السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
نسمع دائماً بأن المنهج الإسلامي في الحياة منهج متفائل، لذلك فالناس دائماً يتكلمون عن ضرورة تفاؤل الإنسان وعدم تشاؤمه، وأيضاً أن يكون الإنسان المسلم مقتدياً بالرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحب الفأل ويكره الطيرة -التشاؤم.
السؤال الذي نحاول أن نجيب عليه اليوم هو «كيف تحول موضوع التفاؤل من روحٍ إنسانية لدى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فعلٍ عملي على الأرض؟» لأن المشكلة الكبرى لدينا جميعاً هي تطبيق الشعارات والمفاهيم، فنحن يمكننا أن نستدل على المفاهيم ونصفها وصفاً دقيقاً، لكن عندما يأتي الأمر إلى كيفية تطبيقها على الأرض، في الفعل اليومي، وفي الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحياتي نفشل، لماذا؟ لأن الواقع في أذهاننا عالم آخر منفصل عن المفهوم، برزخان لا يبغيان، الأول تسوده الواقعية الباردة، والثاني يموج بالمشاعر والمثاليات الحميمة.
إذن، اليوم سندرس كيف استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحول مفهوم التفاؤل إلى تطبيقٍ عملي فعلي على الأرض في غضون الفترة التي قضاها في مكة (ثلاثة عشر عاماً) ثم في المدينة (عشرة أعوام)، طوال ثلاث وعشرين سنة.. كيف صاحب التفاؤل منهج النبي عملياً على الأرض؟!
«التفاؤل الوجودي» رغم الهزائم والمصائب
في البداية، أود أن أُعرّف التفاؤل؛ التفاؤل الذي نقصده هنا هو التفاؤل الوجودي العميق طويل الأمد، التفاؤل الذي ينبع من مسألة جوهرية في صميم الدين، وهي أن هذا الدين الذي أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الحق، ولأنه الحق سوف ينتصر وسوف يتبدى أثره في حياة البشرية اضطرادا إلى قيام الساعة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلآفَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ)، إذاً الحق هو المقصد الذي تقصده البشرية بشكلٍ مضطرد عموماً إلى قيام الساعة.
هذا لا يعني أننا في هذا المسار الوجودي الطويل لن نرى غلبة الباطل أحيانا، بل سنقع في إخفاقات وابتلاءات ومصائب وهزائم، وإنما التفاؤل هو ذلك المنطق الذي يحكم صميم التجربة الدينية باعتبار أن الإنسان المؤمن بالله -عزّ وجل- وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما هو مؤمنٌ بإطارٍ زمنيٍ متعدٍ للوجود الإنساني الفردي، وهذه قضية جوهرية، إذا لم نفهمها ستصير قصة التفاؤل مقتصرة على أن تستيقظ صباحاً وتكرر بشكل ببغائي: أنا متفائل أنا متفائل، كما ترشدنا بعض الكتيبات الخاصة بالتنمية النفسية، وتلك الشعارات المنمقة التي نتبادلها أحيانا في هواتفنا ورسائلنا.
التفاؤل إذاً هو ذلك المسار الإنساني الدؤوب نحو مستقبلٍ يحكمه الخير، لأن الخير يسكن في المستقبل ، باعتبار أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبةُ للمتقين، وباعتبار أن الحق هو المقصد النهائي الذي ستؤول إليه الأمور في يومٍ من الأيام.
إذاً هذا التفاؤل الوجودي هو تفاؤلٌ مُتَعدٍ للزمن الشخصي،أي أنه تفاؤل يتجاوز عمر الفرد الواحد، ليس بالضرورة أن أشهد النهايات في زمني وفي عمري، بل يكفي أن سعيي الدؤوب نحو الحق هو في ذاته خير، وإن لم أشهد كل نتائجه، إذن هناك تفاؤل ممتد ، وعلامته أن تنطبع نفسية الإنسان بروح التفاؤل على اعتبار أن هذا الكون بكل ما فيه من سنن وقوانين وتيارات إنما هو في نهاية المطاف خلقٌ من خلق الله.
وكل ما فيه بتقديرٍ من الله ولطفه والله لطيفٌ وهو رحيم بعباده، وعلى هذا المنوال فالشر المطلق ليس موجوداً في حياة البشرية، وأ٫ مع العسر يسرا، وأن الخير هو المسار الذي تسير باتجاهه الإنسانية في سائر الأزمنة حتى العسيرة منها، وهذا ينعكس ابتداءً على عدم وجود اليأس والقنوط لأن نقيض التفاؤل هنا هو اليأس والقنوط (لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) لماذا؟ لأن الذي لا يؤمن بأن هذا الكون بكليته الوجودية وقوانينه وسننه التنظيمية إنما هو خلقٌ من خلقِ الله اللطيف الرحيم الذي تؤول إليه مقاليد الأمور وهو بكل شيء محيط، من لا يؤمن بهذه المرجعية المتعالية بكل ما فيها من خير هو في الحقيقة متشائم قنوط، لأنه سيجد نفسه يغالب عوادي زمنه الفردي من دون أمل في حياة متعدية، حياة أخرى قادمة، أي من دون غاية.
«العاصم من اليأس».. هل نحصد ما زرعنا من بذور؟
الإيمان يعصم الإنسان من اليأس إذا اقترن هذا الإيمان بيقينٍ وجودي بأن الخير الذي يسكن المستقبل وتمام الأمر باتجاه الحق يتم في زمنٍ هو ليس بالضروري زمني وزمنك ولذلك نُعيدُ تعريف أعمارنا ونعيد تعريف أزمنتنا.
وكثير من الأنبياء زرعوا بذور دعوة لكنهم لم يحصدوا كل النتائج في زمنهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يبشر المؤمنين بفتح بلاد كسرى وبلاد قيصر لكنه ما رآها بنفسه فقد فتحت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
إذاً الزمن المتعدي الوجودي هو الزمن الذي ينبغي لكل واحد منا أن يؤمن به، لأننا أنا وأنت في النهاية ضمن سياق أوسع بكثير من الحياة الفردية أو التجربة الشخصية، إذن فإن شخصية الفرد إن انطبعت بقدرٍ عالٍ من التفاؤل تصل إلى حالة استقرار نفسي وفعلٍ عملي، لأن الفعل الإنساني لا يتحول إلى فعل حضاري إلا بوجود ركيزتين أساسيتين:
- الأولى أنه مؤمنٌ بأن مسار العالم يتجه باتجاه هدفٍ سام وغايةٍ عُليا.
- الثاني أن الزمن أيضاً هو زمنٌ متعدٍ لحياة الفرد الشخصية إلى أزمنةٍ أُخرى أبعد من ذلك فهو زمن الرسالة وليس زمن الفرد.
وبالتالي حسب هاتين الركيزتين، تستطيع أن تقول أنني أفعل فعلاً أريدُ أن أقطف ثماره، ثمار آنية من الطمأنينة والدافعية للعمل، وثمارا مستقبلية ليست في زمني وإنما في الزمن المتعدي الذي أنتمي إليه انتماء حضارياً رساليا وليس بالضرورة انتماء حياةٍ معيشية.
«الانحياز للمستقبل».. لعل الله يُخرج من أصلابهم
عندما خوطب الرسول -صلى الله عليه وسلم بأنه رسولٌ للبشرية للناس كافة وأنه رحمة للعالمين، هذه مسألة لم تكن سهلة بالنسبة له -صلى الله عليه وسلم- الذي يعيش في تلك البلدة الصغيرة في الحجاز منقطعاً عن العالم إلا ما يصل من أخبار عبر القوافل، ولم تُبعَث الرسالة لا في بلاد كسرى ولا بلاد قيصر، إنما بُعِثَت في ذلك المكان القصيّ لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وجغرافية المكان كانت اختيارا إلهيا لأن فيه حكمة كبيرة وأهدافا عظيمة تحققت للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
لكن منذ اليوم الأول أدرك النبي -عليه الصلاة والسلام- ثِقَلَ هذا الوحي الذي نزل عليه وهذه الرسالة التي يُطلع بها (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) ولكي يستطيع أن يحمل هذا القول الثقيل وهذه الرسالة العظيمة يحتاج إلى بناءٍ نفسي متين، وهذا البناء النفسي ينبغي أن يتمحور حولَ رسالةٍ للمستقبل الممتد، ليست في الواقع فحسب، لأن الرسالة في تلك اللحظة سوف تعاني معاناةً شديدة عبر الأيام القادمة، لكن النزعة النبوية باتجاه المستقبل بمثابة تيار نفسيٍ استراتيجيٍ دائم الحضور، تمت ترجمته عمليا في كل أفعاله ، وهو شيء واضح بشكل كبير، كيف؟
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور في صحيح البخاري عندما سألته عائشة -رضي الله عنها- قائلة يا رسول الله هل رأيت يوماً أشد من يوم أُحد؟ قال نعم، فحدثها عن رحلته للطائف، وكيف أنه نزل عند عمرو بن عبد يا ليل، وقد كان عمرو زعيم ثقيف في ذلك الوقت، وعرض عليهم الإسلام فلم يسلموا بل أفحشوا له في القول، ووقع عليه من الأذى ما وقع- قال: "انطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال النبي ﷺ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"!
أنتَ عندما تكون في هذا الوضع النفسي، ماذا ستقول؟
رحلة الطائف هذه كانت بعد حزن عميق جداً، لأن عمه أبو طالب توفي، فانكشف غطاؤه الاستراتيجي الذي كان يحميه، وتوفيت خديجة -رضي الله عنها- في ذلك العام فانكشف غطاؤه النفسي الذي كان يسكن إليه، ثم تخرج إلى الطائف ويتعامل معك أهلها بأقصى أنواع الفظاظة، - لقد قضى صلى الله عليه وسلم عشرة أيام في الطائف وحاول إقناعهم بالإسلام أو النُصرة ولكن أساؤوا الأدب معه وأغروا به سفهاءهم فآذوه جسديا، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحالة النفسية وكان معه زيد بن حارثة- ووجد فرصة سانحة للانتقام من قريش الكافرة التي بسببها حدث كل هذا، فماذا ردّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: " بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا" ، أي رفضَ أن يُعذَبوا بالهدم والتدمير بل دعا أن يُخرج الله من ذريتهم من يؤمن به!
هذه النفسية غير عادية، أنا وأنت عندما يصل بنا الحال لقدر عالٍ جداً من الغضب نقول لعل الله يدمرهم تدميراً ويخرب بيوتهم لتنخلُص منهم، لأننا حاولنا كثيراً ولم يؤمنوا، عندها نلجأ سريعا لخيار: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " كما قال نوح عليه السلام!
لكن، هذا نبيُ الرحمة، وهو يعلم أنه رحمة للعالمين، ولا يمكن أن يدعو على قومه بالهلاك بل يدعو لهم بالهداية. ولذلك كان أكثر دعائه "ربِ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، فهل كانت هذه مجرد عبارة جميلة، حسن خلق فقط، أم أنها كانت برنامج عمل ؟
تعالوا لنرى كيف طبق ذلك على الأرض.
«اختراق بيوتِ السادّة».. كيف انحاز الرسول للمستقبل؟
عندما تقول لعل الله يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، أنت تلقائيا انحزت نحو المستقبل، أنت الآن لا تتكلم عن صناديد قريش، من أولئك الذين قضيت عشر سنين تحاول أن تدعوهم للإسلام فصدّوك صدّاً عنيفا، لا لقناعةٍ مسبقة بأنك لست نبيا أو أنك تكذب عليهم أو أنك جئت بقول إفكٍ منكر، وإنما هم يعلمون أنك صادقٌ وأمين ولكنه الكِبَرُ الذي عشعش في قلوبهم واتباعهم لمصالحهم، فلهم مصالح اقتصادية واجتماعية وسؤدد ومقام وتراتبية قبلية لا يستطيعون التخلص منها أو التضحية بها، ولذلك كانوا مستعدين لمحاربتك إلى الآخر. بعد عشر سنين أنت وصلت لهذه القناعة فما هي الخطوة الاستراتيجية القادمة؟
الانحياز نحو الأبناء! "لعل الله يخرج من أصلابهم"، هذه واضحة فهل طبقت على الأرض؟
كثيرٌ ممن يتحدثون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنوات الأولى يقولون: "وقد اتبعه الضعفاء والفقراء والعبيد" والحقيقة عندما تُدقق في أسماء الصحابة الأوائل ستجد أن هذه النظرية ليست صحيحة!
حيث أنني حين نظرت لقائمة المهاجرين للحبشة، وهذه الهجرة كانت في العام الرابع للبعثة -أي في وقت مبكر- تجد أن الثمانين الذين هاجروا في الهجرة الثانية للحبشة في معظمهم لم يكونوا من الضعفاء، صحيح أن عبد الله بن مسعود وكذلك بركة حاضنة النبي، وآخرون، لكن غالبيتهم العُظمى كانوا من أبناء بطون قريش الكُبرى، بل من أبناء صناديد قريش وأقاربهم.
وبعدها عندما حللنا السنة الرابعة قدرنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أسلم على يده ثلاثمائة تقريباً من سكان مكة، فعندما تحاول أن تتعرف على هؤلاء الذين أسلموا في السنة هذه الفترة تجد أسماء ملفتة للنظر.
لنأخذ مثالاً، من أسوأ شخص حارب النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة؟
هو أبو جهل -عمرو بن هشام من بني المغيرة
وهؤلاء، بنو المغيرة، كانوا من أشد أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسباب كثيرة أهمها أنهم يتزعمون حلف الأحلاف الذي يضم بني جُمَح وبني سهم وبني عدي، بينما بنو عبد مناف وبنو تيم -جماعة أبو بكر الصديق وبنو زهرة أخوال النبي وآخرين؛ كانوا ينتمون لحلف المُطيّبين، وهذا الصراع قديم في مكة، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- من حلف المطيبين، وقف حلف الأحلاف ضده بزعامة بني المغيرة، وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة وابن أخيه عمرو بن هشام -أبوجهل-.
حسناً من أسلم من جماعة أبي جهل؟
من أوائل من أسلم من آل بيته شقيقه من أمه وأبيه -سلمة بن هشام- وهاجر إلى الحبشة، وأسلم ابنُ أخيه -هشام بن أبي حذيفة- وهاجر للحبشة، أسلمت ابنة عمه -أم سلمة- ، وأسلم أخوه لأمه -عياش بن أبي ربيعة- وكذلك أسلم ابن أخته -عمر بن الخطاب- فأمه -رضي الله عنه- اسمها حنتمة هي أيضاً أخت لأبي جهل، وأسلم كذلك ابن أختٍ أخرى -هشام بن العاص-، ستة من جماعته ، من آل بيته، سواء من إخوانه أو أبناء عمومته أو أبناء أخواته أسلموا، أنت تتحدث عن زعيم الحرب ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو جهل!
فهل يوجد غيره؟
نعم، خذ مثالاً آخر سُهيل بن عَمر الذي كان من قادة قريش الكبار الذين فاوضوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية وله قصص طويلة، سهيل بن عمر أسلم أربعة من آل بيته، اثنان من أولاده وهما عبدالله وأبو جندل، أسلما وهاجرا للحبشة وتعرفون قصة أبي جندل الذي هاجر في الهجرة الأولى ثم رجع فأمسك به والده ووضعه في السجن سنوات، وفر إلى الحديبية في القصة المشهورة، ثم والأهم من إسلام الأبناء إسلام البنات، فالأبناء في مجتمع قبلي يمكن بصعوبة بالغة عن أن يخالفوا الآباء، فيقال شاب طائش خالف والده ، ولكن أن تفعل البنات ذلك؟!
أسلمت ابنة سهيل بن عمرو! وهي -سهلة بنت سهيل بن عمر- واتبعت النبي في العام الرابع أو الخامس في فترة زمنية مبكرة جداً إذا افترضنا الثلاث سنوات الأولى كانت للدعوة السريّة، وأسلمت ابنة أبي سفيان أم حبيبة.
وأسلم ابن عم أُمية بن خلف، وأمية كان الزعيم الثاني المعادي للنبي في داخل مكة.
أما عتبة بن ربيعة، زعيم بني شمس، ويعتبر زعيما مهما جداً ومن الشخصيات الرئيسية، وتعرفون أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة كانا الاثنين من قيادات دار الندوة الكبار، أيضاً أسلم ابنه -أبوحذيفة- وأسلم في وقتٍ مبكر وهاجر للحبشة، وأبو حذيفة كان موجوداً في بدر وقصة عتبة وخلافهُ مع أبي جهل في موضوع أبي حذيفة قصة مشهورة قبيل معركة بدر.
لكن المفاجأة الكبرى أن أسوأ من في قريش من الفظاظة رجل كان اسمه النضر بن الحارث وكان يسمى بشيطان قريش، وهو رجل صفيق وكان عدواً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقتله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في بدر، هذا النضر بن الحارث أسلم ابنه فراس وكان من المهاجرين.
هذه قصة عجيبة جداً!
النبي اخترق معظم بيوت السادة ، بالتالي لما قال يريد أن ينحاز للمستقبل فهو فعلاً انحاز للمستقبل.
لماذا قد يتخلى جيلٌ عن «حالة الرفاه»؟
في كثيرٍ من الأحيان حتى في منطقنا نحن، عندما تكون لديك رؤية أو تكون صاحب قضية أو فكر ورأيت أن الآباء في القبيلة أو العشيرة أو المجتمع تافهون متعصبون لقيم بالية، ستفترض أتوماتيكياً أن الأولاد لا فائدة منهم، ولذلك توفر وقتك وتذهب للبحث عن آخرين، لكن في حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فالذين أسلموا معه في وقتٍ مبكر من الدعوة كانوا من كل أطياف مكة، من عبيدهم وسادتهم، من جميع البطون، ليس فقط من بني عبد هاشم أو بني عبد مناف أو لنقل من حلف المطيبين! لا.
وهل هذا الكلام كان مجرد صدفة؟
أبداً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان معه فريق رائع من الصحابة الأوائل أصحاب الخبرة والتجربة والعلاقات الواسعة والإخلاص التام، عمل هذا الفريق مع النبي ثلاث سنوات بجد واجتهاد، وكان فريقاً منوعا وفي غاية الكفاءة، فيه أبو بكر -رضي الله عنه- من بن تيم، وهو نسابة قريش، وفيه كذلك عثمان بن عفان من بني عبد شمس، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، و أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، من شباب قريش المميزين، والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب، ولا ننس السيدة خديجة، ذات العقل الراجح والرأي السديد، هذه الشخصيات كانت تفكر وتخطط وتعمل.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان عنده مقر سرّي في دار الأرقم بن أبي الأرقم (من بني مخزوم)، فهل كان فقط اجتماعهم للصلاة وقراءة القرآن أم أنه مقرا للتخطيط والعمل والدؤوب؟
هذا المشهد الذي تراه الآن أمامك في العام الرابع لا يمكن أن يتم فقط بمجرد الصدفة أو من دون تخطيط، فهو تم بتدبير وتخطيط ومحاولاتٍ دؤوبة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- استهدف أبناء القادة وأسلم هؤلاء ودخل الإسلام في عمق قريش في بيوت السادة، ليس فقط في بيوت الفقراء، وأسلم كذلك الآخرون مثل بلال بن رباح وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأمه أسماء وهكذا، فالإسلام لا يميز بين فقير وغني ولا حر وعبد.
وبالتالي دار الأرقم بن أبي الأرقم عندما فُتحت كان من بين من يأتيها أبناء كبار قريش وسادتها ومعهم كذلك إخوانهم في الدين من المحررين والموالي والعبيد، هذا في الحقيقة يقتضي مبادرة وروحا ونزوعا نحو المستقبل ويقينا بأنك تحمل منهجا يفتقده أبناء السادةِ في بيوتهم، ولذلك الذي يريد أن يفسر لماذا يسلم مثلاً ابن وابنة سهيل بن عَمر وسهيل لديه التجارة والمكانة وكل شيء، فلماذا تسلم وإسلامك سيؤدي لتعذيبك وسجنك، وأبو جندل سُجِنَ بالفعل لسنوات إلى وقت الحديبية، ومصعب بن عمير سجن كذلك، وآخرين من الذين كانوا من الشباب المرفهين اللّينين والذين يعيشون حياة ممتازة بمعايير ذلك الوقت.
فما الذي يجعل جيلا كهذا يترك حالة الرفاه المتوفرة في بيوت آبائهم من سادة قريش ويميل للرسول صلى الله عليه وسلم!
لأن النبي كان منحازاً للمستقبل، لقد فتح لهم آفاقا جديدة، إنه يخاطبهم بوعيٍ سام لا يستطيع الآباء فهمه؛ تحدث لهم عن التوحيد وعن دين إبراهيم -عليه السلام- بينما الآباء يعبدون الحجارة والشجر وأشياء غريبة جداً، وتحدث لهم عن العدل والمساواة والأخوة، بينما الآباء يعيشون في عالم التفاخر بالأحساب والأنساب، تحدث لهم عن وعدٍ بأن تتجاوز حياتهم حالة الانغلاق الموجودة في في مكة إلى العالمية، فيستوي العالم أمام ناظريهم ساحة للانطلاق والتحرر.
يجلس بجوار الكعبة فيأتي واحد مثل خباب بن الأرت، وكان واحداً من الشخصيات المستضعفة لأنه لم يكن من العوائل الكُبرى، فيقول له يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ انظر للوضع الذي نحن فيه ، لقد كان خباب يوضع على النار فلا يُطفئ الجمر إلا شحمٌ ظهره، يذوب فيطفيء الجمر، يأتي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليدعو الله أن يرفع عنهم العذاب، فماذا يرد عليه النبي؟ يقول له: "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم ق،م تستعجلون"
حسناً أنا الآن أعيش في مكة لا أستطيع أن أتنفس والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعدهم بملكِ اليمن حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت.
ومتى كان هذا؟ في السنوات الأولى من البعثة! ينقلهم من ضيق أُفق اللحظة إلى سعة المستقبل فينتقل عالمهم من جحود أهل مكة إلى سعة العالم الفسيح.
«لسانٌ جديد».. كيف لك أن تُحاوره؟
هذا هو التفاؤل، إن اتبعته بعمل دؤوب لكي تفتح اليمن حقا وفعلا. وهذا ما فعله النبي.
أن تستخدم كلماتك لنقل الناس من ضيق اللحظة وبؤسها ومن ابتلائها إلى أُفقٍ رحيب فهذا مفيد، ستتحسن النفسيات ، ولكن تحتاج منهج عمل تطبق فيه تفاؤلك اللفظي. فينطلق الناس في مشروع متعاظم وبتضحيات وصبر على العناء الذي يكابدونه، هذه القضية في غاية الأهمية.
إذاً الانحياز المستقبلي هو سمة رئيسية، ينبغي لنا أن نوقن كيف استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتفاعل معها، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحدد لهذا الجيل الذي من حوله وأغلبه من الشباب، أهدافا للمستقبل عالمية وبعيدة الأمد وسامية أيضا.
أي لا يمكن لك إن كنت تعيش في مكة وأجريت مقابلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعت منه، كما فعل كثير من زعماء القبائل القادمين للحج عندما أرادوا السماع منه، فلما تكلموا معه لم يستطيعوا محاججته في شيء مما يقول!؛ فمن حيث الإيمان بالله، فقد قالوا نحن مؤمنون بالله وعلى ملة إبراهيم وهذه الآلهة إنما هي فقط لتساعدنا قليلاً وتقربنا إلى الله زلفى، قال: لا تحتاجونها بل ارجعوا لأصل التوحيد الإبراهيمي إذن!
لا حجة لهم.
وعندما يتحدث لك عن العدل والمساواة وعن عدم امتهان الآخرين وأن لا تؤذيهم وأن تحق الحق وتأمر بالمعروف وكل هذه المعاني والمبادئ فكيف لك أن تحاججه؟
بعد أن أنهيت هذه المحادثة اذهب لأبي جهل واسأله عن مشكلته مع محمد، فسيقول لك كما قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟
فلا مجال إلا لمحاربتهم لأنهم لو سمحوا بأن يكون لديهم نبي لآل الأمر إليهم وليس لقبيلة أبي جهل!
تخيل الحُجة العظيمة التي يستخدمها أبوجهل لتبرير حربه ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قالها للأخنس قبل معركة بدر.
الرواية التي يقولها النبي -صلى الله عليه وسلم- انحياز نحو منهج يمكن أن يصبح منهجا يصف ضيق اللحظة المكية في زمن جاهلية قريش في أُفقٍ ممتدٍ بعيدٍ عالمي حيث يقول لهم أنا رسول للعالمين وفي نفس الوقت لدي هذه المبادئ التي لا يستطيع أحد أن يحاجج بها وحجاج آباءهم هو لجاج وعناد ليس فيه معنى ولا قيمة.
لو كنتَ أنت شاهداً على مثل هذه الحالة وكانت طبيعتك تأبى الضيم ولديك قدر أكبر من الوعي والأخلاق فستقول للجماعة أن حديثكم فارغ لأن هذه الحجة لا تقوم ومحمد لم يأتِ ليقول أنا زعيم بن عبد مناف وزعيم بني هاشم.
بل إن ممن عاداه كان عمه أبو لهب، وعندما احتمى بآل بيته من بني هاشم لم يكن يقدمهم على إخوانه في الدين، وأبو طالب كان الحامي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن النبي لم يعطهِ أبداً منزلةً أرقى من منزلة المسلمين، وعندما سئل أين أبو طالب قال هو في النار، وهذا يعني أن محمدا عندما تحدث لم يتحدث بلسان القبيلة ولسان التفاخر بالنسب، ذات المنطق المتدني القريش، إنما تحدث بلسانٍ قيم سامية لا تستطيع قريش إطلاقاً أن تعاديها بمنطق سوي، لهذا انحاز الشباب بأعداد كبيرة للرسول صلى الله عليه وسلم.
التوظيف والابتعاد عن «إصدار الأحكام المطلقة»
المبدأ الثالث في موضوع التطبيق العملي للتفاؤل، هو النظر في الشقوق وتوظيف الخلافات، وهذه مسألة في غاية الأهمية، نابعة من مبدأ " إن مع العسر يسرا".
النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصدر الأحكام المطلقة على الناس بأن يقول هذه الجماعة انتهينا منها، بل كان النبي يتابع تفاصيل المشهد والتوازنات في داخل قريش القبليّة ويتعامل معها بوعي كبير.
وكان ذلك من السمات المميزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، كان لديه جهاز لجمع وتحليل المعلومات، أبوبكر -رضي الله عنه- كان بمثابة مستشار الأمن القومي، خبير في كل يما يتعلق بشؤون القبائل وأعدادها وأهميتها والأنساب، هذا بالإضافة إلى الأخبار التي يأتي بها العيون من كل قبائل العرب.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه في رسم استراتيجياته العملية، ولهذا كان لديه خبرة عميقة في (من مع من) و(من ضد من)، فالنبي كان يعرف هذا معرفةً عميقة فسخرها في عدة أماكن من بينها، على سبيل المثال، عرحلته إلى الطائف، فبعد أن لقي من أهلها ما لقي، أراد أن يعود إلى مكة. إلا أن عودته ستكون من دون غطاء أمني بعد وفاة أبي طالب، وثمّة مشكلة أخرى أنه قد ذهب مستجيراً بغيرهم عليهم، فنزع غطاء القبيلة عنه، والآن يمكن أن يعتدي عليه أي شخص، لأنه حين خرج للطائف خرق أحد المباديء الضمنية في العرف القبلي، وهو نزع ثوب الولاء للقبيلة واللجوء إلى قبيلة أخرى.
والترتيب الأمني الأمثل أن يجد له غطاء بما سمي في ذلك الوقت الجوار، لأن العرب كانت إذا أجارت شخصاً فالكل يحترم ذلك الجوار، وكانت هذه منظومة أمنية مهمة جداً في الجزيرة، يجب أن يكون لديك من يجيرك حتى تستطيع أن ترتحل أو تنتقل إلى مكان آخر من دون أن يعتدي عليك أحد،. حسناً من الرجل الذي وقع عليه خيار النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجوار؟
وانتبه لهذه النقطة فهي مهمة جداً لأُبين لك مدى معرفة النبي بتفاصيل ودقائق الوضع في داخل مكة، هذا الرجل المرشح لكي يمتح جوارا للنبي هو المُطعِم بن عدي بن نوفل، ونوفل هو بن عبد مناف أخو هاشم، أي يلتقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجد الرابع.
فلماذا المُطعِم بالذات؟
يقول رواة السيّر من دون أن يفصلوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسلَ رجلاً من خُزاعة إلى المطعم بن عدي يقول له أن محمدا يريد أن يدخل هو وزيد في جوارك في مكة، فهل تقبل؟ ففكر المطعم قليلاً ووافق فعلا، وجمع أبناءه وحملوا السيوف وأدخلوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وقصدوا الكعبة وأخبروا الجميع أن محمدا في حمايتهم ويُمنع أن يعتدي عليه أحد.
إذاً لماذا اختار المُطعِم ولماذا قبل المُطعِم؟
إن نظرت قليلاً ستجد القصة في غاية المتعة، نوفل جد المطعم كان على خلاف مشهور مع عبد المطلب جد النبي، عندما كان عبد المطلب ضعيفاً ولم يكن لديه أبناء اعتدى نوفل على ابن أخيه وسلَبَه مجموعة من المزارع والأراضي فحاول عبد المطلب أن يستعيدها فلم يقف معه أحد من مكة لينصره ضد نوفل القوي، فأرسل عبد المطلب إلى أخواله من بني النجار ٠ وهم من الخزرج) في يثرب، فجاء سبعون من أخواله من بني النجار الذين هم من الخزرج من يثرب في موسم الحج ، ومعهم سلاحهم، فعلقوا السلاح في الحرم وقالوا يا نوفل إما أن تعيد الأراضي التي أخذتها من ابن اختنا وإلا قاتلناك، فخاف نوفل وأعاد الأراضي لعبد المطلب.
ما دخل خزاعة في الموضوع؟
خزاعة كانت تعادي قريشا عموماً لأسباب تاريخية معروفة ، عندما رأت عبد المطلب قد وقف ضد قريش ونصره أخواله من بني النجار جاؤوا إليه ووقعوا معه حلفاً، فصار عبد المطلب حليف خزاعة.
ماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إذاً؟
أرسل واحداً من خزاعة حلفاء جده عبد المطلب إلى حفيد نوفل!
فلما قال الخزاعي للمطعم أن محمدا يطلب أن يدخل في جوارك، فهم المطعم مغزى اختيار الخزاعي رسولا وفهم مغزى الرسالة كذلك، فهم أن لدى النبي خيار اللجوء لأخواله من بني النجار أو لحلفاء جده من خزاعة، فآثر المطعم أن يقوم هو بالمهمة. إذن سخر النبي شقوق التاريخ لمصلحة الدعوة، ولو لم نكن نعرف قصة اختلاف نوفل مع عبد المطلب لظننا أن اختيار النبي للخزاعي كان عشوائيا.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدرك تفاصيل المشهد ويستفيد منها ويوظفها وهذا أيضاً يؤشر إلى أن فكرة الهجرة إلى يثرب التي تحققت بالفعل بعد ثلاث سنوات، كانت قديمة في ذهن النبي.
أي أن النبي لم يخطر بباله فجأة أن يهاجر ليثرب فقد كان حاضراً في وعيه أن أخواله (أو أخوال جدّه) من الخزرج هم خيارٌ مقبول لكي يمنحوه الحماية المطلوبة .
ولذلك أنا أُعيد مسألة الهجرة ليثرب إلى تلك الأيام القاسية التي قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعد الطائف، فقد قضى أربعة أيام في الطريق إلى مكة ويُقال أنه أقام قريباً منها حتى بعث هذا الخزاعي وعاد له بضمان الأمن من المُطعم بن عُدّي.
إذاً فكّر معي، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في غاية التوفيق في فهمه لتفاصيل الأمور وفي توظيفها، إذاً تخطيطه مع أصحابه صلى الله عليه وسلم كانت أيضاً بإدراكٍ عميق لموازين القوة ولتفاعلات التحالفات والائتلافات بين القبائل والعلاقات، وكان يوظف كل ذلك لخدمة هذا المشروع الرسالي الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- عليه فالجهد البشري فيه كان كبيرا ومتقنا، وعملية التفاعل مع الواقع كانت متواصلة، ومن هنا نستطيع أن نقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أُسوة لنا، لأن هذا النبي تفاعل مع الواقع وتفاصيله الكثيرة وأخرج منها تناقضات وشقوق وظفها في استراتيجيته لذلك استطاع أن ينتصر في نهاية المطاف.
المبادرة «حينما يُؤمن الإنسان بأنّ المستقبل له!»
النقطة الرابعة هي المبادرة الدائمة، عندما تكون متفائلا بأن المستقبل لك تسعى إلى المبادرة، فالمنكفئ على الماضي لا يبادر، بل يحاول تعطيل المبادرات.
عندما تضعف وتخسر ربما يخطر ببالك أن تستسلم أو تساوم، وكلنا يمر بهذه المرحلة في وقت ما، سواء في الوظيفة أو التجارة أو الحياة العامة أو حتى الصراع السياسي، وهذا يسبَّب خذلانا كبيرا لقضايانا الشخصية ولبعض القضايا العامة التي نعيشها في العالم الإسلامي، فلماذا ينكسر الإنسان ويتخاذل؟
لضعف رؤيته للمستقبل، ولغياب البعد الرسالي في عمله، فهو لا يشعر بأن ما يقوم به هو لمصلحة متعديّة لزمن وجوده وعمره وحياته ويفكر بكل شيء بواقعية براغماتية آنية، لحياته ومصلحته، وعندما يفكر الإنسان بكل شيء لحياته ومصلحته وزمنه الذي يعيش فيه فقط يكون متشائماً.
الفكرة المادية الوضعية فكرة متشائمة تماماً، لأن الشخص في الأغلب لن يحقق كل ما يريد في حياته، وطمع الإنسان ينمو مع الزمن، ولذلك تكون لديك مشكلة النهم الدائم نحو المزيد، عندها لا نحقق ما نطمع في تحقيقه، لأن موازين القوة ومعادلات التدافع تتداخل وتحد من تحقيق كل ما يصبو إليه الإنسان،و كلما ازداد غناك أو ثروتك أو سلطتك تواجه تحديات أكبر وتقع في دوامة التشاؤم هذه.
لكن التفاؤل الوجودي المتعدي زمنياً هو في الحقيقة ما يخلصك من هذا الأمر لأنك تبدأ بالتفكير ليس فقط لمصلحتك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفكر فقط في مصلحته ومصلحة زمانه بمعنى أن كل فعل كان يقوم به يعرف أنه يبني أُمة، وهذه الأمة ستأتي من بعده، ولذلك إما كان فعله تشريعاً فهو يأخذ أيضاً اعتباراً للأمم القادمة حتى لا يقعوا في حرج على سبيل المثال ولذلك لم يكن يفعل بعض الأشياء حتى لا يأخذها الآخرون مستقبلاً فتضر بهم أو تؤثر عليهم، وأحياناً بعض القضايا السياسية كان يقوم بها أيضاً من أجل نفس الفكرة، أنه يبني مشروعاً بعيد الأمد وليس مشروعاً سريع القطاف والإنجاز.
كانت المبادرة عند النبي عليه الصلاة والسلام ظاهرة في كل مكان، لم يكن يسمح أن يقع هو في رد الفعل بل دائماً كان هو المبادر، فيجد الخصم نفسه في دائرة رد الفعل، وهنا سيأتي شخص يقول لي في معركة بدر لو لم يبادروا النبي بالهجوم لما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ليحاربهم ، وهذا كلام غير دقيق، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قبل بدر سيّر على الأقل سبع سرايا لاعتراض قريش، بدءاً بسرية "سيف البحر" التي بدأت قبل سنة من معركة بدر وانتهاءاً بسرية "نخلة" التي قُتل فيها أحد كفار قريش في قافلة صغيرة كانت متجهة للطائف. وكان الهدف من هذه السرايا اعتراض قوافل قريش، وقريش من دون تجارة ستخبو وتنهار.
لذلك قريش لما خرجت لحماية قافلتها التي كانت مع أبي سفيان خرجت متثاقلة، ولم يكونوا سعداء، فقريش ليست قبيلة تحب القتال، إنما هم تُجار، والتجار يحبون دائماً الاستمتاع بما لديهم والمحافظة على قدر عالٍ من الأمن للتجارة، لكن لما رأوا أن تجارتهم قد بارت وأن قوافلهم قد انقطعت وأن سرايا النبي تجول الساحل وتقطع عليهم طريق تجارتهم هنا اضطُروا للخروج في هذه القافلة بالتحديد، قافلة أبي سفيان، التي كان فيها خمسون ألف دينار وهي القافلة السنوية الأكبر، وكل أهل مكة تقريباً كان لهم فيها تجارة ، إ فمبادرة النبي إلى اعتراض القافلة استدعى رد فعل قريش، ولا أظن أن النبي لم يكن يتوقع ذلك، بل توقعه ورآه واستعد له.
علِمَ النبي أن قريشا تقوم على ركنين أساسيين التجارة والبيت -الحرم- كما قال الله تعالى في سورة إيلاف -قريش- ولذلك اعترض هذه التجارة فجاءت غزوة بدر، إذاً غزوة بدر ردُّ فعلٍ على المبادرة النبوية.
حسناً، ماذا عن غزوة أُحد؟ هل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعلم بأن قريش بعد أن قُتِلَ كبار سادتها وأُطيح بهم ستأتي من أجل الثأر؟ هو يعلم البعد القبلي ويعلم أن قريشا لم يُفك عنها الحصار الاقتصادي وستحاولُ مرةً أُخرى فأُحُد أيضاً كانت امتدادا لبدر لأنها كانت نتيجة اختلال موازين قوة حدث في بدر بالنسبة لقريش ونتيجة للسرايا الكثيفة التي سيرها النبي بعد بدر لتعزيز النفوذ الأمني للمدينة ومواصلة حصار قريش، فلابد أن يردوا اعتبارهم بين قبائل العرب ولابد أن يرفعوا الحصار لأنه ما زال مستمرا في الساحة وهي مشكلة كبيرة جداً.
ثم بعد أُحُد اكتشفوا أن شيئاً لم يتغير بالرغم من قتلهم لسبعين من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم لم يستعيدوا حريتهم في السفر عبر الصحراء، وكان هناك طريقين مهمين جداً لمكة هما طريق "سيف البحر" الذي يذهب للشام، وطريق "النجد والنجدية" هذه تمر بالقرب من المدينة وتذهب لتبوك والطريقين تم قطعهما، فذهب المشركون إلى المدينة، وكانت معركة الخندق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صبر وصمد وثبت هو وأصحابه في الخندق ثم انهزم المشركون ولم يستطيعوا أن ينتصروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهنا هُزمت استراتيجية قريش تماماً، وفقدت المبادرة وليس بجعبتها أي فعل جديد .
خسرت قريش لأنها استندت إلى إستراتيجية ردة فعل، فالمبادرة كانت بيّد النبي وليس بأيديهم، فلم يستفيدوا شيئاً ، بعد إفلاس استراتيجيتهم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمبادرة الرئيسية، وهي مبادرة مختلفة تماما في نوعها عن المبادرات ذات الطبيعة العسكرية السابقة، مبادرة مدهشة وذكية : الحديبية!
إن أردت أن تفهم المبادرة النبوية الصافية على وجه التحديد فهي الحديبية، في الحديبية لم تكن قريش في وضع يسمح لها برد فعل عنيف، لقد قرر أن يذهب للحديبية فوضعَهُم في الزاوية، وجعلهم في ورطة حقيقية، وأجبرهم على خيارين: إما السماح له بالعمرة، وفي هذه الحالة قريش ستشعُر بالمهانة لأن محمدا الذي حاربها سيدخل مع جماعته للعمرة غصباً عنهم، والخيار الثاني أن يتفقوا معه على هُدنة وهو الذي حدث.
إذاً النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي بادر وخطط للهدنة، و قريش لم يكن لديها خيار، فالنبي يعرف أن قريشا لم تكن تستطيع أن تمنع الحاج والمعتمر من دخول الحرم، لأن ذلك يخالف ما تعارفت عليه قبائل العرب.
ويعلم أنهم لو سمحوا له بالدخول فسوف يشعرون بالإهانة، لقد أوقعهم في ورطة: سيُهانون لسماحهم بعدوّهم بالدخول، وإن منعوه ستحدث لهم مشكلة، لأن كل قبائل العرب ستقول لهم هل البيت لكم؟َ!
فما كان من حقهم منع أحد فمما عُرفَ في جزيرة العرب أن قريشا لا تملك حق منع رجلٍ أو امرأةٍ من الحج أو العمرة ، فكانت قريش تعرف أن الميثاق الذي بينها وبين العرب في حمايتها للبيت الحرام وسدانة الكعبة أنها لا تمنعُ شخصاً من العمرة إن أرادها فهي مسألة محرمة عند قبائل العرب، فإن انتشر خبر أن جماعة محمد مُنِعوا من العُمرة وهم ذاهبون إليها مرتدين ملابس الإحرام ويسوقون الهَدّيَ فستحدث مشكلة استراتيجية بالنسبة لقريش بين قبائل العرب.
لقد أوقعهم النبي في ورطة ثم أخرجهم منها بأن قدم لهم الحل: الهدنة!
لذلك كل ما يتعلق بتعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته مع قريش وقبائل العرب وما يتعلق باستقباله للتائبين والوافدين إليه بعد أن آذوه أمثال صفوان بن أُميّة وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، كل هذه التعاملات كانت تقوم على مبادرته إليهم وهذا مبدأ رئيس في استراتيجيته.
المبادرة «الاستيعاب بدل الاستئصال»
النقطة الخامسة أيضاً في منهجية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تحويل التفاؤل إلى منهج عمل أنه كان يحاول دائماً استيعاب العدو بدلاً من استئصاله، الاستيعاب دائماً.
ولذلك نجد أن النبي استوعب المدينة المنورة من خلال صحيفة المدينة ومن خلال المؤاخاة، وبعدها قبائل الساحل التي تتكون من خزاعة وجهينة وغفار وضمرة، وقد كانت جميعها على طريق قوافل قريش، في طريق البحر الأحمر، وقد وقّع النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم اتفاقيات في السنة الأولى من الهجرة، ثم بعد ذلك ناوش النبي وحارب غطفان لكن في الأخير استوعبها ودخلت معه إلى مكة.
وبالنسبة لبني سُليم الذين قتلوا من الصحابة الكثير بعد أن غدروا بالمؤمنين في بئر معونة، استوعبهم وأدخلهم معه مكة، وكل قبائل العرب الأخرى التي تقارب السبعين قبيلة جميعها انتهى بها المطاف بأن استوعبها النبي علماً أن بعضها قد فعل الأفاعيل واستمر في فعلها مثل عُيينة بن حصن زعيم غطَفان الذي لم يحسُن إسلامهُ حقيقةً حتى أثناء حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره من قيادات بعض القبائل.
ما أريد قوله أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى مع المنافقين الذين بينه في المدينة المنورة كانت سياسته في غاية التوازن الاستراتيجي، بمعنى أنه كان يعلم أن هؤلاء المنافقين لديهم جمهورهم فلم يشأ أن ينشئ فتنةً قبلية داخل المدينة ولا يريد أن يتسامع الناس بأن محمداً يقتُلُ أصحابه وقد كرر هذه العبارة على عمر -رضي الله عنه- عدة مرات عندما طلب عمر قطع رأس عبد الله بن أُبي بن سلول زعيم المنافقين.
هذه المسألة جوهرية ولننظر ماذا فعل مع عبد الله بن أُبي؟ استمر معه في خُلقٍ حسن إلى أن مات في السنة التاسعة بعد تبوك وكفَنّهُ ودفنّه وصلى عليه وبعدها نزلت الآية التي منعت أن يصلي أو يقوم على أحدٍ مات منهم، لكن طوال هذه الفترة راعى ألّا يدخل معهم في صدام وكانت هذه الاستراتيجية الاستيعابية هي التي نجحت لأن كل جماعة عبد الله بن أُبي بن سلول بعد وفاته التحقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
سيسأل سائل لماذا كان النبي مع عبد الله بن أُبي بن سلول ليّناً وقتَلَ كعب بن الأشرف وسلام بن مشكم وغيرهم ؟
ذلك شيء مختلف تماماً فعبد الله بن أُبي بن سلول كان ظاهرة صوتية لا قيمة لها، كثير الكلام قليل الفعل، وليس خطرا أمنيا، فكان يتكلم ويُظهِر الإسلام لكن الصحابة يعرفون كل تفاصيل حياته بل إن بيته مُخترق لأن عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول كان من خيار الصحابة وهو ابنه الذي يعيش معه في داره فيعرف بالضبط حدود ما يقوم به عبد الله بن أُبي بن سلول ، لكن فيما يتعلق بكعب بن الأشرف فكان جزءًا من منظومة أمنية واسعة حيث كان متصلا بقبيلة بني النضير التي طردها النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرجوا لخيبر وبدؤوا بإعداد العدة وتواصلوا مع قريش وقاموا بإجراءات أمنية وعسكرية.
فكعب بن الأشرف كان جزءًا من منظومة أمنية تقوم على محاربة الإسلام والمسلمين وجودياً والتفاعل مع أعداء المسلمين وجلبهم من أجل معركة كبرى ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- استهدفهم.
لكن بالنسبة لشخص كان كثير الكلام، والنبي يعرف عنه كل شيء، فلا داع لقتله، لأنه يعرف أن قتله سيؤذي الكثيرين من أتباعه قبلياً، لأنه كان زعيم قبيلة كما نعرف، ولا يريد النبي الدخول في صراعات قبلية في المدينة، فخطره محدود ولا يستحق أن يتحول إلى أزمة بعيدة المدى وخيمة العواقب.
بعد تبوك تغيرت موازين القوة ومات عبد الله بن أُبي بن سلول ، وحسُنَ إسلام كثير من اتباعه، وأيضاً بدأ القرآن الكريم في سورة التوبة يشدد في موضوع المنافقين ويقصيهم بشكلٍ واضح ويفضحهم ولذلك سُميّت التوبة بالفاضحة. كل شيء في وقته ووفق ميزان حكيم.
«رفع السقف» نحو عالمية غير حاضرةٍ في الأذهان
النقطة الأخيرة هي أن الوعي الجمعي لصحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان وعياً متفائلاً، فالنبي كما نعرف في عدة مناسبات كان يوسع آفاق المسلمين باتجاه العالمية، وقد ذكرت لكم قصة خباب بن الأرت في مكة وقول الرسول له: "والله ليتمّنَ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه".
وعندما هاجر النبي مع أبي بكر -رضي الله عنه- وطارده سُراقة بن مالك محاولاً أسره واعادته لقريش ليحصل على الجائزة التي أعلنتها قريش لمن يُحضر النبي، فالنبي هناك وعده بسواريّ كسرى، وكان وقتها في حال سراقة أن يقول عفواً أنت الآن لا تستطيع الذهاب لوحدك ليثرب وتعدني بسواري كسرى!
وقد حدث ذلك طبعاً في زمن عمر -رضي الله عنه- عندما فُتحت كنوز كسرى وجيء بسواري كسرى وكانا شيئاً عظيماً جداً عند العرب ، يتسامعون عنهما ممن زار إيوان كسرى، فلما ذكرهما النبي لسراقة قال سراقة اٌكتب لي بذلك، فكتب له خطاباً بذلك -عليه الصلاة والسلام- كتبه أبو بكر، ثم بعد ذلك في الخندق، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان محاصراً وقد كانت الخندق من أشد ما واجهه المسلمون في حياتهم حتى أنهم بدؤوا يشعرون بالحصار من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون!
هنالك أُبتليّ المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وفي هذه الواقعة تحديداً وبينما كان النبي -عليه الصلاة- والسلام يحفر بالخندق ويضرب ويقول الله أكبر فُتِحَت قصور كسرى! الله أكبر فُتِحَت قصور هرقل! الله أكبر فُتِحَت اليمن!
الآن نحن في وضع بالكاد نحمي فيه أنفسنا والنبي يعدهم بفتح عواصم الدنيا!
النبي عليه الصلاة والسلام أسس ذلك الوعي الجمعي للمسلمين بأن المستقبل ملك لهم وبأن الإسلام سوف يعم العالم، والشيء العجيب أنه لم يأتِ ويقول لهم الله أكبر فُتحَت مكة ! أو الله أكبر فتحَت الطائف أو خيبر وغيرها من مدن الجزيرة، بل رفع السقف إلى المُدن العالمية! التي تعتبر رأس هرم القوة والسلطة في العالم في ذلك الوقت، الفرس والروم القطبان العظيمان في ذلك الوقت.
هذا كله رفع للسقف واتساع للنظر، فالوعي الجمعي للصحابة كان قد بني على أساس عالمي منذ الأيام الأولى للدعوة، لقد وعدهم بعالمية لم تكن حاضرة على الإطلاق في أذهانهم من قبل.
كان أكبر نصر للعرب قبل الإسلام في معركة ذي قار وسأحكي لكم هذه القصة التي بحثت عنها في التاريخ كثيراً، معركة ذي قار على الأرجح أنها وقعت قبل البعثة أو في أيامها الأولى عام 609م أو 610م والنبي -صلى الله عليه وسلم- بُعثّ 610م.
كانت بسبب خلافات ما بين قبائل بني شيبان والحكم الفارسي على العراق وحدثت مناوشات فيما بينهم، وكانت هذه المعركة صغيرة جداً وخسر فيها العرب في نهاية المطاف، صحيح أنهم قاتلوا ببسالة، وهذا كان شيئا عظيما عند العرب، أنهم وقفوا ضد الفرس، وفرح أهل مكة وكل الناس لهذا الخبر العظيم، لكن في النهاية خلاصتها أن الفرس تخلصوا من حكم النعمان بن المنذر وأحضروا أحد عملائهم ونصبوه على الحيرة في ذلك الوقت وكانت سيطرتهم مطلقة.
العرب لم يكن لديهم هدف استراتيجي بمغالبة الفرس والروم على نطاقٍ أوسع من هذه المناوشات التي تمت على أطراف الصحراء، كان أكثر ما لدى العرب أن يسترضوا الفرس من أجل أن يعطفوا عليهم في اليمن التي كانوا يسيطرون عليها سيطرة تامة وفي العراق، ويسترضوا الروم في بلاد الشام لأن حواضر العرب خارج البادية كانت اليمن التي تحت الاحتلال الفارسي كذلك العراق تحت الفرس والشام تحت الروم، والعرب كانوا وكلاء عن هذه الدول يحاربون ويقاتلون من أجلها ويتفاعلون معها وهي التي تحدد لهم كل شيء وبالنهاية هم سعداء بإرضاء ملوك فارس والروم ولكنهم لم يطمحوا يوماً بإقامة حضارة عالمية تؤول إليها أراضي بلاد فارس والروم واليمن والحبشة.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سيكولوجياً زرع في أذهان الصحابة منذ اليوم الأول أنهم لن يكونوا خاضعين لسلطة هذه الكيانات العالمية، بل هم من سيخضعها لسلطان الإسلام، ولا يدربون فقط من أجل مشروعٍ محدودٍ صغيرٍ في جزيرة العرب أو الحجاز أو نجد وإنما هم سيكونون سادةً لحضارةٍ تملأُ العالم رحمةً وعدلا، وهذا المشروع فيه تفاؤل كبير فأنت لا تستطيع أن تقنع شخصا بأنه سيفعل هذه الأشياء يوماً إذا كنت نفسياً تشعر بأنك لن تحقق هذا أو أنك منهزم، لكن الرسالة هي الأساس. وأعيد مرة ثانية أنك إذا تحدثت عن النبي كاستراتيجي عظيم فهذا صحيح، تتكلم عنه كقائد عظيم فهذا صحيح، كسياسي عظيم فهذا صحيح، لكن لا تنسَ أنه قبل كل شيء هو النبي صاحب الرسالة!
هو لم يعمل بأدوات الاستراتيجية والرسالة كما فعل معاصروه من الساسة من بلاد فارس أو أكسوم أو اليمن أو بيزنطة، بل جاء بمفاهيم جديدة منسجمة مع الرسالة التي جاءته من السماء، لم يشتغل بالسياسة كما كان يشتغل بها أمراء الجزيرة العربية فقد كان عندنا أمراء وملوك في كنده ودومة الجندل وطي وعمان والبحرين واليمن، بل اشتغل بالسياسة بوعيٍ أنه صاحب رسالة ومنهجية جديدة استقاها من هذه الرسالة.
فعندما نقول أنه استراتيجي لا نقصد أنه استراتيجي بمعايير ذلك الزمن أو بمعايير زماننا بل بمعايير جديدة اشتقها واستقاها من الأصل وهو الرسالة، وهذه نقطة في غاية الأهمية للذين يدرسون الدراسات المتعلقة باستراتيجيات النبي -عليه الصلاة والسلام- أو بالمبادئ التي زرعها في الاقتصاد أو التي زرعها في الإدارة أو ما إلى ذلك.
لابد أن نفهم أن المبادئ التي جاء بها كانت جديدة على الإنسانية لأنها مستقاة من الرسالة الخاتمة التي تقول للعالمين أنه رحمةٌ للناس أجمعين حتى قيام الساعة.
وجزاكم الله خيراً والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.