يثار في أوساطنا الفكرية والثقافية والأكاديمية سؤال الصلة أو العلاقة بين الدين والعلم، أو بعبارة أوضح بين الإسلام والعلم. ولعل ما يجعل هذا السؤال ومناقشته أمرًا بالغ الأهمية أنه يطرح من وجهة نظر الثقافة المعاصرة التي هي في أغلبها ثقافة غربية أو مقلدة لها أو واقعة في تأثيرها.
ولهذا يجد الشباب المسلم نفسه -سواء المتدين أو غير المتدين- أمام أسئلة وتنظيرات وإجابات مستوردة، تشكل في معظمها "أفكارا مميتة" بحكم أنها وُلدت في سياق حضاري وديني وثقافي مغاير لنا في منطلقاته ورؤية الوجودية وفي قيمه وفي نمط حياته وثقافته، بالرغم من أننا نعيش في عصر تشابكت فيه الأمم والحضارات والثقافات وتقاربت بينها المسافات بفعل العامل التقني وثورة المعلومات.
كما يجد الشباب المسلم نفسه أمام "أفكار ميتة" تسببت تاريخيا في التشويش على رؤيته الاسلامية للعلاقة بين الدين والعلم، بفعل تراكمات التخلف، وبفعل انحراف تلك "الأفكار الميتة" عن نموذجنا الأصيل، فتستحيل أفكار تسبب الموت للوعي وللفكر وللعمل، وتساهم في صناعة التخلف والابتعاد عن مقاصد الإسلام ذاته في تحقيق الاجتماع الإنساني والعمران البشري.
ولعلنا لا نضيف جداد إذا قلنا أن من الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في عصرنا أن النموذج الحضاري الغربي أصبح يشغل مكانا مركزيا في وجدان معظم المفكرين والشعوب، وليس من المستغرب أن يحقق نموذجا حضاريا له مقدرات تعبوية وتنظيمية مرتفعة، وله انتصارات باهرة على المستويين المعنوي والمادي.
كما أنّنا نجد أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ -منذ أخريات القرن الثامن عشر- صيغة الانبهار الذي دفع كثيرين من قيادات الأمة الإسلامية ونخبها وعلمائها، وأبنائها عموما، إلى الأخذ غير المتبصر عن هذه الحضارة، أو ما سماه مالك بن نبي "التكديس"، الذي يستورد ويراكم الخبرات والأشياء، ولكنه لا يصنع حضارة، أو يعيد نهوضها من جديد؟!
وعندما تنظر إلى هيمنة النموذج المعرفي الوضعي العَلماني الغربي بكل تفريعاته تظن لأول وهلة أنه أبلغ ما يمكن للعقل البشري أن يبلغه، ومبعث هذا الاعتقاد أن النموذج المذكور قد مكن لنفسه بترسانة من الوسائل التكنولوجية والتقنيات المتطورة التي استبدت بحياة الإنسان في شتى جوانبها.
في ضوء ذلك، فإن موضوع العلاقة بين الدين والعلم يطرح في وسطنا الفكري منذ بدايات جهود النهضة، ولكن مع هيمنة الحضارة الغربية ونموذجها المعرفي طرح الموضوع ووقع فيه الكثير من الخلط بحكم التقليد للوافد الغريب، وبحكم غياب رؤية تحكم علاج هذه العلاقة في وسط المفكرين المقلدين للنموذج الغربي.
ولهذا يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن أن الغرب فكّر في الصلة بين العلم والدين وقدم وجهة نظره، وعممها، حتى صارت كأنها الحقيقة. كما أشار إلى أن المواقف – في ظل هذا التقليد- انقسمت بشأن الصلة بين الدين والعلم إلى فرق ثلاث: فرقة ترى أن بين العلم والدين تناقضًا صريحا، وأخرى ترى أن بين العلم والدين تمايزا لا تناقضا، وثالثة ترى أن بين العلم والدين تباينا لا تناقضا.
وبهذا نكون أمام مواقف ثلاثة مختلفة؛ فالموقف الأول يرى بتناقض الدين والعلم، وهذا يجعل حضور أحدهما مبعدا للآخر، وأما الموقف الثاني فيرى أن لكل من الدين والعلم مجاله، فلا يلتقيان ولا يتضادان فيتناقضان، وأما الموقف الثالث فهو القائل بتباين كل من الدين والعلم، وذلك بأنه رغم تناولهما المواضيع نفسها لكن بطرائق مختلفة ووجهات نظر مختلفة. فكيف ذلك؟ وما أساس هذه المواقف؟
فهل فكَّرنا نحن من جانبنا في هذه الصلة كما فكَّروا، وطوّلنا في هذا التفكير كما طوّلوا، وخرجنا منه بما خرجوا؟
ولذا فإن الإشكال المطروح المتعلق بكيفية التفكير في العلاقة بين الدين والعلم، يقودنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة، هي: ما هي وجهات النظر المتعددة المتعلقة بالموقف من الصلة بين الدين والعلم؟ وكيف بنى كل موقف وجهة نظره؟ وما هي أسس هذا الموقف؟ وما هي الإشكالات التي تثيرها تلك المواقف ليستدعي الأمر الحديث عن صلة الدين بالعلم في ضوء القرآن الكريم؟ وما هي الصلة التي أسسها القرآن الكريم بين الدين والعلم لتكون بديلا لكل تلك المواقف السابقة؟
هذا ما نحاول مناقشته في مجموعة المقالات الآتية بحول الله.