ليس بالخافي ولا المُريب أنّ العالم الإسلامي اليوم يمر بأزمة حضارية، ما عاد هذا مدعاةً للتجادل ولا حتى اشتكاء عَوز البيان الذي صار من نافلة القول، لكن تفكيك بنية هذا الواقع المُر المُعقد في كلّ تفاصيله قد أخذ عدة مناحٍ، سواءً بقراءة تقسيمات الواقع السياسية، الاقتصادية والاجتماعية أو قراءته بالمقاربة المكانيّة المحدودة، نادرًا ما نجد قراءة هذه الأزمة كجزءٍ من أزمةٍ أعمق وأوسع مكانيًا وزمانيًا، بل غالبًا ما يتم اعتبار الآخر محلّ المقارنة كونه مُلهمًا حضاريًا ومقياسًا للتحضّر!
نصحبكم في مسارٍ مُختلف، للتأمل في صورةٍ كليّة لامتدادات هذه الأزمة، سيولةً، تنافرًا، حُروبًا ومآسي، كنّا في رقعتها العالمية طرفًا مغلوبًا دائمًا، أما في رقعتنا شقين غَالبٌ ومغلوب!
 

تهدف هذه السطور إلى تعميق الفهم بالأبعاد الخمسة الرئيسة للأزمة الحضارية التي نظّر لها المفكر الدكتور أحمد داوود أوغلو[1]، حيث ننفرد بالإجابة على جملةٍ من التساؤلات والإسقاطات الواقعية التي تُقرّبنا أكثر لموقع أزمتنا في الإطار الكلي للتحولات الحضارية.

الأمن الوجودي.. كيف اغتالت الأنظمة حُلم الحرية الوردي الذي أتى بها؟

الحرية مطلب إنساني أزلي وهدف سامي تسعى إليه الأمم قاطبةً على أمل تحقيق الأمن الوجودي المُطلق كضامنٍ له، وباستنطاق واقعنا المعاصر.. أكان المطلب حقًا في نطاق الإمكان أم دُون ذلك؟
تعتبر مأسسة الأنظمة السياسية وما تفرع عنها الوسيلة العملية التي استحدثها العالم لتحقيق حُلم الإنسانية في أن يحيا الإنسان حُرًا آمنًا مُكرمًا بالوعي، تقتنع الشعوب بأفضلية هذه الوسيلة حينما تتوحد الرؤى الفردية والجماعية التي تزيده قُربا للهدف وتمتعًا بالتحضّر، إلّا أنّ واقع الأنظمة السياسية أضحى اليوم إشكالية حضارية سقيمة، إذ اتسمت بالتيهان والدكتاتورية وأمعنت في الإذلال لا الإكرام، وفي نشر الذُعر بدل بسط الأمان. 
        عند تتبع محطات الإنسان الغربي التي مر بها في سعيه لإحقاق الحرية المطلقة، ندًا للسلطة الكاثوليكية وجور الإقطاعيّة، نجد أنه قد انطلق من تهيئةِ بنيّة معرفية لعبت فيها ثنائية (العقل – العلم) سحرًا تنويريًا، فكان الأول مصدرا للحرية الوجودية، والثاني أداةً مادية لتشكيل بنيّة مجتمعية ترعى هذا التحول وتكون جزءًا فاعلًا فيه، والثورة الصناعية عاملٌ مهمٌ رسخ بُعدًا جديدًا للاستعباد بين السيد الذي يتحكم بشتى المقدرات والعبد في حلّة جديدة، من استرقاق الماكينة امتدادًا إلى استرقاق شعوب بأكملها! أما "الليبرالية" فجاءت كضمان إيديولوجي لمفهوم الحرية.  
عزز كل هذا من التصور النفسي بوجود جنّة دنيوية يتنعم فيها الإنسان الغربي، غير آبهٍ إن حوّط نفسه بنيران جهنم، غير مترددٍ في إضرامها إن تطلب خُلود نعيمه، فوصل حدّ انتهاك السلطة الألوهية بتأليه نفسه، ومدّ بصره ويده إلى ما مُتع به أقوام آخرون، فنشأ النظام الاستعماري الغربي، وصار عالمنا الإسلامي تحت همجية الأطماع فكلما شبعت زادت جُوعًا.

شكل هذا تهديدًا حقيقيًا للحرية تكشفَت فيه عورات الحضارة الغربية التي تشابكت داخليًا في حربين عالميتين أظهرت وجوهًا لا إنسانية قبيحةً متناطحة تغوّلت على الكيان الذاتي للإنسان الذي كان ضحية عجزهم في التحكم فيما أنتجوا من تقنياتٍ مُدمرة جعلت الجحيم أقرب ما يكون إليه من الجنّة الدنيوية. فأدى بنا هذا إلى فُقدان الثقة قطعًا في بلوغ "حُلم الحرية" الذي اسْتُحدث لأجله نظامٌ انقلب عليه أوّل ما تمّكن!  
 

      يُستدّل على عدائية هذه الأنظمة اللاأخلاقية بالتطور التاريخي لآثار الحروب التي بدأت تقليدية محدودة الأثر على أرض المعركة إلى نطاق تدميري أوسع بكثير يضّر بالجيل المعاصر لها، ويمتدّ للأجيال اللاحقة التي تتحمّل أوزارًا لم تقترف فيها إثمًا، وصارت الحروب مُقننةً تتمّ بقراراتٍ لا إنسانية إلّا أنها تحظى بشرعية التصويت "الديمقراطي" وبتنفيذٍ من نظام يدعي "العقلانية" لتكريس الهيمنة ولتدعيم أباطرة الاقتصاد العالمي بضخ المزيدِ من الموارد والغنائم!
إذن، الأمن الوجودي والحرية المُطلقة ليسا رهينة آلية ديمقراطية مثالية ولا منظومة عقلانية متعالية، إنّما هُما نتيجة حتمية لرؤية العالم من منظور الأقوى لا بمنظور الإجماع ولا بمنظور الأصلح!

إقطاعية هذا الزمان.. كيف يفهم العالم الحرية؟
"الديمقراطية الليبرالية تستبدل الرغبة غير العقلانية لاعتبار الذات أفضل من غيرها برغبة عقلانية لاعتبار الذات مساوية للآخرين." فوكوياما
     

  الإقطاعيّة منهي عنها ظاهرًا ومنتهية ادعاءً، إلّا أنّ تحرير الرّق ظّل ظاهرة مستشكلة في مفهوم قاصرٍ للحرية قدمته الأنظمة الليبرالية كمتغيّر نسبي، للمساواة كثابت، دون انتهاج أي تصور أساسي مُطلق! حيث ينزوي كلّ فرد أو جماعة في عملية قياس مساحات الحرية المتاحة له مقارنةً بحُرية الآخرين أو الجماعات، فهل حقق هذا النموذج الغربي ومؤسساته البنيوية مساواةً حقيقية؟
إنّ تلبيس الحرية ثوب النسبية، وربطها ببعدٍ واحد من أبعاد الوعي الذاتي "المساواة" في تحييدٍ مقصود للأبعاد الوجودية الأخرى، ساهم في تدهور الحرية، حيث فرض التطور الرأسمالي سادةً واستعبد الرّق مُجددا كعبيدٍ للتقنيات الصناعية، فرض هذا قانونا خاصًا يحكم العلاقات الإنسانية، فصار من المستحيلات الإقرار بإمكانية إقامة ديمقراطية عالمية تُنظم شؤون الحضارات وتُحقق الحريات، من قِبل أسرى الليبرالية الحديثة التي أفلحت في طن آذاننا برفع الشعارات فحسب، وبداخلها غولٌ ينهب المقدرات ويسحق الوجود الإنساني للآخر.
على سبيل تقريب المعنى، فإنّ العالم بإقطاعيته المعاصرة، لا يُلقي بالًا لوبال العفن النووي الذي يُصّنعه في سبيل ضمان الأمن الوجودي، كيف يُبرر هذا النظام الظالم تهريب نفاياته الخَطرة إلى دول العالم الثالث؟ 
على ضرر الإشعاع النووي الذي يلازم النفايات، إلّا أن الساحل الشرقي للصومال اعتبر منطقة مميزة للتخلص من النفايات النووية، بل وتجري عملية التفريغ بإغراق السفن عن إصرار وتعمد!

كما أنّ الحروب التي شهدها العالم الإسلامي "كمكبٍ للنفايات النووية" أبشع أدلة للإدانة، نتذكر سويةً دفن النفايات المُشعة القادمة من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في الصحراء العراقية سنة 2003، وليس ببعيد الحروب الصهيونية الثلاثة على غزة وحجم المتفجرات والقنابل العنقودية والمواد السامة المُحرمة دوليًا، لم يُحرك المجتمع الدولي سوى ببيانات إدانة أكل الكيان جلّ حروفها، فعن أيّ أمانٍ يتحدث وإلى أي مساواة يسعى؟! تقوم تلك الممارسات العنجهية غير المحدودة مقام الشاهد على وأد حريتهم المزعومة مفهومًا وتطبيقًا.

 

كيف يُدرك العالم حُلم الحرية ليعمّ الإنسانية جمعاء؟
" الحرية كقيمة جوهرية لا يمكن عزلها عن الفضيلة." سيمون آر غرين
       

 نختم حديثنا عن نكبة حضارتنا في "الحرية والأمن الوجودي" بالحديث عن أثرها، على الإنسان الغربي المعاصر الذي شكّل نزوعه نحو السلوك الاستهلاكي هُوية ثقافية كميّة جعلته أمام "اغتراب ذاتي" لا مردّ له، وعلى عالمنا الإسلامي الذي صار منكوبًا وجوديًا، يتخبط بين قبضة الأطماع الاستعمارية أو تحت سوط الدكتاتورية الخادمة لذات الغرض.  
يقترح المفكر أحمد داوود أوغلو إجراءات تُساهم في إدراك الحرية الإنسانية، من خلال وضع دستور مدني، يتأسس على "بنية أخلاقية قيمية مُحددة ومطبقة عمليًا"، بحيث يكبح هذا نياط التحكم في مقدرات الإنسانية، دُون أن ينسف التطور التقني ومتطلباته.
لا ريب أنّ إرفاق المنظومة القيمية بالدستور المدني ضرورةٌ مُلحة، إذ أنّ النصوص تُداس إذا غابت الروح الأخلاقية الفاضلة التي ترعى تطبيقها.