع هو الشاغل الأساسي.

فلا تستطيع أمة مشغولة بالأحداث السياسية المتعلقة بمفاهيم بسيطة مثل البقاء على قيد الحياة أن تُناقش مفاهيم تجريدية مركبة مثل التقدم والنهضة والحرية وغير ذلك، طبعاً هذا من حيث القاعدة العامة لكن في عصر ثورة المعلومات الذي نعيشه الآن أصبح في بعض الأحيان أشخاص ليس لديهم مقومات الحياة الأساسية فضلاً عن مقومات الحياة السياسية الأساسية تراهم يتناقشون في مواضيع ليست ضمن بيئتهم. 

مثلاً عندما يتناقش أستاذان في بلد ديمقراطي عريق حول عزل الرئيس فهما يبنيان كمية لا بأس بها من الأفكار المتراكبة من الحرية والاستقلال وانفصال المؤسسات والصحافة والسلطات والأجهزة الأمنية إلى آخره، فعندما يسمع شخص ثالث من مكان آخر مشغول بأساسيات الحياة نفس الموضوع بحيثياته ثم يناقشه مع شخص آخر دون الحيثيات التي انبنى عليها من فصل المؤسسات وهكذا فإنه يبدو كأنه يقوم بإلقاء نكتة.

تاريخ الأفكار أو التاريخ الفكري كلاهما الآن مجال أكاديمي يتبع أقسام التاريخ غالباً وأحياناً الفلسفة وله مدارس وكتب ولكن في الحقيقة هو ينتمي إلى كل الأقسام وربما بالنسبة لي تنتمي إليه الكثير من الأقسام إن لم يكن كل الأقسام، وهذا المجال الأكاديمي في مختلف مدارسه يقوم بدراسة أهم الأفكار والمُفكرين في التاريخ البشري في سياقات مختلفة، وحتى نستطيع أن نفهم ونستوعب ما هو التاريخ الفكري يكون من الجيد أن نفهم هذا في ظل العلوم التي نعرفها نحن؛ فدعونا نفهم علاقة الأفكار بالفلسفة والفكر السياسي والتاريخ الثقافي وعلم الاجتماع.

 

ما علاقة الأفكار بباقي العلوم وبالحضارة الإسلامية؟

بداية بالتاريخ الفكري والفلسفة، الفلسفة تقريباً هي أم العلوم في العالم وكل هذه العلوم تقريباً حتى الفيزياء والكيمياء وما إلى ذلك من العلوم التي يُفترض أنها الآن طبيعية وخارج عن البيت الفلسفي، إن صح التعبير، هي في الأساس خارجة من الفلسفة ومن المعروف أن كبار الفلاسفة في البداية كانوا يتكلمون أساساً عن مسائل عقلية بحتة فسقراط وأرسطو والكثير من الفلاسفة لديهم كلام في الطب؛ فالمغزى من هذا أن الفلسفة تماماً مهتمة بالأفكار كما يهتم التاريخ الفكري بالأفكار؛ لكن الفرق أن الفلسفة تهتم بداخل الفكرة بمعنى أنها تهتم بالحوارات الداخلية للفكرة وما هو الصحيح وما هو الخاطيء وما هو المنطقي والمتناقض في الفكرة وهل هي متماسكة أم متهالكة منطقياً، لكن تاريخ الأفكار ليس مهتماً بهذا وإنما هو مهتم بالتاريخ من الخارج نوعاً ما؛ نعم فيه القليل من الحوارات الداخلية لكنه مهتم بالخارج أكثر فهو مهتم بالسياق الاجتماعي للفكرة وتأثيرها على باقي الأفكار في محيطها.

فمثلاً عندما يُريد أن يتكلم أستاذ في كلية الفلسفة عن أفلاطون فلنفترض أنه سيتحدث عن جدلياته وعن بعض أفكاره وعن تناقضها ومطابقتها للواقع اليوناني مثلاً، ولكن تاريخ الأفكار سيتناول الفكر الأفلاطوني من ناحية أخرى مثل علاقة أفكار أفلاطون بأفكار أرسطو أو علاقة أفكار أفلاطون بالتطور السياسي في اليونان أو علاقتها بالمدرسة المادية والمدرسة المثالية والمدرسة الرومانسية؛ فهو بهذا يتناول السياق الكلي والفكرة البعيدة أكثر مما يتناول الفكرة بحد ذاتها.

أما الفرق بين التاريخ الفكري والفلسفة السياسية أو التاريخ السياسي هنا يُصبح الوضع صعبا نوعاً ما لِأن التاريخ البشري في العموم تم تسجيله كتاريخ سياسي وهذا الذي جعل البعض يُطلق مفهوم الهوموبوليتوكس، والمقصود بالتاريخ السياسي هنا هو أن أغلب الأحداث التي سُجلت في التاريخ الإنساني هي أحداث سياسية سواء حروب أو معاهدات ودمار شامل من دولة إلى أخرى وحتى ابن خلدون يتحدث كتابه أساساً عن الملوك فنجد أن تاريخ الحضارة الغربية وكذلك الإسلامية والكثير من الحضارات يؤرخ لها حسب تواريخ الملوك والحروب وهكذا، وبالتالي فالتاريخ الإنساني معظمه تاريخ سياسي؛ لكن الفرق الذي يحدث أن الفلسفة السياسية والتاريخ السياسي يشرح الفكرة باعتبارها فاعلاً سياسياً، فما الذي فعلته هذه الفكرة بالنسبة للسياسة في بلد ما وما هي الفرق السياسية التي تبنت ذلك الحدث، فالذي يحدث أن الفاعلية السياسية هي المهمة في الفريق السياسي عندما نتكلم عن الأفكار، لكن الموضوع في تاريخ الأفكار أكثر عموماً ربما نتناول أفكار معينة وهذه الأفكار ليست بالضرورة ذات تأثير سياسي فقد تكون ذات تأثير اجتماعي أو تأثير آخر لكنها موجودة.

إذاً فالأفكار السياسية هي ذروة الاهتمام الإنساني وهذا قد يكون لأن الأفكار السياسية أو الأحداث السياسية تؤثر على مجال كبير جداً فعندما نتحدث عن معاهدات معينة، هذه المعاهدات أثرت في بعض الأحيان على كل دول أوروبا في وقت واحد وهذه الحروب أثرت على كل الحضارة الإسلامية في وقت واحد، فبالتالي عندما تُريد أن تتكلم عن بقعة صغيرة وتقارنها ببقعة كبيرة فمن الصعب أن يأتي مؤرخ ليُقدم البقعة الصغيرة على البقعة الكبيرة.

من المجالات الحديثة نسبياً والتي نُريد أن نفرق بينها وبين التاريخ الفكري فكرة التاريخ الثقافي، التاريخ الثقافي هو تقريباً النموذج الأوسع للتاريخ لأن التاريخ الثقافي يهتم بالأفكار باعتبارها عنصراً ثقافياً مثل المقطوعة الموسيقية ومثل اللوحة الفنية والقصيدة الشعرية وغير ذلك فهذه كلها تُبحث من حيث أثرها الثقافي، وبالتالي الذي يحدث عندما يتعاطى مؤرخ ثقافي مع فكرة ما فهو يتعاطى مع أثرها الثقافي وليس السياسي وليس الاجتماعي، فالثقافة هي الأوسع من البعد السياسي ومن البعد الاجتماعي لأنها تقريباً المكون الحضاري الأوسع، وبالتالي عندما يتكلم مؤرخ عن الفكر الماركسي وفي نفس الوقت يتكلم عن الأوبرا النمساوية ويتكلم عن الغناء في البندقية ويُساوي بين هذه في أثرها الثقافي، ولذلك يقول مؤرخي الأفكار أن مؤرخي الثقافة أنهم شعوبيون منهجيون لأنهم في العادة يتوجهون للعامة. فعندما يُقال عن الإنسان أنه شعبوي فهذا نوع من الازدراء، في المقابل مؤرخو ومفكرو الثقافات يتكلمون عن مؤرخو الأفكار فيقولون هؤلاء نخبويون منهجيون بمعنى أنهم يُريدون فقط دراسة الأفكار العالية التي تتعلق بالتأثير الكبير ولا يدرسون الأمور الصغيرة.

من الكتب الجميلة التي يُمكن قرائتها لفهم الفكرة العامة المتعلقة بالتاريخ الثقافي هو كتاب يحكي عن قصة شعبية كانت منتشرة في الأحياء الفرنسية في ذلك الوقت فليست لها علاقة بالأكاديمية ولا بالنخبة وهي تُظهر كيف كان يُفكر العوام في ذلك الوقت وتُظهر الفروقات الهائلة بين التفكير الأكاديمي في ذلك الوقت والتفكير العمومي.

وأخيراً بين التاريخ الفكري وعلم الاجتماع، علم الاجتماع يُفترض أن يكون على قُرب كبير من تاريخ الأفكار وهذا حقيقي في جزء كبير من تاريخ الأفكار هو عمل سوسيولوجي لكن ما يحدث إذا كنت عالماً اجتماعياً أو تعمل من خلال السوسيولوجيا في علوم الأفكار فأنت بالضرورة تعامل الفكرة كناتج عن السياق الاجتماعي ولا تُعامل السياق الإجتماعي كناتج عن الفكرة لأن الأساس عندك في المنهجية لديك متعلق بالحراك الاجتماعي والسياق الاجتماعي، في علوم الأفكار لا، فإن الفكرة تُعامل على أنها هي الأساس، قد يقول هنا قائل لماذا لم نذكر الأيديولوجيا بما أن كلمة أيدولوجيا تعني حرفياً علم الأفكار، والحقيقة أن قصة طريفة لأنه من صك هذا المصطلح هو الفرنسي de tracy عندما أسسه في بدايات القرن التاسع عشر كان يُريد أن يُنشيء علماً لدراسة الأفكار لذلك جاء بالاسم لكن الفرق الذي حدث أو المدرسة التي تبنت دراسة علم الأفكار وقفت ضد نابليون وقد كان له أثر كبير عسكرياً ولكن ما له من أثر فكري كان أكبر لأنه كانت له العديد من النشاطات العلمية وأسس العديد من المدارس العلمية وكان له تأثير على الفلسفة الألمانية عندما قام باحتلال ألمانيا.

فالذي حدث أن نابليون كان يتبنى نظرة سيئة عن الأيديولوجيا فأصبحت كلمة أيديولوجيا تحمل معنى أجندة سياسية وبلغ هذا أوجه مع كارل ماركس خصوصاً عندما أصبحت الأيدولوجيا هي الأسلوب المنهجي الفكري الذي يستخدمه الرأسماليون والأروستوقراط والبرجواز ويستخدموه للطبقة العاملة وما إلى ذلك.

فأصبح هناك حمولة سيئة جداً لفكر الأيدولوجيا وهذا استمر إلى بدايات القرن العشرين وكان غرامشي وغيره لهم تطويرات على هذا المفهوم ولكن الذي حدث أن فسدت سمعة الأيدولوجيا فلم يعد هناك أي شخص يُريد أن يُدخل نفسه في هذا السياق، وأصبحت فكرة الأيدولوجيا تُطلق تماماً على الإطار التفسيري الذي تستخدمه الجماعات السياسية لتبرير أو تكوين مواقفها السياسية فأصبحت كلمة مضادة للعلمية والأكاديمية فترك الناس استخدامها.

 

هنا يتأتى لنا سؤال آخر ألا وهو هل علم الأفكار علم جديد؟ في الحقيقة مثل كل العلوم، الإجابة على هذا السؤال هي نعم ولا، فنعم لأن صورته الحالية هي مشروحة داخل الغرب بامتياز سواء بدايته مع أكثر التغييرات إيجابية مع فرانسيس بيكن ثم جماعة التنوير وهيقل الذي كان يعتبر أن الوجود أساساً مبني على الأفكار في مسار يُعرف لاحقاً بالمثالية وصولاً إلى تلميذه الذي يعده الكثيرون مؤسساً لعلم الأفكار وهو دلتاي الذي يُعتبر المؤسس لعلم الأفكار من خلال مقعده في كرسي هيجل في جامعته بألمانيا، ومن الطبيعي أن تمر بآرثر لڤجوي ونظريته المشهورة التي هي وحدة الأفكار أو أفكار الوحدات أو الفكرة كوحدة إلهية أو تاريخية والذي نقل تاريخ الأفكار إلى أبعاد جديدة والذي حدث أن نظرية وحدة الأفكار هذه سيطرت على تاريخ الأفكار لفترة طويلة جداً وهذه النظرية تعني النظر للتاريخ من خلال فكرة واحدة فتأخذ الفكرة وتنظر من خلالها للتاريخ بصورة طولية لتفهم هذه الفكرة كيف تطورت وكيف انبنت، طبعاً له وعليه نقودات كثيرة ولكن هذا المنهج استمر كثيراً في تاريخ الأفكار ثم وصلنا بعد ذلك إلى المدرسة ما بعد الحداثية مع فوكو وغيرهم فنقلوه نقلة أخرى حتى أصبحت فكرة الفكرة غير موجودة أحياناً وليس لها معنى فاستبدلت بفكرة السردية وما إلى ذلك؛ وقد كان هذا بالنسبة لجواب نعم.

أما بالنسبة لهل مجال تاريخ الأفكار هو مجال جديد؟ فلا، لإن الكثير من العلماء عملوا في تاريخ الأفكار وإن لم يكن بشكل مستقل سواء بتسجيلها ضمن الكتب الفلسفية أو الكتب التاريخية وحتى كتب العلوم في بعض الأحيان سواء عند الحضارة الغربية أو الحضارات الأخرى، والأهم بالنسبة لنا حضارتنا الحضارة العربية والإسلامية فالحضارة العربية الإسلامية كان لها السبق في التاريخ الفكري لسببين، السبب الأول أنها بذاتها كانت حضارة إنتاج فكري خاص بها ومتين وقوي وكثيف ومنقول ومُسجل بدقة شديدة جداً وبالتالي زودت البشرية بكمية كبيرة من الأفكار وسجلتها ودققتها وتقريباً كل الأفكار من التاريخ الإسلامي معروفة تاريخياً متى بدأت في الفترة العامة التي وردت فيها تلك الأفكار، ثانياً لأن الحضارة الإسلامية كانت ناقلاً عظيماً للكثير من الأفكار الأخرى. 

 

الدراسات العرضية والخطية والعمقية.. بين يديك 3 مناهج لدراسة تاريخ الأفكار 

هذه هي المقدمة السريعة فيما يتعلق بلماذا ندرس تاريخ الأفكار وعلاقته بالعلوم الأخرى ووجوده في حضارتنا الإسلامية أو غير ذلك، الآن ما هي المناهج المتعلقة بدراسة الأفكار أو كيف ندرس الأفكار تبعاً للمدارس المنهجية داخل التاريخ الفكري، هناك ثلاثة طرق لدراسة التاريخ الفكري:

فالمنهج الأول له علاقة بالدراسات العرضية وهي تعني التركيز على المقطع الفكري العرضي يعني مجموعة أفكار معينة في وقت واحد، يعني مثلاً نقول مجموعة الأفكار المنتشرة في المغرب العربي في القرن الواحد وعشرين فهذا مقطع عرضي.

المنهج الثاني هو منهج الدراسات الخطية مثل دراسة آرثر لڤجوي وهي مثلاً أن نأخذ فكرة الحرية وندرسها بداية ببلاد الرافدين وما بين النهرين والهند واليونان وأوروبا وكل هذه فأدرس نفس الفكرة على مدى التاريخ كله.

المنهج الثالث هو منهج الدراسات العمقية وهي تعني أن تأخذ مجموعة من الأفكار في فترة زمنية معينة تجمع ما بين المنهجين ثم تأخذ عمقها في التاريخ فتأتي مثلاً للإطار المفاهيمي المتعلق بالديمقراطية أو الحرية الاقتصادية مثلاً وتأتي به على مدى التأريخ فتأخذ مجموعة من المصطلحات كمقطع عرضي ثم تأخذ عمقها في التاريخ.

ربما يجدر بنا هنا الإشارة إلى أن هذه المناهج هي المناهج المتبعة لكن الدراسات في تاريخ الأفكار بدأت تأخذ منحى ـ للأسف أقول بسبب تطور الدراسات اللغوية ـ لغوي وهي تحليل النصوص، وحقيقة إذا بقي هذا سوف يدخل عالم تاريخ الأفكار إلى زاوية اللامعنى قريباً للأسف.

لنأخذ مثال تطبيقي على التأريخ وفهم الأفكار من خلال هذه السياقات، لنأخذ المثال على فكرة دراسة المصطلح في سياقاته التاريخية وفهم أثر السياق التاريخي في دراسة المصطلحات الأخرى، قبل أن أبدأ يجب أن أقول أن هناك تصنيف للأفكار منتشر في عالم التاريخ الفكري له علاقة بتصنيف الفكرة بناء على مصدرها فهناك فكرة عضوية أو فكرة هيمنية تأتي من الهيمنة الخارجية وبالتالي لا يمكن اعتبارها مفهوماً خاصاً بالأمة، والفكرة العضوية تأتي من داخل الأمة أو المكون الحضاري للحضارة، هناك بعض المفاهيم تشوهها المفاهيم التي بجانبها ومفاهيم الحضارات التي بجانبها؛ لنفترض أن هناك مفهوم حرية في دولة ما ومفهوم حرية في دولة أخرى بجانبها أقوى منها فمفهوم الحرية في الدولة القوية سيؤثر على مفهوم الحرية في الدولة الأخرى حتى وإن كان مفهوم الحرية في الدولة الصغيرة هو الأفضل والأنقى والأقوى منطقياً لكن الحمولة المفاهيمية هنا سوف تؤثر بالتأكيد، لكن أنا أحب أن أستخدم تقسيمات أكثر دقة وهو فكرة الأفكار العضوية أو الأفكار الذاتية والأفكار المشتقة.

 

السلطة والديمقراطية والشورى

حتى يتضح أكثر المثال هناك ثلاث مصطلحات مصطلح الشورى ومصطلح السلطة ومصطلح الديموقراطية، هذه الثلاثة مصطلحات كل واحد منها له حمولة مفاهيمية مختلفة ولكن كيف سنفهمها، وسوف نبدأ بتحليل معين.

أولاً السلطة مصطلح مشترك وليس مصطلح عضوي أو ذاتي في الحضارة، لأن السلطة بحد ذاتها ظاهرة بشرية موجودة في كل المجتمعات وبالتالي فليس هنالك ليس هناك حضارة على حد علمنا لن يكون فيها تجسيد لمفهوم السلطة سواء كانت سلطة دينية أو سياسية وغيرها؛ فمن السهل شرح هذه الفكرة أو ترجمتها من لغة إلى أخرى لأنها فكرة مشترك إنساني موجود في جميع الحضارات وجميع الدول والثقافات لأن فكرة فرض رأي ما أو فرض سلطة من شخص إلى آخر أو إلى مجموعة فهذا شيء منتشر في التاريخ الإنساني وليس هناك داعي من شرحه أساساً.

بينما مصطلح الديمقراطية هو مصطلح نشأ وتطور يونانياُ ثم رومانياً حصراً، ولكن هذا لا يعني أنه لم توجد تجسدات ديموقراطية في أماكن أخرى من العالم، بل على العكس أكبر تجسد ديموقراطي جماعي هو في بلاد الرافدين حتى أنه كان عند البابليين أمامهم والفينيقيين في لبنان، ولكن المصطلح بحد ذاته نشأ وتطور يونانياً ثم رومانياً فالمصطلح نتيجة لنضوج الفكرة.

أما مصطلح الشورى فهو مصطلح نشأ ضمن الحضارة الإسلامية، فبالتالي مصطلح الشورى ومصطلح الديموقراطية حتى لو كان بينهما مساحات مشتركة إلا أن التربة التي غُرست فيها البذرة والثمار والأفكار التي أنتجتها مختلفة كثيراً عن بعضها ومن هنا نستطيع أن نفهم عيب الشخص الذي يقول أن الشورى هي الديموقراطية الإسلامية أو النسخة الإسلامية من الديموقراطية.

وذلك لِأن الجذور والبذور مختلفان، فعند دمجهما معاً الناتج يكون مسخا وهذا يحدث لأن الشخص يُريد أن يُظهر أنه لدينا ديموقراطية ولكن عندنا اسمها شورى، فهكذا عندما نقوم بدراسة مصطلح الشورى ضمن بيئته وتطوراته وتجسيداته على مدى التاريخ يمكننا فهم آراء السياسة الشرعية وآراء كتاب الأحكام السلطانية وحتى كلام الجماعات الإسلامية الحديثة وغيرها ويمكننا فهم أسباب التطور الديموقراطي بنفس الطريقة وبالوجه المُشترك يُمكننا فهم مصطلح السلطة لكل المجتمعات الإنسانية بشكل عرضي أو عُمقي أو طولي لِأنها مشتركة، وبدون هذا التفكير سيكون من السهل جداً على غير المختص أن يدمج الشورى بالديمقراطية بالسلطة ويقدمها كلها أنها تجسدات لبعضها البعض دون أن يعلم أنه يرتكب مجزرة علمية.

ختاماً بأن مجال تاريخ الأفكار والمجال الأكاديمي مهم للغاية والحقيقة أنه غائب عن جامعاتنا بالمجمل وقد حاولت أن أطلع على مجال التاريخ في العديد من الجامعات وقد كان تاريخ الأفكار غائبا كمادة عن جامعاتنا وعن كلياتنا وحتى عن أكاديميينا وقد سبب هذا حيرة لفترة ولكن قبل مدة كنت أقرأ في ورقة لبروفيسور تاريخ الأفكار بجامعة هارفارد بيتر جوردر كان يقول أن السبب الأساسي لقيام هذا المجال عن المجال الأكاديمي العام متعلق أساساً بأن هذا المجال متجاوز للتخصص الأكاديمي وبالتالي لو تم طرحه في الكليات والأقسام سوف تحدث مشاكل كبيرة حول من هي الكلية التي ستقوم بتدريسه ومن هي الكلية التي ستكون لها السلطة على مناهجه ومن هم الدكاترة إلا في كليات محددة في الغرب، فلك أن تتخيل كيف يؤثر موضوع بيروقراطي كهذا إن صح التعبير في حرماننا من علم هائل مثل علم تاريخ الأفكار وحتى في مجال الدراسات الحرة ربما توجد فقط ثلاثة كتب.

ينبغي أن لا يكون عدم الإهتمام الأكاديمي هذا أن نترك الاهتمام الذاتي والشخصي وهو مجال جميل جداً ومسلي جداً ورائع جداً وربما يكون في الحقيقة المجال الأفضل لفهم التاريخ الثقافي والعلمي والإنساني لكل الأفكار الدينية والسياسية والإجتماعية والفيزيائية وغيرها مع أنه لا يدرس هذا لكنه يدرس بنية الثورات العلمية، فلا يجب أن يكون هذا التجاهل الأكاديمي باباً لنتاجهله نحن وربما يكون علينا بذل المزيد من الجهود في هذا الباب تحديداً حتى نستطيع أن نتقدم بكلياتنا وجامعاتنا ومراكزنا ومعاهدنا وما إلى ذلك ونستطيع أن نفهم التطور الأفكاري الذي يقود كل فكرة من بذرها إلى تربتها إلى جذرها ثم إلى ثمارها الأخيرة.

أسأل الله أن ينفعنا بتاريخ الأفكار ويجعلنا من أولئك الذين ينتفعون بما يسمعون ويعملون بما يتعلمون.

يوسف القرشي: أستاذ يوسف لدينا بعض الأسئلة المختصرة نأمل أن تُجيب عليها بشيء من الإجمال، أول سؤال هو: هل يُمكن اعتبار جميع ما أُردف في الملل والنِحل بدايةً بالملطي ومقالات أبي الحسن الأشعري والشهرستاني وابن حزم من جنس هذا الاشتغال بتاريخ الأفكار ولو على وجه من الأوجه؟

يوسف القرشي: هو من الطبيعي أن يُعتبر من هذا النوع من الاشتغال، بل على العكس قرأت في العديد من الكتب الغربية عن الأفكار تنقل عن هذه الكتب لأنها في النهاية كتب تأتي للأفكار الأساسية لكل فرقة وملة وتُجملها فبعضها يرد عليها وبعضها يأتي بدلائلها وبالتالي هذا لا يخرج من تاريخ الأفكار وإن كان منهجها يدور حول الديانة وحفظها من الشبهة، لكن في النهاية كانت ناقلاً في بعض الأحيان أميناً زائداً عن اللزوم للفكرة التي تُريد الفرقة تلك أن تنجزها، وبالتالي نحن مثلاً نستطيع من كتب الأشعري من كتب المخالفين عموماً أن نأخذ معلومات دقيقة جداً لبعض العلماء الذين خالفوهم وتجدها في النهاية في كتبهم لأنهم نقلوها بكل قوة ليردوا عليها بقوة فهل نستطيع اعتبارها كتب تاريخ الأفكار؟ نعم ولا، نعم من حيث أنها تأخذ الأفكار وتدرسها أحياناً طولياً وعرضياً، ولا من حيث أنها لا تتبع المناهج التي تتبعها مدارس تاريخ الأفكار الحديثة وإن كنا أحياناً نرى أن بعض هؤلاء العلماء يذكرون بعض الآثار الإجتماعية التي أدت إلى ظهور الشيعة أو المعتزلة وغيرها فبالتالي تستطيع أن تأخذ منها لمحة جيدة في هذا المجال، فأنا في اعتقادي نستطيع أن نعتبرها كُتباً في تاريخ الأفكار.

شمس الدين حميود: أستاذنا من يقرأ في تاريخ الأفكار قد يجد صراع مدارس بينها وقد ذكرت المدرسة الوضعية ومذهب الأيدولوجيا فماذا عن مدرسة الحوليات في تاريخ الأفكار؟

يوسف القرشي: نعم في الحقيقة مدرسة الحوليات هي مدرسة أساساً أكثر كونها مدرسة تاريخية من كونها مدرسة تاريخ أفكار، فربما كنت قد أذكرها سابقاً ولكن بعد التدقيق والتمحيص تجد أن مدرسة الحوليات مهتمة بالأحداث أكثر من كونها مهتمة بالأفكار، فهي تذكر الأفكار ضمن الأحداث التاريخية وليس العكس، فهذا في اعتباري الشخصي ليست من مدارس الأفكار.

شمس الدين حميود: عند الحديث عن الخصائص، في رأيك أستاذ بم يتميز تاريخ الأفكار عن أنواع التاريخ الأخرى هل كما يقول البعض بتركيزه على العالم الباطني للفكر وليس بالجانب الخارجي للحياة العملية؟

يوسف القرشي: نحن بالفعل ذكرنا الفروق بينها وبين العديد من أنواع التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي وغير ذلك، فمختصر ذلك أن كل هذه التأريخات الأفكارية تأخذ الفكرة باعتبارها العامل الذي يدرسه ذلك النوع من التاريخ، فالتاريخ السياسي يأخذ الأفكار تبعاً للفاعلية السياسية وعلم الاجتماع يأخذها تبعاً للفاعلية الاجتماعية وهكذا، لكن علم تاريخ الأفكار يعتبر أن الفاعلية الفكرية هي الأساس وما يلحقها هو تابع لها، وهذا بالتأكيد لا علاقة له بحقيقة الأمر أي بكون الفكرة هي المؤسس للصراع المشهور بين الماديين والمثاليين أو عكس ذلك أو كون أن الفكرة هي المؤسس للفعل أو أن الفعل هو المؤسس للفكرة، فهي تُركز على الفكرة كمحور دراسة ما أنتجها وما نتج عنها في النهاية يعود إليها هذه هي النقطة الأساسية التي تجعلها مختلفة عن باقي الأنواع من التاريخ فهي في مركز الدراسة وليست حيزاً أو هامشاً.

شمس الدين حميود: بالحديث حول المادية والمثالية يقودنا الطرح للسؤال عن موقف تاريخ الأفكار من الصراع المثالي المادي والانشقاق في تفسير حركية الناس والتاريخ، والمثال الذي يتبادر مباشرة في أذهان الناس هنا هو مثال الثورة الفرنسية والصراع الذي حدث بعدها حول أسبابها ودوافعها بين من قالوا أنها المظالم للأفكار وبين من قالوا أن أفكار الفلاسفة هي الدافع الأول رغم اعترافه بأن بعض المظالم ربما تكون مساهمة في هذه الثورة إلى وصول الصراع إلى قمته في القرن التاسع عشر، فكيف كان التعامل مع هذا الصراع والخراف؟

 

يوسف القرشي: هذا الصراع والخلاف هو في الحقيقة قوياً وليس تجسيدا بصورة قوية أوروبياً مع هيجل وماركس والثورة الفرنسية وغير ذلك، لكن هذا الصراع حول هل الفكرة سابقة للحدث أو العكس ومن الصعب جداً الوصول إلى كل جدالاته حالياً، لكن تاريخ الأفكار كما قلت وتفضلت حضرتكم استطاع أن يميل إلى المثالية بمعنى أنه يميل إلى أن الأفكار هي المحرك الأساسي للأفكار وليس الأحداث لكنه في نفس الوقت يعطي أهمية كبيرة للسياق الاجتماعي للفكرة والتأثر الإجتماعي للفكرة وبالفكرة؛ وبالتالي الذي يحدث أنه في نسخته النهائية جاء في الوسط بين المدرسة المادية التي تُفرط في تفسير الأفكار بناءً على الجدلية المادية وبين المثالية التي تُعيد كل ملموس إلى الفكرة.

شمس الدين حميود: في رأيك أستاذ يوسف هل يُفضل قراءة الفكرة في سياقها وباستعمال أدوات حاضرها أم يجوز قرائتها خارج ذلك؟.

يوسف القرشي: هذا أيضاً نقاش قديم ولكن من الجميل أن نفهم الفكرة في السياق الذي ذُكرت فيه وهذا كما قُلته أن نأخذ الفكرة في النموذج الثُلاثي هذا، لأنه أحياناً تكون الفكرة رائعة جداً ولكنها بُثت في أرض لا تصلح لها فماتت الفكرة أو انتقلت إلى المرحلة الجنينية كما يُسميها محمد إقبال أو المرحلة الإمكانية كما يُسميها هيجل، فهناك مرحلة لم تتحقق وجنين لم يُولد لكنه وُجد ولم يُولد بالمعنى الحضاري، ومثال جيد على هذا أن محمد مختار الشنقيطي له طرح متعلق بالشورية في الحضارة الإسلامية وهو يقول أن النموذج الإسلامي الشورى هو أقرب للنموذج الديمقراطي الغربي من النموذج الاستبدادي الشرقي وهو يقول أن الفكرة الإسلامية الشورية الديموقراطية هي فكرة ممتازة جداً ولكن الأرض التي بُذرت فيها البذرة لم تكن مناسبة في ذلك الوقت وبالتالي البذرة بقت جنيناً وسوف تقوم يوماً ما وتأخذ الإمكانية الكاملة للفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية والنص الإسلامي وتقوم بإنشاء ديمقراطية شورية مميزة أفضل حتى من الغرب لأنها تقوم على قيم، فسواء أن وافقت أو خالفت الأستاذ الشنقيطي فالذي حدث هنا هو أنه كان يقول في أحد كتبه عن هشاشة المؤسسات الدستورية الإسلامية، ففكرة هشاشة المؤسسات الديموقراطية هي فكرة ليست موجودة ولا مُتصورة في ذلك السياق الإمبراطوري العالمي فالبتالي الذي حدث أنه تم أخذ هذا الموضوع من سياقه القديم ودُرس حسب المعايير الحديثة فظهر عند الباحث على أنه سيء للغاية، مثلها مثلاً موضوع العبودية فكثيراً ما أٌناقِش وأُناقَش في هذا الموضوع حيثُ يُطرح الموضوع على أن الإسلام هو دين سيء بإعتبار أنه سمح للعبودية بالإستمرار وهذا فيه إشكالية أكاديمية ضخمة جداً وليس دينية لأنك تُحاول أن تحكم على سياق تاريخي عميق له جذوره وأسبابه من خلال معاييرك الشخصية الذاتية، وبالتالي فكرة أن تأتي بنمظومة فكرية وتحكم عليها بناء على معاييرك الحالية هو في الحقيقة بعيداً عن كونه خاطئ علمياً وأكاديمياً هو في قمة النرجسية أن تقول أنني أُريد لسياق اجتماعي مُعين كان موجوداً قبل آلاف السنين أن يكون مُطابقاً لمعاييري الحالية وهذا يُظهر لك عيوب دراسة مجموعة من الأفكار حسب سياقات موجودة عندك الآن.

شمس الدين حميود: يصف بعض المُفكرين تاريخ الأفكار بأنه عدسة ساحرة تمكننا من الكشف عن القوانين التاريخية التي يراها المؤرخ البسيط، هل يُمكننا توظيف تاريخ الأفكار لفهم فكرة الحضارة وسنن النهوض واستكشاف القوانين العامة؟

يوسف القرشي: الذي يحدث الآن عند المؤرخ أو عند كتابة التاريخ عموماً أنها تُركز على الآحاد فيقول مثلاً في الوقت الفلاني حدث كذا فالذي يقوم به تاريخ الأفكار أو أي نوع من أنواع التاريخ من عملية الرجوع إلى الخلف أنه ينظر إلى الصورة الكلية وينظر إلى الأنماط مثل الذي فعله ابن خلدون وهو أشهر من فعله في الحضارة الإسلامية أنه بدأ ينظر إلى أنماط العمران ما الذي يؤدي عادة بالصورة السننية إلى ارتفاع أو إنخفاض حضارة معينة فهو لا يتكلم عن حضارة معينة وإنما يتكلم عن النمط العام فبالتالي علم العمران هذا أو الذي اعتبر تأسيساً لعلم الاجتماع هو مهم لفكرة الرجوع إلى الخلف هذه، فالرجوع إلى الخلف والنظر للصورة الكلية يُعطي فهماً للنمط الذي يحدث لإنشاء قواعد سننية وهذه القواعد السننية هي التي تُساعدك أنت إذا كنت مسؤولاً في حضارة معينة أو كان لديك دور حضاري في حضارة معينة أن تضع السبب الذي يؤدي إلى المُسبب، وهذا أيضاً ما فعله مالك بن نبي وكل من أجاب على سؤال الحضارة أو من حاول أن يُجيب على سؤال الحضارة دائماً يرجع إلى الخلف ويرى السننية العامة والأنماط العامة ويحاول أن يأخذ منها ما ينفعه، فثلاثية الحضارة عند مالك بن نبي كانت تقوم أساساً على أنني نظرت عموماً وعرفت أن هذه الثلاثة عناصر هي التي تؤثر في الإنسان وبالتالي أنا أُريد أن أُصلح هذه العناصر الثلاث حتى يتم بناء الحضارة.

شمس الدين حميود: كيف نتجاوز صعوبة الوصول إلى الامتدادات التاريخية لأي فكرة وصعوبة الإجماع عليها وهل يُعتبر فهم التاريخ بوصفه علماً مستقلاً من أكبر المُعينات على ذلك؟

يوسف القرشي: من الجيد أن لا ننتظر إجماعاً للفهم خاصة في العلوم الإنسانية ليس هناك إجماع على مفهوم ما لكن هناك إجماع على عناصر معينة للمفهوم، لذلك أنا أكتب دائماً ما أسميه التعريف العناصري والذي يعني أنني لا أُريد أن أستخدم التعريفات الحدية لأن التعريفات الحدية عادة ما يختلف فيها العلماء والمفكرين فيعتقد القارئ أن الإختلاف هو في المفهوم نفسه، فالذي أفعله أنني آتي للمصطلح أو الفكرة وآخذ العناصر المُتفق عليها، فهل سيمنعني الاتفاق على المصطلحات من فهم المصطلحات؟ وهل سيمنعني الاتفاق على الأفكار من فهم الأفكار؟ بالتأكيد لا ففي النهاية كل إنسان سيأتي بفهمه الخاص للمصطلحات ولكن هذا الفهم سيكون في الإطار العام هو ما يتفق عليه معظم أصحاب التخصص.

شمس الدين حميود: هل توجد محددات معينة تمكننا من فهم الأفكار التي تتطلب فهماً لتاريخها وبين الأفكار الوقتية التي لا ترقى لدراستها وقد قلنا أن تاريخ الأفكار يعنى بدراسة الأفكار التي تكون أصلاً مؤثرة لها سلطة في واقعها غير الأفكار التي تنشأ وتموت دون تأثير؟

يوسف القرشي: دعنا نأخذ مصطلح الأستاذ إبراهيم السكران ـ الماجريات ـ الآن بعض المصطلحات لبعض الأشخاص هي مصطلحات ماجراتية بمعنى أنها ليست مهمة جداً وهي من الأحداث التي ينبغي على الإنسان أن يتجاوزها، لنفترض مثلاً أنه لدي اهتمام بالتاريخ والسياسة والطبخ فالذي يهمني هو المصطلحات المتعلقة باهتماماتي هذه مما يُعينني على بناء الإطار المفاهيمي الذي أستخدمه أنا وبالتالي عندما يأتي إطار يستخدم مصطلحات كبيرة متعلقة بالنانوتكنولوجي ربما أقرأ سريعاً في هذا المجال ولكن هل أنا محتاج لأن أُتابع المصطلحات المستمرة في هذا المجال وأن أعرف كل المصطلحات الجديدة بما أنني لست مهتماً بهذا المجال فلا.

وللتمييز في ذلك أنظر لإطاري المعرفي أو التخصصي فأجد الإطار الذي أهتم به ويستهويني وإطار ماجرياتي، فالإطار الماجرياتي لا يجب إهماله تماماً لأنه يُعين على فهم السياق الحضاري الجاري يومياً، فالفكرة الجوهرية في التفريق هي الحاجة فإذا احتجت للمصطلح يجب أن أفهمه عدا ذلك سوف يكون من الماجريات والله أعلم.

شمس الدين حميود: هل يُمكن اعتبار أن تاريخ الأفكار يهديك إلى الباطل  وكما نقول من لم يعرف الباطل لم يذق طعم الحق كما هو، فهل يُعتبر ذلك من مميزات علم تاريخ الأفكار؟

يوسف القرشي: هذا يعتمد على كيفية دراستك للأفكار، قد يحدث في بعض الأحيان أن تتعرف على الباطل وتُعجب به وتحبه، وبالمناسبة تاريخ الأفكار يُعينك على فهم الإجابات المستمرة للإنسان على ما نسميه نحن بالأسئلة الأبدية وهي الأسئلة التي يُحاول أن يُجيبها الوعي الإنساني منذ الأزل، فعندما ترجع إلى الخلف وتنظر إلى الصورة العامة يُساعدك تاريخ الأفكار على أن تفهم كيف استطاع البشر أن يُجيبوا على هذا شيئاً فشيئاً، وعلى فكرة الباطل والحق أحياناً تواتر الإجابات البشرية على سؤال ما يُعطيك لمحة عن الجواب الذي يُمكن أن يكون حقيقياً، في فترة من الفترات كنت مهتماً بدراسة الاعتقادات الغيبية للديانات الأخرى فتقريباً 100% من الديانات في تجسيداتها الأولى لها رب مُنشيء ويوم آخر فهذه العموميات موجودة ومما طلعت كلها تقريباً لها نسخة من عمومية آدم وحواء بغض النظر عن فكرتها هناك شخص ما كان هو الشخص الأول وهذا الشخص الأول قام بفعل ما أدى إلى تغير حاله من حال إلى حال وتحول البشرية إلى وضعها الحالي، وهذا يُنبه إلى أنه هناك حس مُعين لدى الجنس البشري له علاقة بأسئلة خاصة جداً فعندما يُجيب شخصان في بقاع مُختلفة تماماً على الكرة الأرضية في حقب زمنية بعيدة جداً على نفس السؤال ويكون الجواب فيه شيء من التشابه النمطي هذا يدل على أن هذه الإجابة تحتوي على شيء من الصحة.